الخروج على المألوف: قراءة في رواية عزمي بشارة "حب في منطقة الظل"/وليد أيوب

-

الخروج على المألوف: قراءة في رواية عزمي بشارة
فيما جبن آخرون عن مواجهة السؤال العويص: من نحن، وذهب آخرون إلى التشدّق بالشعارات فاعتمدوا المكابرة والتهويل، وقالوا إننا موحّدون.. وما نحن كذلك، وإننا أقوياء.. ونحن أضعف من حزمة قش، وإننا سننتصر.. ونحن نحصد الهزيمة إثر نكسة إثر نكبة إثر مجزرة، نرى الى عزمي بشارة يتشبث بالواقعي فيصوّر لنا - كما لو أنه كاميرا متطوّرة - واقعنا الهزيل..

وفيما "أتحفنا" آخرون من سواد الكتبة المهيمن، شعرا وقصّة قصيرة ورواية، بكم هائل من الشعارات البالونيّة التي لا تصمد في اختبار الواقع، ذهب بشارة الى رصد مواطن الضعف الكثيرة فينا يشير لها بإصبعه الوسطى دامعا نازفا حانقا كأنه يستفزّنا: هذا هو واقعكم فغيّروه!..

لم أكن أتصوّر بشارة روائيا وكنت أحسبه مفكّرا متفلسفا يخوض في السياسي ويغوص في تحليل الحالات لدى الدول والمجتمعات.. ولقد كنت أذهل من احتواء هذا الرجل على كل هذا العطاء الذي يفيض به أفكارا وهديا لأهله الى سواء السبيل.. بل كنت أشفق عليه فأتساءل: أما لهذا الإنسان من لحظات استرخاء وفسحة فرح تؤوب به إلى حياة إنسانيّة طبيعيّة في كنف عائلته وأصدقائه؟.. راكنا في هذا إدراكي أن مثل هذا الشخص إنما هو ملك لعائلة كبيرة إسمها شعبه أو وطنه أو قوميّته أو الإنسانيّة جمعاء أو كلّها معا.

ولقد فاجأني بشارة، كما قد تفاجأ كثيرون، عندما أصدر عمله الأدبي الأول "الحاجز" الذي احتال على تعريفه فأسماه "شظايا رواية"، فمنع بذلك المتزمّت من الانتقادات التي كانت ستنشر "عرضه على حبال بيروت" كونه، الحاجز، يتمرّد على أصول الرواية كما حدّدها الأوّلون..

وفيما نجح الأديب بشارة في "إحتياله" على تعريف "الحاجز" وأبقى ألسنة النقّاد في حلوقهم مشدوهين أمام هذه الصنعة الأدبية الجديدة الخارجة على مألوفهم، فقد خرج مرّة أخرى على المألوف في روايته الجديدة "حب في منطقة الظل"، لكنّه لم يجد حاجة في اللجوء الى "الإحتيال" على تعريفها بغير "الرواية" لكأنّه يؤكّد أنّها رواية بأربعة وعشرين قيراطا ونصف القيراط..

فقد خرج بشارة عن مألوف ما عهدناه من روايات فلسطينية وعربية، إذ سار بها من عمق الى عمق فرصد حالات لدينا وحلّلها قطعة قطعة، فرديّة وجماعيّة، وولج الى نفوس القانطين كما الى نفوس الحالمين كما الى نفوس الثائرين كما اللاجئين كما المقيمين كما المحاربين كما السياسيين كما الإنسان العادي في البيت والشارع والعمل.. وهو فعل كل هذا بأسلوب بسيط عميق متشبّث بالفكر والفكرة..

ولئن كان الحاجز هو البطل الذي تنسج من حوله القصص وتدور الحكايا والوقائع في عمل بشارة الأدبي الأول، فإن رواية "حب في منطقة الظل" تحمل الحاجز ذاته في كل سطر من سطورها، لكنها تبرز شخوصا أخرى تدور الرواية عنهم ومن حولهم.

