جمالُ الشّرقِ "عن قرب"

عندما يجتمع فنانون، نتساءل: هل كانت المصادفة هي السبب وراء هذا التجمع، أم أنهناك رؤية مشتركة استدعت ذلك، وماذا سيقدم هذا الالتقاء من مفاهيم ترفد ساحة الفنبأسلوب أو تناول جديدين؟ هناك تجمعات تحمل أسماء هي بمثابة إشارة دلالية على مايريده أعضاء هذا التجمع ضمن هدف يؤمن ويشترك به الجميع، أي بمعنى آخر أن هناكاتفاقاً ضمنياً على هذا العنوان/ اللافتة

جمالُ الشّرقِ

 

 
عندما يجتمع فنانون، نتساءل: هل كانت المصادفة هي السبب وراء هذا التجمع، أم أنهناك رؤية مشتركة استدعت ذلك، وماذا سيقدم هذا الالتقاء من مفاهيم ترفد ساحة الفنبأسلوب أو تناول جديدين؟ هناك تجمعات تحمل أسماء هي بمثابة إشارة دلالية على مايريده أعضاء هذا التجمع ضمن هدف يؤمن ويشترك به الجميع، أي بمعنى آخر أن هناكاتفاقاً ضمنياً على هذا العنوان/ اللافتة.
كل ذلك يأتي لترسيخ الأسلوب الذي من خلال معرفته يمكن تأويل هذهالأعمال بغض النظر عن قناعات كل فنان ضمن الجماعة بأسلوبه الفني الخاص وبالمدرسةالتي ينتمي أو يمثلها في أعماله الفنية.
في كثير من مفاصل الإبداع التشكيلي ـ بصورة خاصة ـ رأينا أنالجماعات تخلق نفسها، بل وفي أحيان كثيرة تصدر بيانات فنية، وأدل على ذلك البياناتالسريالية والبيانات التكعيبية وبيانات جماعات الفن الحديث في أغلب ساحات الفنالتشكيلي العربي، وربما كانت بعض هذه البيانات قد شملت مختلف صنوف الإبداع - شعراًأو تشكيلاً أو سينما - كما هو عليه البيان السريالي لدالي، لكن ما يتصل منه بالفنالتشكيلي كان الأوضح والأكثر تأثيراً في المراحل الإبداعية التي تلت ظهور البيانالسريالي.
الأوضح في التجمعات والالتقاءات التشكيلية أن يصدر بيان عنالمجموعة أو أن تتصدر كتيبهم الذي يعلن عن تجمعهم كلمة يشيرون فيها إلى دواعياختيار عنوان معرضهم وأسباب اختيار تسمية هذه المجموعة، وهل أنها محكومة بأطرمفهومية أم أنه تجمع فني لا غير، وأعتقد أن هذه القضية صارت ضرورة في الاشتغالالفني.
كانت هذه المقدمة في سياق أو على ضوء معرض أقيم مؤخراً في أبوظبيبضيافة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث لمجموعة من الفنانين أطلقوا على أنفسهم مجموعةفنان” fanaan  وحمل المعرض عنوان “عن قرب” upclose .
 تسعة فنانين من جنسيات متعددة يقيمون في أبوظبي قدموا 59 عملاًفنياً، حيث كانت المدينة “أبوظبي” سبباً أولياً لتجمعهم ثم كان حبهم للمدينةوتماهيهم مع عوالمها وتأثرهم بثقافتها وقيم وأخلاقيات أهلها كلها أسباب لهذاالالتقاء الذي توج برؤية مشتركة جمعتهم مع البعض فأطلقوا على أنفسهم “مجموعةفنان”.
توزعت الأعمال بين التشكيل والنحت على البرونز، وقدم في التشكيل 8منهم رؤية في أغلبها ملامح شرقية ومستقاة من مدينة أبوظبي ومن الصحراء والبحروالنخلة والتماع الأفق في عوالمها الطبيعية.
