أسـلـوبـيّـات في "الـلـصّ والـكـلاب"

-

أسـلـوبـيّـات في
ملاحظتان:
*المادّة التالية غير متكاملة، إذ تنقصها بضع ملاحظات، لم أتمكّن من إتمامها قبل امتحان البجروت.
*في إعداد أجزاء غير قليلة من هذه المادّة، استعنتُ كثيرًا بمادّة غير مطبوعة أعدّها الزميل الأستاذ صالح أبو ريّا لطلبته، وبالدراسة الشهيرة القيّمة التي أصدرها الأستاذ البروفيسور محمود غنايم قبل نحو عَقدين: "تيّار الوعي في الرواية العربيّة الحديثة". وهنالك عبارات ليست بقليلة مأخوذة من هذا الكتاب المهمّ كما وردت فيه حرفيًّا؛ لكنّي لم أُلزِم نفسي بأن أشير إلى ذلك بعلامات تنصيص. للأستاذين وفير شكري وامتناني.

بعض الأسلوبيّات التي استخدمها نجيب محفوظ في "اللصّ والكلاب" استدعاها كَوْنُ هذه الرواية من ذاك النوع من الروايات الذي يُعْرَف برواية "تيّار الوعي" (أو: تيّار الشعور) (stream of consciousness)؛ وهي الرواية التي تهتمّ بتقديم محتوَى الشخصيّة الذهنيّ، وترْك هذا المحتوى ينساب مثل "التيّار". وتتميّز رواية تيّار الوعي (وذاك مصطلح نقديّ أدبيّ مستقًى من مجال علم النفس) بتكنيك فنّيّ خاصّ يتركّز حول تصوير ما يجري في داخل ذات الشخصيّة، وما يجيش داخلها من مشاعر، وكذلك تصوير ما يظهر على سطح الوعي سواء أكان مترسّبًا من فترة زمنيّة بعيدة أو ناتجًا عن إحساس واندماج بالواقع، أو قائمًا في النفس للتطلّع إلى عالم آخر قد يتحقّق أو لا يتحقّق.
من أهمّ عناصر التكنيك الفنّيّ في رواية تيّار الوعي: التداعي الحُرّ (association free)، والمونولوج الداخليّ (internal monologue)، والارتجاع الفنّيّ (flash-back)، وغير ذلك. بهذه العناصر، الكثير ممّا يصل إلى القارئ من معلومات حول الشخصيّات والأحداث والمواقف يأتيه عَبْرَ ما يدور في ذهن وذاكرة بطل الرواية سعيد مهران من أفكار وخواطر ومشاعر وهواجس.
على سبيل المثال، حين يَرِدُ في الفصل الأوّل "اجمعهم حولك يا جبان. إنّما جئت أجسّ حصونك. وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار."، يصوّر الكاتب ما يجول في خاطر سعيد مهران، في تلك اللحظة التي يدعو فيها عليش المخبرَ حسب الله وسائرَ رجال الحيّ إلى الدخول إلى البيت بصحبة السجين المسرَّح (سعيد مهران) الذي جاء إلى بيته (الذي أصبح بيتًا لطليقته وصديقه/مُساعِدِه) آملاً أن يحظى بابنته الوحيدة الصغيرة لتعيش تحت كنفه هو. بهذه الكلمات، يصوّر الكاتب موقفَ البطل المحتقِر لعليش، ويكشف بهذا الكلام المتوعِّد عن رغبته العارمة في الانتقام، ويلمّح إلى بعض ممّا يفكّر ويخطّط للقيام به مستقبَلاً. وكما في سائر المواضع التي ينتقل فيها الكاتب من السرد الخارجيّ أو الحوار إلى المونولوج الداخليّ، هنا كذلك يستغني عن مفردات القول، فلا يقول -مثلاً-: "وقال سعيد في سرّه"... وبذلك يحقّق الكاتب أكثر من غرض: يحقّق اقتصادًا في اللغة، ويحقّق بهذا الانتقال القافز شيئًا من المفاجأة التي من شأنها أن تزيد انتباه القارئ -بُعَيْد إحداث بعض البلبلة القصيرة لديه-.
وما يبرّر لجوء محفوظ إلى تيّار الوعي طريقةً أو أسلوبًا فنّيًّا بارزًا ورئيسيًّا هو أنّ هذا الأسلوب، الذي يقوم -أكثر ما يقوم- على المونولوج الداخليّ، ينسجم مع حالة الوحدة والاغتراب التي يعيشها تحت وطأتها بطلُ الرواية الذي يستبدّ به إحساس بالتعرّض إلى الخيانة والتنكّر (ومحفوظ نفسه عبّر عن هذا في لقاء معه، حيث أكّد أنّه ليس ثمّة ما هو أكثر صدقًا وواقعيّة من اختياره لهذا الأسلوب). وواقعيّة رواية تيّار الوعي ليست تلك الواقعيّة المألوفة التي تحفل بالوصف الخارجيّ والتفاصيل المطوَّلة المتعلّقة بالمكان والشخصيّات وغيرها؛ بل هي واقعيّة "داخليّة": تصف واقع الإنسان الداخليّ وتستبطن ما يقبع في منطقة اللا شعور؛ تتوخّى الصدق الفنّيّ في التعبير عن ذلك العالَم الخفيّ في الإنسان؛ تتّخذ الواقع النفسيّ بديلاً للواقع الحسّيّ/المادّيّ.

