في نقد النوسطالجيا: في الأيديولوجيا../ د.عبد الله البياري*

-

في نقد النوسطالجيا: في الأيديولوجيا../ د.عبد الله البياري*
إن الذاكرة السياسية لا تعدو كونها وسيلة استحضار التاريخ أو حتى استقرائه واستعادته، بل هي مرجعية تاريخية يرجع إليها عن الحاجة و القياس وليس المطابقة. إنها عالم الجماعة الحاضر الغائب، والذي تتوزع من خلاله الأدوار، ولكن ما بين الحضور والغياب يكون الخطاب الأيديولوجي، وهنا وبعد شرح مختصر في المقال السابق عن تحليل الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، أتناول ههنا تفاعل الخطاب المعرفي / السلطوي أيديولوجيا.

فالخطاب الأيديولوجي السياسي الإسلامي – المعاصر ووجوده كعنصر معرفي / سلطوي معبر أيديولوجيا عن تلك المرجعية الغائبة الحاضرة تاريخيا، نجد له وظيفتين اثنتين كأي خطاب معرفي / سلطوي أيديولوجي آخر على الساحة:

1.المنع من التذرر (Atomization): أي تفكك عرى الجماعة الواحدة لدى تفاعلها مع الآخر، وهو ما يجعل البعض يربط الفكر بالأيديولوجيا، فيصبح الكاتب أو المفكر مائعا لا لون له ولا طعم ولا رائحة ما لم يكن خادما لأيديولوجيا ما بعينها، وليس فقط خادما للفكر كمطلق، في تمثيل واضح لصور الانتهازية السياسية المتعلقة بسلطوية المعرفة وخطابها كأداة سلطة.
2. المنع من التفرد (Individualism) حتى داخل الجماعة الواحدة، لذا عدّ الخطاب وسيلة سلطة وإن كان معرفيا، لأنه يمنع الفردية المستقلة وما يمكن أن يعنيه ذلك من المجازفة بالرباط الجمعي أو المعرفة الجمعية والمرجعية الجمعية، في انعكاس لـ(الموت مع الجماعة أرحم) مع أنه سيظل موتا.

إذن فالخطاب كأداة معرفية/سلطوية يعمل على تفعيل وتجذير الجمعية المعرفية و المنع من التذرر باسم حتى ولو كان باسم المرجعية، وتلك إساءة كبيرة عندما ترتبط بدين سماوي، وبلفظ آخر أدلجة الدين ليتحول حينها الدين من منهج:

• فردي: لبنته الأولى الفرد والأخلاق الفردية والقيم الفردية فبدا، مركزا على قيمة الفردية الإنسانية منطلقا للإنسانية، لذا كان الرسول الكريم فردا إنسانا واحدا أرسل للبشرية جمعاء، في كسر لنمطية القطيع.

• روحاني: يوفر الكثير من الإجابات الماوراء طبيعية و الأبواب الروحانية المتعلقة بالهاجس الإنساني الأكبر و الذي هو في منطلقه فردي أيضا وهو قيمة الحياة (مفرد).

• حضاري: وتلك النقطة خلقت الفارق الواسع ما بين الفتح و الاستعمار، وأنتجت حضارات إنسانية أولا، خاصة ثانيا، إسلامية ثالثا يشهد لها التاريخ، مستخدمة من كل ثقافة أدواتها الخاصة، من دون تقييد.
في إنكار تام على من يدعي بضحالة تاريخية معرفية أن أصل الحضارة العربية كان هو الإسلام، مستقرئا الإسلام من عامل مساعد –رئيسي- لعامل وجودي أوحد.

إلى منهج:

• جمعي: لا يهتم بالفرد بقدر ما يهتم بالجمع وقوة الجماعة واستحواذ الوطن –أي وطن- ملكا لقوة الأغلبية المادية، فلا يقبل الاختلاف –أي اختلاف أيديولوجي وليس دينيا فقط – ولا يقبل الفردية، ليتحول حينها الدين تعبيرا جمعيا أيديولوجيا وليس فرديا روحانيا، في تفسير واضح لتسرطن داء التكفير والإخراج من الدين باسم الشرع و السماء، و(معالم في الطريق) لا يعدو إلا أن يكون انعكاسا لخطاب معرفي سلطوي انتهج التكفير الجمعي لحماية الأيديولوجيا.