قدمت جانين عبيني 7 أعمال واميلي جوردن 5 أعمال وداكشا بولسارا 10أعمال وأيوين بوشل 6 أعمال وكريتش 9 أعمال ونينا راي 10 أعمال وجنيفر سايمون 5أعمال وجوليا عبيني 5 أعمال، أما في النحت فقد قدمت ليندا استيفانيان (2) منحوتتينبالبرونز والحديد.
في معرضهم “عن قرب”، نفذت الأعمال بمختلف المواد الداخلة في الفنومنها “المكس ميديا” والحبر والألوان المائية على الورق والاستيل والورق والحريروالقطن المنفذ يدوياً و”الاكرليك” والزيت على “الجمفاص”.
حملت عناوين اللوحات والمنحوتتين أسماء تلخص ما يدور في العملالفني، وكأن الأسماء هي تعبير لغوي عن رؤية الفنان أو دواعي اللوحة منها ما يدل علىحس واقعي صرف وهي “بين 3 أبواب” و”مع الألماس” و”سيتي سكيب” و”الزهور في أبوظبيو”الجزيرة” وبعضها ترى فيه حساً إيحائياً مثل “الحب” و”السعادة” و”الكذب”.
إنجازات مدينة
تطالعنا البريطانية جنيفر سايمون والتي تعيش في الإمارات منذ عام 2000 برصد حركة زمن كامل في أبوظبي، وهي تصور إنجازات هذه المدينة، بل الإماراتكلها حين أنشأ ثقافتها ورسخ وجودها الحقيقي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آلنهيان رحمه الله حين تسابق مع الزمن.. وقد رمزت للزمن بالساعة إلى الزمن الآتي.
تناولت جنيفر سايمون القباب والبحر والخيل البيضاء والقلاعوالتشكلات الشرقية والغربية للأبنية في امتزاج واضح لعوالم عاشتها في فترات مختلفةمن حياتها، حيث ترعرعت في أستراليا بعد أن ولدت في بريطانيا وتعيش الآن فيالإمارات، وكان أول ظهور لها في المشهد الفني في أبوظبي عام 2007 مع معرضها الفرديالناجح “مناظر الحياة”، ومنذ ذلك الحين وهي تشارك في المعارض الجماعية.
المدينة الحضارية هو عالمها والألوان الغامقة المتألقة هيلمساتها، وهي في كل ذلك تنقل المدينة وناسها بإلهام واضح وفي تصوير لإبداعات البشرفي خلق مدنهم، وفي لوحاتها الـ (5) التي تخصصت بها في جلب التراث المديني كانالعامل الأساسي الذي جعلها تنحو هذا المنحى هو ولعها بالقباب والمآذن الشرقيةوالأبواب والشبابيك والبحر غير أنها لم تنس أن تعشق كل ذلك بعوالم طفولتها، حيثالباص الأحمر ذي الطابقين” الذي يجوب شوارع لندن.
جنيفر سايمون تقرأ مرحلة مهمة في حياة أبوظبي وترمز لها بقاربذاهب إلى الشمس، وقد حمل صورة الشيخ زايد رحمه الله في إشارة إلى الإبحار نحوالمستقبل، كذلك في لوحاتها الأخرى الأربع التي حملت تركيبة من الرموز خاصة لوحتهاالتي خطت تحتها كلمة “أبوظبي” بـ”الإنجليزية”، وفي وسطها السفلي رسمت ساعة بيضاءتشير إلى زمن محدد، ويقف عند الساعة الشيخ زايد -رحمه الله- وحوله أناس من شعوبالأرض المختلفة في اصطفاف إنساني، وبالطبع تتحول اللوحة هنا إلى معنى شامل وإلىألوان مفتوحة على اشتغالات وسحر الشعوب بألوانها.
في هذه اللوحة، ترى الإنسان الأسمر والأبيض والشرقي والغربيوالرجل والمرأة والطفل والشيخ، والعامل والعالم كلهم يقفون خلف الشيخ زايد رحمهالله، وهو يتطلع إلى الزمن الآتي، بحس إنساني وبشمولية أخاذة وبرموز شفيفة لا تحتاجإلى كثير من التأويل.