ولقد عرّف بشارة روايته بأنها "رواية شظايا مكان"، وكان يمكن تعريفها، أيضا، بـ "شظايا حب" أو "شظايا بشر" أو "شظايا وجود".. حيث يبدو أن التشظّي إذ يتشظّى المكان يصيب كل شخص بل كل شيء، بشرا وحجرا ووجودا..



تحضر "مغارة أفلاطون" في "حب في منطقة الظل" بشكل صارخ حتى لكأن بطل الرواية، عمر، يبدو كذلك الاسير المحرّر من مغارة أفلاطون فلا يختلف عنه الا في ان عمر لا يملك الجرأة على كشف حقيقة الخديعة للجميع فيما الأسير في مغارة أفلاطون ينبئ الاسرى بأنهم يعيشون في وهم.. وبينما يكتفي عمر بالتحدّث مع حبيبته دنيا ويكشف لها حقيقة جبنه عن التضحية بحياته كما فعل الأسير الأفلاطوني الذي يقتله في نهاية الامر سكان المغارة لأنه كشف لهم زيف ما اعتقدوه حقيقة وآمنوا به.. هنا يختلف توجّه بشارة الذي يسحب بطله الى جهة تجنب الحقيقة واللوذ بالوهم/الظل بخلاف بطل أفلاطون.

كأن "دولة الحاجز" المعتمة جوانبها تكبير لمغارة أفلاطون التي تستتر فيها الحقيقة وراء ظلال تطول وتقصر.. لكن بشارة لا يحاول إعادة إبداع الأسطورة رغم أنه يؤسّس عليها.. فالذي يبغيه مؤلّف "حب في منطقة الظل" من المغارة هو وضعها في سياق علاقة حقيقية مع العالم الراهن في "دولة الحاجز"، إذ لم يحدث ابدا أن اختلطت الحقيقة بالظلال كما يجري اليوم في "دولة الحاجز".

"أن امشي خطوتي، لا خطوة الآخرين.. وأن أشم الهواء برئتي أنا لا برئتين اصطناعيتين" (ص 345).. وأن يصبح الإنسان ظلا لنفسه.. يعني أن يصبح "بقايا بلا روح مثل البحر الميت"..(ص 346).. لكأن "دولة الحاجز" كلها ما هي الا مغارة أفلاطونية تحجب فيها الظلال الحقائق.. لكن عزمي ينحو بابطاله الى جهة الإبتعاد أو التخلّي عن مسؤوليتهم في التفكير والتصرّف، فيتحوّلون الى كائنات عاجزة عن إبداء عدم الرضى والاعتراض الا في دوائرهم الضيّقة، فيما يحاول بعضهم، عصام مثلا الذي لم يفهم ولا يريد أن يفهم، أن يتجاهل حتى هذه المعرفة، رغم معرفتهم الأكيدة لهذه الحقيقة رغم ان الظلال لم تفلح في حجبها عنهم، رغم أنهم لا يخلطون بين أمر وآخر.. من جهة أخرى، يبدو أن عمر يعيش حقيقة "افتراضيّة" من خلال "التشات" على الإنترنت مع دنيا، وهذا لا يعبر الا عن حالة من الهذيان، لأن ما هو حقيقي ليس افتراضيا كما ان ما هو افتراضي ليس حقيقيا..

منذ سطرها الأول، يحضر الحاجز في رواية بشارة الجديدة:"حتى على بلاد الحواجز تشرق الشمس كل صباح. وفي كل صباح تلقي الشمس بأشعّتها على الحاجز من جهة الشرق فيسقط ظل الحاجز على الأشياء في الغرب، حيث نسي اللاجئون والد عمر خلفهم في دولة الحاجز" (ص 7). أربع مرّات يتغلغل الحاجز فينا في جملتين اثنتين، حتى لـ "يصبح ظل السيد السيد ظل، وعبد السيد السيد عبد.. وأزمة الهوية هوية الأزمة.. وهكذا دواليك مما خبره السيد الشاب النبيه عمر علي الجنابي، الذي ضل الطريق الى "المهن الحرّة" التي يختارها ابناء الاقليات باعتبارها حرة عن الدولة معتقدا أنه ثوري محترف"..(ص 7)..




