الآخر .. في ثقافتنا ! \ خيري منصور

الآخر .. في ثقافتنا ! \  خيري منصور
اذا كانت معرفة الآخر تقتضي وعي الذات اولا، فإن هذا يفسّر لنا الالتباس في مصطلح ' الآخر'، هل هو المختلف حتى لو كان من النسيج ذاته؟ أم ' العدو'؟ ومصدر هذا الالتباس هو ان المسافة بين المختلف والعدو المحتمل مرنة، تتمدد او تنحسر تبعا لتربويات سياسية ومناخات تعبير، وحين سادت مقولة سارتر الشهيرة في القرن الماضي وهي ' الجحيم هو الآخرون'، اسيء فهمها شأن معظم المقولات المترجمة والمنتزعة من سياقاتها الفلسفية او الادبية، وجحيم سارتر هو ما شعر به شخوص مسرحيته ' جلسة سرية' حيث يراقبون بعضهم في كل شيء داخل غرفة مغلقة، لهذا فالجحيم بهذا المعنى الوجودي وثيق الصلة بالحرية قبل أي شيء آخر بحيث يصبح المثل العربي المأثور ' مَنْ راقب الناس مات همّاً وكمدا' هو المراقب وليس من يراقبه، شرط ان يكون لديه وعي بحدود حريته، ومصطلح الآخر في ثقافتنا تختلط دلالاته واحيانا يصبح غامضا كما لو انه ضمير للغائب وهو ما عبّر عنه سارتر ايضا من منظوره الوجودي عندما قال ان من يفرطون في استخدام ضمير الغائب هم المجانين، فالأفعال التي يعانون من نتائجها تنسب الى المجهول. وقبل ان نستطرد في استقصاء مفهوم الآخر في ثقافتنا لدينا موروث هائل من المواعظ والحكم والامثال ينظر الى الآخر من خلالها على انه عدو محتمل، ان لم يكن عدواً متحققا في بعض الاحيان، ومفهوم الحسد والميثولوجيا الموروثة المتعلقة به يكفي وحده لكي يجعل من الآخر خصما يجب اتقاؤه، ولدينا في أغاني الحب كلمة متكررة في كل المراحل هي العزول، او الشخص العاطل عن الحب والذي يتربص بالمحبين كي يخفقوا وهناك اغنية لفريد الاطرش تكفينا مؤونة الاستفاضة في هذا السياق تقول ' يا عوازل فلفلوا'، وكلمة ' فلفلوا' لها دلالات عديدة لكنها تلتقي عند كظم الغيظ مقابل الشماتة، ولا شك في ان هناك ثقافة قديمة هجعت في اللاوعي العربي اتت من ايام العرب الاولى، ومن ثقافة الغزو المتبادل، بحيث لا يتورع شاعر عن القول بأنه ان لم يجد أحدا يغزوه في تلك الليلة فإن بيت اخيه بكر هو الهدف. وهذا يعني نفي الاستثناء في فعاليات تحولت الى نمط انتاج واستمد شرعيته من تكراره ومن الثقافة التي أفرزته على الأقل في ذلك الزمن!

* * * * * * *
الاخرون هم الجحيم الوجودي، هم الذين ينالون من حرية الفرد، لكنهم في ثقافتنا من يهددون باقتسام الغنائم او الملكية او من يضيقون ذرعا بنجاح سواهم، لأنهم يريدون احتكار كل شيء لصالحهم فقط، وثمة مفارقة لا بد من التوقف عندها طويلا في حياتنا المعاصرة لتوضيح مكانة الآخر، فهو قبل ان يكون عدوا او قادما من الخارج هو من صلب النسيج ذاته، فالعربي المعاصر استمات دفاعا عن شبر ارض من حدوده ضد الشقيق اللدود، لكنه فرّط بكرم حاتمي بمقدسات وأرض وشعب لأن الآخر ليس من صلبه، وهذا ما يعطي عبارة ' ظلم ذوي القربى' للشاعر طرفة بن العبد بعدا عصريا، لأن كلمة ' ذو القربى' تستدعي على الفور ووفق المتواليات النفسية للذاكرة كلمة ' ذوي البعدى' رغم ندرة استخدام هذا المصطلح، ولو تذكرنا على سبيل المثال فقط تعريفا للحب قدمته الكاتبة ايريس مردوخ وهو ان الحب يفرض على الانسان ان يتأكد تماما بأن هناك شخصا حقيقيا خارج ذاته، وهو تعريف مضاد لخرافة الاندماج والذوبان والتلاشي او لطريقة ديك الجنّ الحمصي في اذابة الآخر المحبوب داخل أحشاء الذات!
تعريف مردوخ للحب يطرد آلاف قصص العشق من هذا المدار الرومانسي، لأن المعشوق حسب أدبيات لا ترى في الآخر الى صورة من تجليات الذات ليس انسانا آخر والحب على هذا النحو هو تنويع ما هو على وتر النرجسية وعشق الذات.