عدم الانتظام وعدم الاكتمال
في اعتماد تيّار الوعي يلاحَظ عدمُ الانتظام، والتقطّعُ أو عدمُ الاكتمال. لنأخذ -شاهدًا على ذلك- بعضًا ممّا يَرِدُ في الفصل الأوّل:
"فقال المخبر بضجر:
- ادخلوا في الموضوع واعفونا من اللفّ..
فتساءل سعيد بسخرية خفيّة:
- من أيّ ناحية؟
- ناحية واحدة هي التي يجوز الكلام فيها وهي ابنتك!
وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب! الويل .. الويل.. أريد أن أتلقّى نظرة من عينيك، كي أحترم من الآن فصاعدًا الخنفساء والعقرب والدودة. سحقًا لمن يطرب لأنغام امرأة. ولكنّه هزّ رأسه بالإيجاب ، فقال أحد ماسحي الجوخ:
- بنتك في الحفظ والصون، مع أمّها، وشرعًا يجب أن تبقى مع أمّها بنت ستّة أعوام، وإن شئت أزورك بها كلّ أسبوع"...
فهنا يلاحَظ أنّ قوله "وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب!" جملة غير كاملة، مقتطَعة. وهي تعني: "وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب، ألا يجوز الكلام فيها؟!". كذلك الأمر في قوله التالي: "الويل.. الويل.."؛ فالمقصود: الويل لكم!".
في هذا الاقتباس خمس جمل متتابعة تُصوِّر ردَّ الفعل الداخليّ لدى سعيد مهران حِيالَ محاولة تحكُّم هؤلاء بسير الجدال. هي جمل متتابعة، لكنّها غير كاملة التواصل. أمّا الجملتان التاليتان لهذه الخمس ("ولكنّه هزّ رأسه بالإيجاب، فقال أحد ماسحي الجوخ"...)، فمتّصلتان واضحتان، وهما من قَبِيل السرد الخارجيّ.
ويبدو أنّ الاتّصال الشكليّ للسرد الخارجيّ يوظَّف هنا لإعادة الإيقاع المتعوَّد عليه إلى النصّ، وبذلك ينبَّه القارئ إلى الانتقال من تيّار الوعي إلى السرد الخارجيّ. أمّا التقطّع في جُمَل تيّار الوعي، فهو محاكاة للواقع الداخليّ الذي نتخيّله متوزّعًا وغير منتظم ولا يَثبت على حال؛ إذ إنّ ما يدور في ذهن المرء من أفكار ومشاعر وذكريات لا يسير بالضرورة متسلسلاً مُحْكَمًا، ولا سيّما في لحظات الانفعال وغياب الصفاء عن الذهن؛ إذ عندها تفيض تلك الأفكار والمشاعر والذكريات على سجيّتها، دون ضبْط ودون منطق يحكمها. وفي حالة بطل "اللصّ والكلاب"، المأزوم المطارَد المخذول المخدوع المدفوع برغبة جارفة في الانتقام، ثمّة غضب شديد واندفاع وتوتّر. كلّ هذا يبرّر ما في المونولوج الداخليّ من عدم انتظام وانتقالات مفاجئة. بعبارة أخرى: الكاتب يهمل -متعمّدًا- الترتيبَ الزمنيّ للأحداث، ويعتمد الترتيب الشعوريّ.

