ناجي العلي: 18 عامًا على استشهاده ولا زال في أرض غريبة / نائلة خليل

-

ناجي العلي: 18 عامًا على استشهاده ولا زال في أرض غريبة / نائلة خليل
أخيرًا زرت ناجي العلي. كنت بحاجة لأعوام من الإنتظار ومعجزة كبيرة تنقلني من "مخيم بلاطة" إلى لندن. لم أحلم يومًا بأني سأمضي الذكرى الـ 18 لإستشهاد ناجي العلي على مقربة من قبره في منطقة "ووكنغ" في ضواحي لندن.

دومًا كنت في انتظار زيارة الفنان الفلسطيني الذي وضعنا رسوماته منذ الصغر على ملابسنا. لا زلت مفتونة بـ"حنظلة"، الطفل الذي اعتقدته منذ زمن طويل بأنه أحد الشخصيات التي ابتكرها العلي. إحتاجني الأمر سنوات كي أفهم أن حنظلة هو ناجي العلي ذاته حيث توقف به الزمن في سن العاشرة عندما طرد وعائلته من قريته "الشجرة" التي هجّر أهلها في العام 1948.

سأغتنم عطلة نهاية الأسبوع، تحديدًا يوم 28/8، لأنتقل من مقاطعة "ويلز" حيث ألتحق بمعهد "تومسون فاونديشن" للصحافة مع صديقتي الأردنية، ميادة عمار، لنكون بضيافة صديقة فلسطينية أسمها عائشة أحمد، طالبة ماجستير في جامعة لندن.

أقول لعائشة: "أريد أن أزور ناجي العلي، فهذه أمنيتي، أريد أن أقرأ الفاتحة وأضع قرنفلاً أبيض على قبره".

تتحمس عائشة للفكرة، مع أنها في سباق مع الزمن لأنجاز رسالة الماجستير، ومع هذا توافق من دون تردد. فهي بالنسبة لي "آنسة خارطة"، حيث تتحرك في لندن بالضبط كما في رام الله بسهولة... تربكني عائشة.

تسأل ميادة ببراءة: لماذا دُفن ناجي العلي في لندن؟ فأجيبها: "عندما اغتالوه في 22/7/ 1987، بمسدس مع كاتم للصوت، ظلّ في صراع مع الموت 38 يومًا وينتظر في المستشفى السماح بدفنه في قريته "الشجرة". وعندما رفضت إسرائيل ذلك رفضًا قاطعًا وفي ظل علمه بصعوبة نقله إلى حيث يرقد والداه في مقبرة مخيم "عين الحلوة" استسلم للموت في 29/8/1987".

"ولمّا كانت لندن لا ترحب كثيرًا بالغرباء، وتصّرعلى ضرورة "الحجز مسبقًا" حتى للقبر، دفن في 3/9/ 1987".

لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن ناجي العلي مدفون"دفن أمانة" في لندن إلى حين عودته إلى بلدته "الشجرة" ليدفن هناك نهائياً.

في لندن عرفت فائدة أخرى للإنترنت، حيث بإمكاني البحث عن مكان قبر ناجي العلي (من المؤكد بأنّ من اخترع الإنترنت لم يفكر في أن الفلسطيني سيستخدمه في البحث عن القبور)، أنسخ المعلومات بدقة، ناجي العلي دفن في مقبرة "بروك وود" في ضاحية بعيدة عن لندن تدعى" ووكنغ": رقم القبر230190.

أصبت بغصّة من رقم القبر، فلا يمكن لرجل عاش طوال عمره يتحرش بمصيره أن يُعّلم قبره برقم!

نغادر منزل عائشة بواسطة الباص إلى محطة القطارات. نشتري الورد ومن ثم نتجه إلى "ووكنغ". هي نصف ساعة حتى وصلنا إلى الضاحية البعيدة الهادئة. ركبنا الباص إلى "برووك وود".

تسأل عائشة سائق الباص:"أين الطريق إلى المقبرة؟"

السائق الذي شاهد ثلاث فتيات محجبات يحملن الورد، لا يتردد بمساعدتنا، فهو يعتقد جازمًا بأننا فقدنا أخاً أو قريبًا عزيزًا منذ فترة قريبة، ولا بد من مواساتنا!