لا يكتفي بشارة بالحوارات الفلسفية حول الوطن وتشظّي المكان أو الوجود، بل يغوص في فلسفة الحب، فكل شيء يتفلسف لديه، يقول "ربما الشعور بأن تكون محبوبا هو الشعور الوحيد الشبيه بالحب. ولكن فقط إذا كنت محبوبا من شخص تحبّه".. ولنا في هذا مأخذ على الكاتب إذ نذود عن الحب من الفلسفة وندّعيه أبسط وأجمل وأسهل من تعقيدات أقحم بشارة الحب فيها.. بل إن لنا مأخذا آخر على بشارة في علاقة الحبيبين في الرواية، حيث تقول دنيا لعمر "حبيبي" في مائة وثلاث وخمسين مناسبة فيما "الماتشو" عمر "يتنازل" فيقول لها "حبيبتي" في تسعة واربعين موقعا في الرواية.. ويؤشّر ذلك، رغم "تفاهة" المقارنة، الى أن الكاتب يميل الى جهة تفضيل الذكر القامع الحاكم المستبدّ على الأنثى المستكينة التي ينحصر دورها في كثير من المواقف على التلقّي والإستكانة لنزق الحبيب.. فقد نسجل أن عمر يغيب متى طاب له ويعود متى أراد، وينهر على كيفه متى شاء ويحلو لسانه وريقه متى عنّ له ذلك.. فكل شيء في الرواية، في الغالب، يمشي بحسب أهوائه ومزاجه.. نسوق هذا مدركين أن بشارة يحكي، بالتالي، عن حب بين شاب وفتاة على طريقة الشرقيين، وهنا عذره..

والحب لدى بشارة فريد بل ربما لم يسبقه اليه أحد، إذ أنه يجري ويتعاظم لهيبه ويخبو الى جمر تحت رماد ما يلبث أن يشتعل إذ يحرّكه شوق، حيث تمت جميع اللقاءات عبر "تشاتات" في الإنترنت سوى لقاء يتيم جرى في عاصمة اوروبية هو بداية اشتعال الحب وانشغال الحبيبين على طول الرواية وعرضها.. فقد نكاد نجزم أن حبّا كهذا لم يجر في التاريخ ولا حتى في الكتب والاساطير..

يبدع بشارة في توصيف أمر الحبيبين وحالهما.."طاحونة شوق لا يرويها صب المياه عليها بل يديرها أسرع. كما لا ينفع الحك بالجلد الملتهب، بل يمتعه قبل أن يزداد التهابا وألما". (ص 14 و15)، لكن هموم الوطن ما تلبث أن تعيده الى صوابه فيزجّ ببطله الى مغارة أفلاطون، ثانية وعاشرة، حيث يجب عليه الا ينسى أنه من الباقين "ولكن الباقين ليسوا باقين فحسب بل أيضا مهاجرون وغرباء في دولة في ما كان بلادهم، لم يغادروها بعدما غادرتهم. ولم يبرحوها حتى بعدما غادروها فيها، أو بعدما غادرتهم فيهم". (ص 17)



يتحدّث بشارة عن "دولة ما وراء الحاجز" كأنّه يتحدّث عن جزر واق الواق الخيالية التي لا يعرفها البشر الا من خلال الاسطورة، رغم تعلّقه بها وعجزه عن الانفصام عنها لكأنه مربوط بها كما الجنين بحبل الصرّة.. وهو بهذا، كما في كل الحالات، يجسّد الفلسطيني المحروق المقهور المندحر المقموع في هذه الدولة ومنها.. وهو لحنقه وامتعاضه من كل شيء يعتمد "شرّ البليّة ما يضحك" إذ يلجأ الى أسلوب لاذعة سخريته حتى لكأنه يفلح في إبعاد هذا الوهم/الدولة عنه وعنّا رغم قربها وانغراسها فينا ومن حولنا، وكأنه يعلن أن هذا الاسلوب اللاذع كالسوط هو ناحية أخرى من نواحي التشظّي والإنكار أو الإستنكار.. فكأن الأمر لا يخصّنا ولا يلامسنا بشيء فهي مجرّد بلاد خيالية لا تمتّ الينا بصلة..