الـتَّـفْـتِـيـت
تعتمد "اللصّ والكلاب" تقنيّة «التفتيت» (Atomization) في تقديم الشخصيّات والأحداث، حيث تُرسم الأحداث والشخصيات على مراحل خلال القصة، وتُبنى من «نُتَف» المعلومات التي يتجمّع بعضها فوق بعض على نحوٍ تراكميٍّ، تتكامل خلاله الأحداث والشخصيّات كلّما تقدّم القارئ في الرواية، فتتكشّف جوانب كانت تبدو غامضة أو غير مترابطة أو غير معقولة. على سبيل المثال، قصّة الحبّ التي جمعت بين قلب سعيد مهران وقلب نبويّة تفاصيلُها مبثوثةٌ في مواضِع متباعدة في الرواية، ويحتاج القارئ إلى لملمة هذه التفاصيل كي تغدو أمامه متكاملةً. كذلك الأمر مع خلفيّة مهران العائليّة. هكذا قد يضمن الكاتب أن يكون القارئ عنصرًا فاعلاً، قارئًا متيقّظًا، تدفعه الحيرة ومحدوديّة الوضوح إلى حالة من التيقّظ والتساؤل والترقّب والتفاعل الإيجابيّ مع النصّ الروائيّ.

الـتـداخُـل
نجد الراوي العالِم بكلّ شيء يتقمّص شخصيّة سعيد مهران، يتحدّث بلسانه ويفكّر بعقله ويحسّ بأحاسيسه ويرى ما يرى. يتسلّل إلى وعيه وأفكاره وذكرياته وأحلامه وفلسفته وتخيّلاته. الراوي ليس محايدًا، بل هو متفاعل ومشارِك مشارَكة فعّالة في صنع الرواية.
مثال [من الفصل العاشر]: "ومضى إلى حجرة الجلوس فاستلقى على كنبة. وحيد بكلّ معنى الكلمة حتّى كتبه منسيّة عند الشيخ علي الجنيدي. وتسلّى بالنظر إلى السقف الأبيض الباهت المعروق وكأنّه مرآة تعكس بساط الحجرة الـمُنْجَرِد. ومن خلال النافذة بدتْ سماءُ المَغيب كَدِرَةً يدور بها سربٌ من الحمام من آن لآن. وجفولك يا سناء مؤلم حقًّا كمنظر القبر. ولا أدري إن كنّا سنلتقي مرّة أخرى، أين ومتى؟ ولن يخفق قلبك بحبّي في هذه الحياة المليئة بالرصاصات الطائشة. وكالرصاص تطيش رغائب كثيرة في الدنيا مخلِّفةً وراءها سلسلةً من الحلقات المحزنة. ابتداءً من الحلقة الأولى عند بيت الطلبة في طريق مديريّة الجيزة. لم يكن عليش سدرة إلاّ شخصًا عابرًا لا قيمة له؛ أمّا نبويّة فقد هزّت القلبَ حتّى اقتلعته من جذوره".
هنا تختلط الأحداث الحاضرة بالذكريات المختلفة غير المرتَّبة، وتثير في نفسه تساؤلات حول المستقبل. كلّ هذا في سياق نصّ متعثّر يحاول الكاتب من خلاله تصوير الوعي بصدق وواقعيّة، مبقيًا على عدم التنظّم بواسطة صياغة لغويّة تظهر بصمات الشخصيّة وتتستّر على بصمات الراوي.
مثال آخر [بداية الرواية]:" مرّة أخرى يتنفّس نسمة الحرّيّة، ولكن الجوّ غبار خانق وحرّ لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطّاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصمّ يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيّارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفترّ عن ابتسامة... وهو واحد، خسر الكثير، حتّى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عمّا قريب أمام الجميع متحدّيًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتّى الموت، وللخيانة أن تكفّر عن سحنتها الشائعة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب"...
في هذا المقطع الاستهلاليّ الروائيّ الحَدَثيّ (الذي يشكّل بؤرةَ الرواية؛ وذلك أنّه يلخّص كلّ الأحداث التي وقعت والتي ستقع داخل الرواية، كما يوجِز عقدةَ الروايةِ الجوهريّةَ التي تتمثّل في الانتقام من الخونة والثأر من الذين غدروا به -وهم: المعلّم عليش، وزوجته نبويّة، ورؤوف علوان)، في الجمل الأربع الأولى ليس ثمّة تسلسُل زمنيّ، إذ إنّ خروج سعيد مهران من باب السِّجن وإحساسه بالجوّ الخانق في الخارج ورَدَ في النصّ قبل ذِكْر أخذه حذاءه المطّاطيّ والبدلة.