بعد نصف ساعة أخرى بالباص، يصف لنا السائق "خارطة الطريق" إلى المقبرة لنكمل طريقنا مشيًا على الأقدام. نغادر الباص وننسى جميع أوراقنا التي تحتوي على المعلومات عن القبر!

كانت أكبر مقبرة شاهدتها في حياتي: ضخمة جدًا لدرجة أنّي شعرت بأني أمشي داخل غابة من القبور. كنا ثلاثتنا نبحث عن ناجي العلي.

كنت أمّر بقرب قبور اعتلتها إشاره الصليب. أبتسم وأنا أتذكر رسمًا لناجي العلي أيام الحرب الأهلية في لبنان حيث القرآن والصليب معاً.

أكثر من ساعة ونحن نبحث أنا وميادة عائشة. كنت أمشي في المقبرة الضخمة بعباءتي السوداء وأتنقل من شاهد قبر إلى آخر، مثل شبح لكن بلا فائدة.

قلت لعائشة: "سنجده حتى من دون معلومات عن القبر، أنا أثق بحاسة الشهداء في التعرف على من يريدون".

نتذكر أنّ قبر ناجي العلي موجود في الجزء الإسلامي من المقبرة، ونبدأ رحلة البحث من البداية.

في طريق الصدفة نرى عائلة إيرانية جاءت بسيارتها لتزور المقبرة، وتدلنا على الجزء الإسلامي.

"المقبرة الأحمدية الإسلامية"، هذا هو الجزء الإسلامي من المقبرة، ونبدأ بالبحث مجددًا. هذه المرة رأينا قبورًا إيرانية وأخرى عربية وهندية مزينة بآيات من القرآن ، لكن أين ناجي العلي؟

أخيرا صرخت عائشة: "وجدت ناجي العلي".
"يا إلهي أخيرًا"، ركضت حيث صرخت".

نعم إنه قبر ناجي العلي، لم أرَ بين كل قبور المسلمين التي شاهدت هنا هذه الآية: "ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".

كنت أقرأ ما كتب على القبر بسرعة الضوء: "ناجي العلي مواليد الشجرة 1936 إستشهد في لندن بتاريخ 29/ 8/1987". هذا يعني أننا حضرنا عشية الذكرى الثامنة عشر على إستشهاده، والتفت الى رقم القبر: 230191. لكن من قال لهم إننا نستدل على قبور شهدائنا بالأرقام.

كان القبر مزروعاً بالأزهار اليانعة والملونة الجميلة. وضعت عائشة وردتها الحمراء على القبر وكنت قد سألتها: لماذا حمراء؟ إكتفت بالإجابة لناجي العلي وردة من المخمل الأحمر، أما أنا فأنحاز دائما للقرنفل الأبيض، ربما لأنه يقاوم الزمن.

أتذكر شخصيات، ناجي العلي: فاطمة والزلمة الطيب والرجال الهلاميون وطفله الوحيد "حنظلة" الذي يؤنب الأمة العربية من دون حتى أن يدير وجهه لها.

وأهمس لناجي العلي: "صدقني، لا يوجد في الثمانية عشر عامًا الماضية ما تود رؤيته. كنت ستسكب الكثير من الحبر الأسود المر، وربما ينتهي بك الأمر ميتاً إثر جلطة قلبية".

رحل ناجي العلي تاركا ورائه نحو أربعين ألف كاريكتير وقبر مؤقت حيث اختارت عائلته أن تدفته "دفن أمانة" في لندن، لكن يبدوأنه علق هناك وأقام بين الغرباء تمامًا مثلما توقف العمر بحنظلة خارج الشجرة.

قبل أن أتركه تحت سماء غريبة وبين غرباء، يحضنه تراب ليس له، أكتب على رخام قبره الدافئ: "ناجي العلي ما زلنا في المخيمات الفلسطينية نحبك، وننتظر زمناً آخر لم يأت بعد. زمن لا يموت فيه الزلمة الطيب ويكبر فيه حنظلة".

التعليقات