21/07/2015 - 17:10

سرايا عابدين / أحمد دراوشة

فكم من "إم بي سي" في تاريخنا العربي والإسلامي نسميّها المؤرّخ العظيم فلان، وكم من "هبة مشاري حمادة" في تاريخها ننقل عنها الأحداث دون مناقشة، ونقدّم عنها الدراسات للجامعات وربّما ننال بها الشهادات، وندشّن باسمها الميادين والساحات..

سرايا عابدين / أحمد دراوشة

ربما تأخّر هذا المقال عامًا، لكنّ الأكيد، أن الـ 'إم بي سي' تبهرنا بالبرّاق من إنتاجاتها الضخمّة، عامًا بعد عام، التي تكلّف عشرات الملايين من الدولارات بين برامجَ ترفيه ومسابقات غنائيّةٍ ومسلسلات.

لم تسنح لي الفرصة أن أشاهد مسلسل 'سرايا عابدين'، الّا في وقت متأخر من هذا العام، نعم، أعترف أن الحلقة الأولى سلبتني عقلي ومعها في ذلك جودة التصوير الخياليّة بكاميرات متنقلّة ومشاهد واسعة، زد على ذلك البذخ الظاهر للعيان على ملابس الأبطال وحليّهم وكل ما يتعلّق بهم من إكسسوارات.

أُخذتُ بالعربيّة المطعّمة بالتركيّة وشخصيّة يسرى الخفيفة اللطيفة وهي تنده بأعلى صوتها: 'أدب يوك، أخلاق سيز'، ومن حولها أطقم الخدم والحشم، وزوجات الخديوي ينصعن لها وينقدن لمجرّد النظرة.

كل هذه الهالة المبشّرة بعمل فنّي راقٍ تذهب حلقةً بعد حلقة، حتّى إذا ما انتصفَ العمل وبدأت المؤامرات المفتعلة من قِبَل الكاتبة، باعترافها، تظهر للعيان، حتّى يبدأ المشاهد، الذي على درايةٍ بسيطة بتاريخ مصرَ، بالنفور، فإنه أمام استغلال قبيح لشخصيّات تاريخيّة بغرض فانتازي دراميّ بحت.

فخلاصة حلقات النصف الثاني من العمل كالتالي: الأمير فؤاد مات طفلًا مسمومًا بمكيدة أمّه الظالمة، الحاقدة على أبناء الخديوي، فمن ذا الذي حكم مصرَ عقدين من الزمان سلطانًا على البلاد أوّل أمره وملكًا لها آخر عهده، تغّنت فيه أم كلثوم 'أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعَ .... ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعَ'؟ تضجّ مواقع التواصل حينها بضجّة إعلاميّة على الخطأ الفادح، فتخرج المؤلفة الكويتيّة قائلًا بفخر: يحقّ لي ذلك!

أمّا الخديوي المعروف بدهائه تاريخيًا، باني مصر الحديثة، المتيّم بكل ما هو غربيّ، الذي عمّرّ مصرَ الحديثة جيشًا ونظامَ حكم؛ فهو ضحيّة مكائد زوجاته، فقد عاشر شقيقة زوجته التوأم، غجريّة الأصل، الأميرة صافيناز، حينًا من الدهر، قبل أن تعود صافيناز للبلاد وتتخلّص من شقيقتها وتتبنّى ابنها بمكيدةٍ كما غادرت البلاد بمكيدة؛ فابن الخديوي هنا ليس من صلبه، فقد ابدلته الخادمة ابنها ليصبح حاكمًا للمحروسة يومًا.

أمّا السلطان حسين كامل، حاكم مصر الشهير، فلم يترعرع في حضن أبيه، ذلك أنه ابن زنًى، عاش عمره في مدارس باريس الداخليّة، وأزقتها المليئة بالفاقة والجهل قبل أن يتبنّى أبوه بنوته، فيعود عاشقًا لعروس أبيه ليصبح في ما بعد، رغم ذلك، جناب خديوي مصر وغلّاب الأتراك؛ وهذا تاريخيًا محض كذب وافتراء.

لن أطيل الحديث عن الأحداث، لأنني لم أكمل مشاهدة العمل، فالتشويه العلني السافر الذي طرأ على حياة الخديوي إسماعيل، الذي مات قبل قرنٍ من الزمان وهي فترة قريبة جدًا، دون ضجّة إعلاميّة أو مكاشفة صريحة، يثير الأسئلة العظام حول تاريخنا العربي والإسلامي وأحداثه الكبيرة التي تتضارب حولها الروايات، من قصص تشيب لهولها الولدان، وأحداث تقشعّر لها الأبدان.

فكم من 'إم بي سي' في تاريخنا العربي والإسلامي نسميّها المؤرّخ العظيم فلان، وكم من 'هبة مشاري حمادة' في تاريخنا ننقل عنها الأحداث دون مناقشة، ونقدّم عنها الدراسات للجامعات وربّما ننال بها الشهادات، وندشّن باسمها الميادين والساحات.

وكم من 'إم بي سي' في تاريخنا، سبّبت ما نرى من اختلال واختلاف في نقل الروايات سبّبت شرخًا في العقائد والأفكار، مكوّنةً ما نراه من طرق وطرائق ومذاهبَ فاق عددها السبعين مذهبًا؟

وكم من 'إم بي سي' في تاريخنا، أشغلتنا بالبرّاق من الديباجة واللغة، وما يقابلها اليوم من إنتاج وتصوير، دون تدقيق في النصوص ومرجعيّتها، تصغّر عظامًا وتعظّم صغارًا، وتفتعل الشخصيّات والأحداث؛ وهو أمر في التاريخ، لو تَفَكَّرونَ، عظيم!

التعليقات