لم يبق شيء في دولة "الحاجز" أو في مناطق ظلال الحاجز الا لسعته سخرية بشارة وساطته بأغلظ الأسواط حتى لكأنها ترنّحت وجعا وأهلها من لاذع سلاطة قلمه كأن يقول في استيعاب اللاجئين في الدول العربية:"لكن على كل حال لم نكن كلنا هناك لاجئين، من كان غنيّا أو مسيحيا، (تآخذنيش بهالكلمة ها ها ها) تم استيعابه تقريبا لو يسمى ذلك توطينا. – قصدك "إخوانا النصارى" و"إخوانا الإسلام".. ها ها ها!!.. – ايه، ايه، الأغنياء وأبناء العائلات من المسلمين، وليس كل المسيحيين طبعا، من هم خارج المخيم، أو من تزوجت مواطنا".. (ص 18).

وتظل الظلال وارفة تخيّم على العرب في بلاد الحاجز وفي مناطق ظلال الحاجز، وتظل العتمة هي السائدة على حالة الفلسطيني الذي "مورس التسامح مع وجوده الجسدي في المكان كأقلّية بعد أن هجرت الأغلبية أو هُجّرت. وظلت البقية تهَجَّر عن ذاتها حتى أعجبت كاقلية بتسامح الوافدين كأكثرية مع وجودها. وينشغل الباقون، المحشورون ما بين دولة الزمان وتدويل المكان، وما بين أمية علاقاتهم بالأرض والمكان المؤمم، المهاجرون في كل بقعة كانت وطنًا عندما لم يكونوا منفيين فيها، ينشغلون بالحوار المستمر مع المحاولات المستمرة لسحب المكان من تحت أرجلهم، أو بالتعود على سحبه بعد أن سحبت العلاقة معه من تحت نفوسهم وعقولهم."

تنتهي الرواية بأن "انسلّوا من المطار انسلالا دون أن ينظروا حولهم. وأحسّت دنيا من مشية عمر في المطار أنه مثلها غريب هنا، بل هو غريب أكثر منها، لأنه في كل حركة من حركاته، في كل إيماءة، في كل نظرة، يعلن أنه يعرف بدقّة ما يغرّبه. غربته عن الأشياء والمكان خاصة وعينيه، أما غربتها فعامّة مجرّدة. بعد أن غادروا المطار في الطريق الى بيت وجد صمتوا جميعا. وأحسّت دنيا لأول مرة بضياع حبيبها في شظايا المكان وبغربة عمر وضيقه في هذه الديار. إنهما غريبان ها هنا".. وغريبان في دولة الحاجز وفي دولة ما وراء الحاجز، وفي أي مكان.. فليعودا إذا الى مغارة بشارة.. مغارة أفلاطون..

-"هذا ما جرى. كأنني أتكلم بلهجة أخبار الأفراح في الصحف. وكأنه إعلان زواج بين غريبين عن عقد قران الآنسة المهذبة على الشاب الناجح الواعد المهذب وألف باقة ورد، وألف لفة ورق تواليت للعروسين. هم يحاولون الإعلان عن شيء بهذه اللغة وأنا أحاول أن أخفي شيئًا بنفس اللهجة. هل تعرفين أنه في السجن اذا أهديت أحدهم لفة ورق تواليت سيعتبرها أهم من باقة ورد؟

- وين رحت يا عمر يا حبيبي؟ يا مجنون. ألف باقة ورد وألف لفة ورق تواليت".



التعليقات