• مادي: لا يهتم بالجانب الروحاني وهو النتاج الطبيعي للجانب الفردي، بل يهتم بالمادية كمظهر يعبر عن الانتماء الجمعي في تنميط لصورة القطيع وهي صورة الأغلبية لا أكثر، فيصبح الدين مختصرا في مشاهده الفردية التي تحولت من عبادات لعادات جمعية، اللحية و النقاب و الحجاب و التقصير وأشهر الجوامع، لمشاهده الجمعية: الوصول للسلطة باسم الأغلبية وترادف الوطن للأيديولوجيا الاستقطابية.(1)

• سلطوي: لا يهمه كيف سيصل للسلطة، مادام سيصل، مختصرا الحضارة في السلطة و الوصول إليها. مجندا لذلك الكثير من العبارات الرنانة روحانيا لبسط السلطة والتحكم في العقول ظاهرها وباطنها.

فعبارة كعبارة (الإسلام هو الحل)، وبعيدا عن حساسيتها الغيبية لدى العامة البسيطة الثقافة والفكر، إلا أنها عبارة غير نزيهة سياسيا، لأنها تغازل العصبيات والغرائز وتجعل أي حل سياسي غير ناجع ما لم يكن حلا أيديولوجيا، باستشارة السماء الصامتة، وهي حيلة أيديولوجية لجعل السلطة حقا دينيا وليس مدنيا، كذلك الوطن بأيديولوجيات الاستقطاب (1)، وهي الحيل التي تعتمد عزل العقل المدني لصالح السماء امتدادا لمشهد رفع المصاحف على أسنة الرماح في أولى الحيل الأيديولوجية التي شهدها التاريخ الإسلامي باسم السماء لتحييد العقل.
كما أردفنا فان خطابا معرفيا سلطويا كهذا الخطاب، لأجل الوصول لأهدافه: منع التذرر، ومنع الفردية، فإنه يستغل الكثير من القيم الإنسانية المطلقة وحتى تلك الأيديولوجية النسبية للوصول لمآربه كأي خطاب معرفي سلطوي أيديولوجي آخر.

من ضمن ما يراكمه هكذا خطاب، هو ميكانيكية دوائر الاختلاف في الأمة العربية، وهي تلك الدوائر التي تحوي الأنا والذات وليس الأنا والآخر، حتى وإن كان ذلك الآخر هو في نفس الوطن والقضية، متجاهلا ومستغلا في آن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة قطريا وإقليميا - وإن كانت تلك الأوضاع لا تفرق بين الأنا و الآخر -، مصدرا الكثير من الازدواجيات المعرفية المطلقة باسم الأيديولوجيا، ومستغلا عاطفة دينية قوية للخلاص محاطة بالكثير من مشاهد الظلم والإمبريالية والاحتلال والدكتاتورية والفساد والتخلف والاستهلاك.

من أبجديات ذلك الخطاب، أبجديات تزرع – وإن كانت بريئة جزئيا-، لها تأثيراتها وانعكاساتها من ولدى أرباب هكذا خطاب لا يمكن أن يغفل عنها أي مراقب، وهي أبجديات اختزالية وإقصائية وليست استقصائية، مثاله:

• اختصار قضية بحجم قضية الصراع العربي – الإسرائيلي في البعد الديني دون غيره، هو اختصار في أقل أوصافه أرعن لما فيه من المصادرة على الكثير من العناصر الأخرى، وهي عناصر فاعلة ومؤثرة لا يمكن إغفالها.

فلفظة مثل (الجهاد) وجعلها مرادفا للقضية الفلسطينية الصراع بالمجمل، وإن كانت منطبقة - جزئيا- على ما يحدث على أرض الواقع، إلا أن الجزء دوما أصغر من الكل، لذا كانت وستظل أرض الواقع أكبر من الأيديولوجيا.
وهنا أتذكر كلمات المبدع الراحل محمود درويش حينما قال: الغريزة لا أيديولوجيا لها.