الـوصـف الـمـوظَّـف
الوصف في بداية الرواية -كما في الكثير من مواضع هذه الرواية- ليس عبثيًّا، ولا هو وصف لمجرّد الوصف، ولا هو مجرّد لوحة خلفيّة أو مسألة خارجيّة شكليّة، بل هو وصفٌ موظَّفٌ، هو وصفٌ بمثابة شبكة دلاليّة وبلاغيـّة ذات تنظيم دقيق. ولهذا الغرض انتقى الكاتب لغة وصفيّة شاعريّة خاصّة، معتمدًا على النعوت ("خانق"؛ "لا يُطاق"؛ "باب السجن الأصمّ"…). هذه النعوت في مُجْملها تُجسّد رؤيةَ البطل للعالم الخارجيّ، وتعكس كذلك نفسيّةَ الشخصيّة على المستوى السيكولوجيّ. بل إنّ الكاتب، بهذه الأوصاف النعتيّة، يلمّح باختزال إلى ما سيواجهه البطل لاحقًا مِن هَمّ واغتراب ووَحشة ومصير مأسويّ. هذا ما يمكن اعتباره من قبيل التلميح المنبِّئ (foreshadowing)، حيث يبثّ الكاتبُ إشاراتٍ أقْرَبَ إلى الخفاء محمَّلةً بالإيحاء إلى أحداث لاحقة مُهِمّة.