ولم تنس جنيفر سايمون أن توشح لوحتها بطغيان اللون الأخضر فيأسفلها مع إشارات دلالية على صفاء لوني أزرق يشير إلى سماء التسامح التي غرسهاالشيخ زايد -رحمه الله- بين الناس على أرض الإمارات.
وأعتقد أن قراءة عناوين لوحات جنيفر سايمون، وهي “الحب” و”مكتشفالطريق” و”مع الألماس” و”المدينة التي ولدت فيها” تؤكد أن روح التسامح وعشق سايمونإلى المدن ورؤيتها الثاقبة قد جعلاها تتجه إلى هذا النمط من التشكيل.
الأشكال التقليدية
أما التشكيلة البريطانية الأخرى وهي جانين عبيني المتخصصة بفنالنسيج، فقد تناولت الطبيعة في إطار فن النسيج على القماش ولم تبتعد عن طبيعةالإمارات أيضاً في استلهام واقعي لثقافة شعبها.
والنسيج لدى جانين عبيني مصحوب بأشكاله التقليدية التي عادة مايتكون منها وهو الاعتماد على المربع والمستطيل والمثلث ضمن تداخل تصويري بارع منأجل خلق شكل يضم كل هذه الأشكال، إلا أنه يمتلك شكله الخاص.
استخدمت جانين رموز المنطقة، بل الإمارات تحديداً، وهي شكل سعفالنخيل ضمن توزيع لوني يضم الأخضر والبرتقالي والبني في إطار توزيعي لم يخرج إلىالعشوائية، بل كان محسوباً بدقة، كما أن الخطوط لديها تمثل دلالة ممتزجة باللون،تشكل من خلالها جسراً بين رؤى مختلفة، في استغلال كامل لفضاء اللوحة معبرة عن بعدتجريدي غير منظور يتحكم في الشكل لديها.
الفنانة الثالثة ايميلي جوردن الأميركية المولد التي شكلت منالنحت جسد اللوحة، حيث استغلت مجموعة من الدهانات الاكريليكية الممزوجة معالبارافين والمواد الصبغية والأوراق الذهبية والفضية لتشكيل لوحتها التي طعمتهابالنحاسيات.
يحقق هذا النموذج عن الفن المعاصر تعمقاً بصرياً ملحوظاً فياللوحة له تأثير قوي وفوري لإبهار وإثارة المشاهد والتي غالباً ما تكون من الأشكالالحسية والألوان والتصميمات في الفن العربي والمغربي، حيث نرى الأبواق المقوسةوالتمائم المعلقة والقباب والخناجر الشرقية، كما أن أميلي جوردن لم تبتعد عن تصويرالمدن في لوحتها “سيتي سكيب 2010” بحجم 50 * 160سم.
تعترف جوردن بانبهارها بالأشكال الحسية والألوان والتصميمات فيالفن شرقياً وغربياً إلا أن الأبواب والشبابيك الشرقية - المغربية خاصة - تتصدرلوحاتها في فضاء زخرفي واضح فيه استعادة لفن إسلامي وتأثر به كما به كثير من رموزالموروث المحلي الإماراتي.
المهنة والفن
أما الفنانة البريطانية داكشا بولسارا، فقد تمثلت عالم مهنتهاكعالمة وطبيبة في سماء لوحاتها، حيث تستخدم الألوان المائية ضمن احتفال كبيربالتجريد، إذ نرى العلم والطبيعة - البشرية تحديداً - مركزين في مختلف لوحاتها، كماتبدو علامات الاستقرار الداخلي والتوازن هاجساً لديها.
الدم والنزيف هما وسيلتا رؤيتها لإنقاذ البشر في صالات المستشفياتوفي فضاء لوحتها، إذ إن اهتمامها بهذه العوالم متأت من فعل وظرف شخصي حاولت أنتجعله فناً، حيث قطرات الدم تتساقط من أعلى اللوحة في تراكم يحمل احمراراً شفيفاًوخوفاً إنسانياً من الموت والدم.