لأن تلك اللفظة التوصيفية في الخطاب، تقتطع فعل المقاومة والإبقاء على الأرض والتاريخ والجغرافيا والحضارة والتراث والهوية وحتى حكايا جدي، عن كامل السياق الإنساني، وتختصرها انعكاسا لعنصر واحد من الهوية وهو الدين أو الميثولوجيا.

يتضح ذلك جليا في الكثير من الاختزالات الدنيئة وغير الأخلاقية المتواترة حديثا والتي تربط شرطيا بين التضحية والدين، في موافقة ضمنية مجحفة وخاوية على جعل الانتماء الديني فقط هو المحرك والدافع للتضحية، متى غاب هذا المحرك والدافع لن تكون هناك تضحية، مما يجعل الارتباط الوطني الثقافي والتاريخي والجغرافي والحضاري والهوياتي وحتى الإنساني ليس ذا قيمة شرطية لتحقيق المطلوب منه وهو التضحية. إن ذلك التصور المرآوي المترادف لازدواجية الدين / العطاء للوطن - أي عطاء-، هو امتداد لازدواجية الدين/ الوطن، وما ينتج عن ذلك من اختزالات غير أخلاقية ومرفوضة لواجب التضحية وحقوق المواطنة، في إهانة للوطن والضحية والتضحية والدين أيضا.

إن تلك المزايدة الضحلة غير الأخلاقية على دماء الشهداء وتضحياتهم وانتمائهم وهم من غير المتقاطعين في دائرة الاختلاف – أو الاستحواذ- الدين / الأيديولوجيا، وذلك التجاهل للكثير من عناصر الهوية المكونة والفاعلة في القضية، والناتجة عن كثير من دوائر التقاطع – لا الإختلاف- هو تطويق غير منتج وغير فعال براغماتيا على الساحة.

متى كانت المعرفة انعكاسا أيديولوجيا، تحولت إلى سلطة، وفقدت الكثير من محدداتها الموضوعية، بخطاب معرفي / سلطوي / انتقائي، همه الأول والأخير لدى تناوله أي منتج معرفي ثقافي أو فكري، هو ما يخدم أجندته الأيديولوجية فقط لخدمة أهداف الخطاب السالفة الذكر في بداية المقال بين أيديكم.

كان ذلك وعلى امتداد التاريخ في التناول والتجنيد الفعلي انتقائيا للمنتج الفكري أيا كان، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك، كان التجنيد النازي للفلسفة الوجودية النيتشوية، والفلسفة الطبيعية الداروينية ضمن أيديولوجيا الحزب النازي ورايخه الثالث، مما ترك عميق الأثر في الخارطة الإدراكية الانسانية جمعاء، رابطا بين الإثنين وبشدة، وان كان ربطا غير أمينا وغير مستوي معرفيا.(2)

وحتى الدين، بمنطقه المؤدلج/ السلطوي / المادي على مدى التاريخ الإنساني لم يسلم من الاتهام بهكذا إنتهازية، ليس أقلها أولى المحاولات لترجمة القران الكريم، ودراسة طوماس الإقويني له، وكذلك تناول دانتي في كوميدياه الإلهية لشخص الرسول الكريم.
جميع هؤلاء حولوا المنتجات الاستقصائية المعرفية الأدبية والفنية والثقافية أدوات إقصاء سلطوي، تمثيلا لمبدأ: كل شيء في الحرب جائز.

وطبعا لم تغب تلك الاستراتيجية غير الأمينة عن عقول أرباب النوسطالجيا، وكان من أبرز ضحايا تلك الإساءة الفكرية المفكر و المبدع الدكتور إدوارد سعيد، ولكن ولأن عقلية ألمعية فذة وخلاقة كعقلية سعيد لن يخفى عليها وهي العالمة بخوافي التاريخ وألاعيبه وحروب الأيديولوجيا وهكذا انتهازية سلطوية، فقد أوضح في كتابه (الاستشراق) وهو ضحية الخطاب المعرفي/ السلطوي/ الأيديولوجي هاهنا ذلك قائلا:

آسف بأكبر قدر للزعم من جانب معادين ومتعاطفين على السواء أن ظاهرة الاستشراق هي مجاز مرسل أو رمز مصغر للغرب بأكمله المعادي للشعوب الغير أوروبية التي عانت من الاستعمار، ويترتب على ذلك أن الشرق كاملا وأن معتقداته هي الحل الوحيد، أي أن نقد الإستشراق في هذه القراءة الخاطئة هو تأييد لأصولية ما، في حين أنه لا طاقة لنا على تبين ما يكونه الشرق الحقيقي أو صحيح الإسلام، و أن كلمات مثل (الشرق) و(الغرب) في الكتاب لا تناظر واقعا راسخا أو مستقرا يوجد كواقعة أو حقيقة طبيعية.

