إسماعيل شمّوط: ملحمةُ الألوانِ وسيرةُ الشّتات

-

إسماعيل شمّوط: ملحمةُ الألوانِ وسيرةُ الشّتات

 

يعود الفضل لإسماعيل شموط في إرساء القواعد الأولى للفن الفلسطيني المعاصر، فمنذ الخمسينات وهو يكرس جل جهده لبناء قاعدة متينة للفنان التشكيليّ الفلسطيني؛ فقد أقام أول معرض شخصي له عام 1953 في مدينة غـّزة، أتبعه عام 1954 بمعرض آخر في القاهرة، شارك فيه كل من تمام الأكحل ونهاد سباسي، تناولوا في أعمالهم الموضوع الفلسطيني من أجل إعطاء الفن هوية وطنية، تعكس مأساة شعب سلبت حقوقه وشُرّد في شتى بقاع الأرض، وكان للتشريد هذا ردة فعلٍ معاكسة لما أراده الآخرون للهوية الثقافية الفلسطينية.

الفنّان الرّاحل إسماعيل شمّوط

وعلى الرغم من أن معظم الفنانين التشكيليين الفلسطينيين استقروا في بلدانٍ عربيةٍ وأجنبية، مثل لبنان وسوريا ومصر والأردن واليابان والولايات المتحدة وفرنسا، يكتسبون فيها ما يتاح لهم من خبرةٍ نظريةٍ وعملية، بما فيها إرسالهم في بعثات أو تدريبهم في الكليات الفنية المحلية، وإعطائهم وظائف ملائمة، إضافة إلى المشاركة في مسيرة تلك البلدان الفنية، إلاّ أنّ أغلب هؤلاء الفنانين حافظوا على هويةٍ فنيةٍ فلسطينية تجلـّت في أعمالهم من خلال اختيارهم للموضوعات التي عكست قضيتهم الوطنية بنكبتها ونكستها، وأبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية. وكان إسماعيل شموط أول من عكس مأساة شعبه وتطلعاته في أعماله الفنية المبكرة، وبعد أن جمع الحب بينه وبين زميلته تمام الأكحل، وتزوجها، أصبح الواحد منهما متممّا للآخر في العمل على تثبيت الهوية الوطنية من خلال العمل التشكيلي.

يشكـّل أعمال شمّوط " خلاصة تجربةٍ وطنيةٍ وفنـّية دامت أكثر من نصف قرن "، تحكي اللوحات المصوّرة فيه تاريخ شعب، وما لحقه من أذى أدّى إلى العيش في الشتات والتشرذم وضياع الأنفس والأحلام والممتلكات. وفي الوقت ذاته تؤكد هذه الأعمال الدرامية على صمود الإنسان الفلسطيني وإصراره على الاستمرار في تأكيد الذات، واسترجاع الحق، وطلب العدل.

كانت هناك في عقدي العشرينات والثلاثينات بعض أعمالٍ تصور أحداثًا تاريخية في العالم العربي، ولكنها تظلّ أعمالاً فردية تصور حدثًا معينًا في وقتٍ محدد؛ أما أعمال إسماعيل شموط وتمام الأكحل فإنها تصور، بأسلوب واقعي، أهمّ الأحداث التي أصابت الشعب الفلسطيني منذ ضياع وطنه، وبالتالي يشكل هذا المعرض سلسلة ملحمية في تاريخ الأمة العربية، وتدوين تشكيلي لقضية ما تزال قائمة تشكل مسؤولية في ضمير المجتمع الدوليّ.

وتحتضن العاصمة الأردنية عمان اليوم، معرض " السيرة والمسيرة "، والذي يعرض في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، ويشكل نقطة محورية من حيث الأداء الفنيّ للتعبير عن مضمون قضيةٍ عربيةٍ إنسانية في مسيرة التصوير العربي الحديث.

" لقد عرف الأدب العربي الملحمة الوطنية، ولكن هذه هي المرّة الأولى التي تـُجَسَّد فيها الملحمة من خلال الفنّ التشكيليّ، ليجعل من معرض "السيرة والمسيرة" نقطة انطلاقٍ لأسلوبٍ ونوع جديدين في الفنّ العربيّ المعاصر."، وفقًا للأميرة وجدان علي.

أما عن حياة شموط، فقد ولد عام 1930 في مدينة اللد لعائلة متوسطة الحال مكونة من عشرة أنفار، وكان والده يعمل ببيع الخضار، بدأ بالرسم منذ صغره، وكانت رسومه الأولى للطبيعة الجميلة، وقد لاقى التشجيع والتوجيه من معلم الفنون في مدرسته داود زلاطيمو، الذي علمه أصول الرسم بأقلام الرصاص والأحبار الصينية والألوان المائية والطباشير، ومزاولة هواية النحت على أحجار الحوّار الكلسي، في الوقت الذي لم تلق مواهبه أي اهتمام من والده لاعتبارات تحريم ديني، وقد شارك برسومات في معرض مدرسي ولفتت موهبته الأنظار، قبيل النكبة زاد اهتمامه بمجريات الأحداث في فلسطين ورسم صور المجاهدين والقادة، كان منهم الحاج أمين الحسيني، وبعض القادة العرب عام 1948.

لجأ إسماعيل مع عائلته إلى مخيم للاجئين في خان يونس بقطاع غزة، وقد توفي أخوه الصغير توفيق عطشًا أثناء الهجرة، مما جعله يرسم لوحة العطش في الخمسينات؛ وقد قال إسماعيل شموط في إحدى المقابلات إن للنكبة التأثير الأكبر على مجرى حياته وعلى توجهه الفني..

في المخيم عمل بائعا للحلويات لمدة عام، ثم مدرّسا متطوعا في مدارس اللاجئين.


عام 1950 أقام معرضا ارتجاليا في مدرسة خان يونس باع خلالها لوحة، الأمر الذي شجعه على الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، وأثناء تعليمه هناك عمل في رسم الإعلانات السينمائية. يعتبر معرضه عام 1953 بمشاركة أخيه ميل، أول معرض فن تشكيلي على أرض فلسطين بعد النكبة. أما معرضه المشترك مع تمام الأكحل ونهاد سباسي عام 1954 فقد حمل عنوان " اللاجئ الفلسطيني "، وكان المعرض تحت رعاية الرئيس المصري آنذاك، جمال عبد الناصر، وبحضور القيادة الفلسطينية. بعد المعرض حصل على منحة دراسية مقدمة من الحكومة الايطالية، فانتقل في تلك السنة إلى إيطاليا ليدرس في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، حيث قضى فيها عامان، انتقل بعدها للعيش في بيروت، حيث أقام مع شقيقه مرسمًا للرسم والإعلان التجاري وتصميم أغلفة الكتب والرسوم الداخلية التوضيحية، فاعتاش من رسم أغلفة الكتب، والصحف والمجلات وذلك بين الأعوام 1957 – 1964

عام 1969، انتخب شمّوط ليكون أول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، ثمّ أول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب عام لاتحاد الفنانين العرب، وقد نشر بين عامي 1957 – 1995 العديد من المؤلفات والكتابات الفنية والثقافية والتراثية، وحتى عام 1998 أقام معارض شخصية، معظمها بمشاركة زوجته الفنانة تمام الأكحل، في معظم البلاد العربية وفي عدد كبير من بلاد العالم. 

ورحل شموط بعد رحلة غنية وفريدة من الإبداع عام 2006.

التعليقات