ألوين بوشل الجنوب أفريقي يقترب من داكشا بولسارا كونه طبيباًأيضاً وفناناً، يشتغل بالزيت والاكرليك والوسائل المختلطة بالحبر.
يهتم ألوين بالشخصية التي لا يتركها مرسومة وحدها بل يجاورها جزءمن عالمها، القطط لديه سوداء وكثيرة في اللوحة وتقفز في كل الأماكن، والشخصيةمتعددة، الواقعية منها والإطارية المعلقة على الجدران، واستخدام الكرسي يبدو طريقةثابتة في لوحة الوين بوشل الذي يؤمن أن “الفن مثل الطب، رحلة مع التحديات والقضاياالتي تحتاج إلى مواجهتها وحلها، فالطب يتطلب تفكيراً موضوعياً ومنطقياً يستند إلىالمعرفة، أما الفن فهو يتطلب التحرر من المنطق وبحاجة إلى الفكر الخلاق”.
الجسد لدى بوشل “امرأة أو رجل” تتشابه ملامحه ورغباته وتكتسب منبعضه البعض الإمتاع والاهتمام والتأثر، والعاطفة هي واحدة إزاء الذات والآخروالحيوان فالحياة قيمة لديه.
القاهرة الوطني للشباب للفسيفساء” في سنة تخرجها نفسها.
ثقافة لونية
وفي قراءتنا هذه لا بد أن نشخص أعمال الهندية “نيناراي” التي لمتنفصل عن بنية ثقافتها الاجتماعية والموروثية، وكما هو معروف أن ثمة ثقافة لونيةتمتلكها البنية الاجتماعية الهندية، حيث الحب العارم للألوان، كما أنها تستوحيلوحاتها من الناس والأماكن المألوفين، فما بين الشرق والغرب يتأرجح عالمها، حيثالشكل والأفكار تمتزج بالألوان الضاجة، وضمن عالم خيالي يتسم بالغرابة والإلفة،فالغموض والسكينة والجمال هي ما يتشكل من عالم نيناراي، بالإضافة إلى فلسفة اللونلديها، حيث المعنى ينبثق من عمق اللون وفلسفته.
ويشكل فن البريطانية جولي عبيني الأردنية الأصل امتزاجاً بين فنالشرق بالغرب، حيث الانطباعات لديها إزاء الواقع تنهال منها رؤى حالمة إزاء المكانالتاريخي الذي أدهشت به في دولة الإمارات وتراثها.
يمتزج لديها الفحم بالحبر والمعجون بالطلاء والتصوير الفوتوغرافيفي استخدام بارع للتقنية الرقمية في تكوين لوحة فنية فريدة.
وأخيراً، نرى في منحوتات ليندا استيفانيان الإيرانية الإمينيةالأصل تجليات ميادين الفن في كل حركة من معدنها الذي يشي برموز جميلة.
لقد استفادت ليندا من فنون النحت الإيرانية وكبر لديها هذا الهمفي أبوظبي التي جاءتها عام 2006، حيث عرضت أعمالها النحتية التي تعبر عن رقة فيالروح وعن أناشيد للسلام والفكر والكون.
ليندا تطوع البرونز لتكشف عن صنعة بارعة، فالمعدن يرق بين يديها. في عمليها وفرة من الديناميكية والجمالية وهما منحوتتان تحملان عنواناً واحداً هوالوطن الأم” اختارت لهما الفولاذ الذي لا يصدأ والورق، وهما يرمزان أولاً لأمإماراتية فاتحة يديها بالدعاء إلى الله وقد لبس البرقع على وجهها، وقد أهدت لينداهذا العمل للأمهات كافة في الإمارات. وفي العمل الثاني “الوطن الأم”، أيضاً تستوحيفكرته من تراث أرمينيا، حيث يمثل الشكل الرمزي والعصري للأم الأرمينية في حالة تمثلتأملي وهي واقفة تصلي.

التعليقات