كانت دراسة الدكتور سعيد في كتابه الاستشراق هي من أكثر الدراسات غزارة وأكاديمية وإحاطة، والتي تناولت ظاهرة تاريخية حضارية كظاهرة الاستشراق إبان الفترات الاستعمارية والحقب الكلونيالية، وأثرها المعرفي والحضاري، إلا أن ذلك الاختزال الأيديولوجي غير الأمين لمنتجات سعيد الفكرية لم تغب الإشارة إليه في ثلاثة من أعظم أعماله تاليا: (في تغطية الإسلام) و(الثقافة والامبريالية) و(تعقيبات على الإستشراق)، معيدا التأكيد أن (الإسلام) كتجسيد لـ(الشرق) محمل بالمخاطر، وأن الغرب ضد الشرق والقول العكسي مضللان، وذلك لتعاطفه مع نزعة تعددية الثقافات الإنتقادية للسلطة، مجندة المعرفة ومعززة لها، عوضا عن نزعة الكراهية للأجانب، والنزعة الأيديولوجية ذات التوجه العنصري، لذا كان سعيد على الدوام رافضا للصيغة المبتذلة التي تناولت (الإستشراق)، وأعاد تصديرها أصحاب العقليات المؤامراتية وأثواب البراءة ووكالة السماء.

ومن المثير للسخرية والهزل أن تلك العقليات التي اختزلت وتجنت على (الاستشراق) مجندة إياه لإثبات مبدأ صراع الحضارات مما يعطيهم المبرر الوجودي أيديولوجيا، أن إدوارد سعيد بذاته نقد ورفض توجه هنتنجتون بصدام الحضارات مستعيضا عنه بصراع الجهالات. إن نفس تلك العقليات التي ترفض منتج برنارد لويس الاستشراقي وهو الذي يصب في النهاية في صراع الحضارات، قد رد سعيد عليه مرارا وتكرارا مؤكدا أن المنهج الاستشراقي الذي تناوله لدى دراسة ثقاة المستشرقين المحدثين كبرنارد لويس، كان منهجا مصيبا بالكامل وأن (الاستشراق) هو نفي للافتراض القائل بأنه تقديم نقدي لهويتين متحاربتين ومتصارعيتن أيديولوجيا لما في ذلك من الغبن التاريخي والحضاري و السطحية المعرفية.

بالنسبة لنا كان (الاستشراق) تسجيلا لحالة التوازي الملحوظ والقابل للفهم بين نشأة التخصص الاستشراقي وامتلاك إمبراطوريات شرقية بواسطة بريطانيا وفرنسا في تمثيل امبريالي مادي لإزدواجية حضارية قوامها (الضعف/ القوة) وليس (الإسلام / الغرب) كما يصدر أصحاب النوسطالجيا التاريخية و السياسية لأيديولوجياتهم.

1. راجع مقال في نقد النوسطالجيا الأول.
2. وردت الإشارة ههنا لتجربة شخصية مع العديد من الأصدقاء و الأقارب الألمان لدى رؤيتهم لمجموعة نيتشه الكاملة بحوزتي، والذي قوبل بالكثير من الاستهجان، والذي بمناسبته وجب علي أن أطرح سؤالي على البعض: من منا يعلم ماذا كان رأي نيتشه في الفلسفة الإسلامية والنظرة الإسلامية للحياة؟؟ ولكن ولأنه سؤال لا يخدم أيديولوجيا سلطوية فلن يلقى الضوء عليه.
3. المراجع و المصادر:
• Culture and imperialism by Edward W. Said
• Orientalism By Edward W. Said
• Encyclopedia of Religions
• Covering Islam By Edward W. Said
• Orientalism Reconsidered By Edward W. Said

التعليقات