* * * * * * * *
لا يصبح الآخر شريكا وندّا حتى لو كان توأما بالمعنى العضوي الا في ثقافة تلبي نداء الاختلاف، وتفرق جوهريا بين التوليف القسري والائتلاف، وهذا هو الجذر المنسي والمسكوت عنه في ثقافتنا لاخفاق كل المحاولات التي سعت الى دمقرطة الحياة، وتطلعت الى الاعتراف الفولتيري بحق الاخر في الاختلاف والدفاع عن هذا الحق، وهناك حكاية تراثية منسية عن هذا الجذر الدفين توضح المسألة من كل ابعادها، وهي ان احد الفرسان في أيام العرب حقق انتصارا وتحولت مقتنيات المهزوم الى غنائم، بما فيها السبايا من النساء، وحين طلب الفارس من أحد رجاله ان يقسم الغنائم بين الفرسان صدق الرجل ما طلب منه، وعندما جاء دور السبايا من الصبايا قال ان هذه وهي أجملهن لسيده والثانية الأقل جمالا لمساعده ... وهكذا، لكنه ما إن تلقى ضربة موجعة أدمت أنفه وفمه حتى اعاد القسمة قائلا ان هذه لمولاه في الصباح والثانية لمولاه في الضحى والثالثة لمولاه في المساء ... الخ. عندئذ قال له الفارس الديموقراطي: طوبى لمن علّمك هذا العدل، فأشار المسكين الى قبضة الفارس التي علّمته العدل لأنه اصبح عاجزا عن النطق.
ولا يمكن لوقائع وأمثال ومواعظ من هذا الطراز ان تكون عديمة الصلة بمكونات ثقافية، ترى في الآخر خصما ممكنا او محتملا، وكل ما في الأمر ان هذه الخصومة بحاجة الى مناسبة كي تظهر حتى لو كانت المناسبة اقتسام زبيبة!!!

* * * * * * *
ان مفهوم الآخر لا يتوقف عند ذوي القربى او الشقيق اللدود، فالذات ايضا تفرز آخرها، وما القول بأنها أمّارة بالسوء الا لأنها تفرز هذا الآخر من صلبها، ومثلما قال الشاعر بأنه سيغزو بيت اخيه بكر اذا لم يجد من يغزوه فإن هناك شاعرا آخر قال بأنه سيهجو نفسه ان لم يجد من يهجوه، والذات الحبلى بآخرها هي التعبير الدقيق عن الوعي السالب او الزائف الذي يدفع الانسان الى محاكاة القط في استمراء دمه وهو يلعق مبردا من حديد.
أنقول بعد هذا وهو مجرد تمهيد لحفرية تجازف بتحليل الرّميم ان ما خسرته الطوائف والاثنيات والمذاهب العربية قديما وحديثا ضدّ بعضها كان يكفي لتحويل الجغرافيا العربية الى قلعة حصينة، لكن التفرغ لمقارعة ذوي القربى الأشد مضاضة لم يترك من الوقت والجهد ما يكفي لرؤية ما رأته زرقاء اليمامة، ثم دفعت الثمن بأن فقأوا عينيها كما تفقأ العيون الآن؟

.

التعليقات