الـتـكـرار
مثال [من الفصل الأوّل]: "وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدي الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة. وتبدّت في فستان أبيض أنيق وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضوبتين. وتطلّعت بوجه أسمر وشعر أسود مسبسب فوق الجبين فالتهمتهما روحه وجعلت تقلب عينيها في الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصّة باستنكار لشدّة تحديقه ولشعورها بأنّها تُدفع نحوه، وإذا بها تفرمل قدميها في البِساط وتميل بجسمها إلى الوراء. لم ينزع منها عينيه ولكن قلبه انكسر، انكسر حتّى لم يبقَ فيه إلاّ شعور بالضياع. كأنّها ليست بابنته، رغم العينين اللوزيّتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل. ونداء الدم والروح ما شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة في ضمها إلى صورة حتى الفناء؟"...
الجملة الأولى يسيطر عليها الراوي الخارجيّ. الجملة الثانية ("ظهرت بعد انتظار"...) لا يمكن أن تكون بصوت واحد، بل يدخل هنا صوتُ الشخصيّة؛ فليس الراوي هو مَن يرى أنّ ظهور البنت حدثَ بعد انتظار "ألف سنة" (وتلك مبالغة تكشف عن مقدار تحرُّق المنتظِر وتشوُّقِه وتخوُّفِه)، بل الشخصيّة (سعيد مهران) هي التي ترى ذلك.
التكرار هنا مؤشّر أسلوبيّ ينبّه القارئَ إلى انتقال السرد من الخارج إلى الداخل. كذلك تأتي هذه الجمل استجابةً للانفعال الشديد الذي يعتري الشخصيّة، أو تعبيرًا عن ارتفاع النبض النفسيّ والصدق من حيث الأحاسيس.
من ناحية أخرى، في بعض المواضع جاء التكرار موحِيًا معمِّقًا، كما في الفصل الأخير حيث تتكرّر الكلمات "موت" وَ "ظلام" وَ "قبر"، لتوحي كلّها بالمصير المأسويّ الذي يشرف عليه البطل المهزوم. والمصير هنا هو الموت الذي ينهي حياة سعيد العبثيّة. كلّ الأجواء الأخيرة توحي بهذا المصير وتُعمِّق لدى القارئِ الإحساسَ به؛ بل إنّ كثيرًا من التفصيليّات الوصفيّة، في العديد من مَشاهد الرواية في بدايتها ووسطها ونهايتها، تمهّد لهذا المصير أو تلمّح إليه، كما في اختيار الكاتب المتعمّد أن يكون ملجأ سعيد في بيت نور المطلّ على المقابر والواقع في طرف المدينة؛ ففي هذا تمهيد وإيحاء يجعلان المصير المأسويّ منطقيًّا ومُقْنِعًا، فالمقابر تشير وتذكّر بسطوع إلى الفناء، وطرف المدينة يذكّر بحافة الحياة وينسجم مع حقيقة أنّ صاحبة البيت والآوي إليه كليهما يعيشان في هامش المجتمع، يعانيان الرفض والنبذ والإقصاء. الكاتب يلجأ إلى الإيحاء، يبتعد عن المباشَرة في أحيان كثيرة، حتّى إنّ الأمر قد التبس على كثيرين ممّن تناولوا هذه الرواية، فظنّوا أنّ نجيب محفوظ يقصد بقوله في نهاية الرواية "فاستسلم بلا مبالاة... بلا مبالاة.." أنّ البطل قد سلّم نفسه لـِ "الكلاب" (الشرطة أو النظام الحاكم الظالم الذي يحمي اللصوص الكبار والمنتفعين والمنحرفين عن درب الثورة)، في حين أنّ الصحيح هو أنّ البطل استسلم للموت بعد أن أصيب برصاص الشرطة، وما الفقرة الأخيرة في الرواية سوى تصوير عميق واقعيّ (وشاعريّ إيحائيّ) للّحظات الأخيرة التي يعيشها بطلٌ لم يتمكّن من إثبات بطولته، فلا تَصالَحَ مع واقعه، ولا استطاع تغييره، وحُكِم بالإخفاق على محاوَلاته الفرديّة للانتقام ممّن خانوه:
" وفي جنون صرخ:
- يا كلاب!
وواصل إطلاق النار في جميع الجهات.
وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتة فيسود الظلام. وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت. وكف عن إطلاق النار بلا إرادة. وتغلغل الصمت في الدنيا جميعا. وحلت بالعالم حال من الغرابة المذهلة. وتساءل عن.... ولكن سرعان ما تلاشى التساؤل وموضوعه على السواء وبلا أدنى أمل. وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل. وأنه لا بدّ قد انتصر. وتكاثف الظلام فلم يعد يرى شيئًا ولا أشباح القبور. لا شيء يريد أن يرى. وغاص في الأعماق بلا نهاية. ولم يعرف لنفسه وضعًا ولا موضوعًا ولا غاية. وجاهد بكلّ قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة. ليظفر عبثًا بذكرى مستعصية. وأخيرًا لم يجد بدًّا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة... بلا مبالاة".

الـمـبـنـى الـمـقـلـوب
مثال [من الفصل الأوّل]: "ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الجانبين، وارتفعت حرارة التهاني، وسرعان ما وجد نفسه مطوَّقًا من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شكّ"...
هنا أتى التعبير "ولا شكّ" في نهاية الجملة بدل أن يوضع قبل هذا الموضع. هذا القلب يعكس تدخّل الشخصيّة في القَصّ، فكأنّها تدخّلت في السرد في اللحظة الأخيرة. لو خلت الجملة من التعبير "ولا شكّ"، لبدا الأمر سردًا خارجيًّا من الراوي. ولو نظرنا إلى هذا التعبير باعتباره من وجهة نظر الراوي (الراوي لا الشخصيّة)، لَبَدا لنا تعبيرًا فائضًا عن النصّ لا لزوم له (أو لَبَدا إقحامًا غير مقْنع من طرف الراوي لِذَاتِه)؛ فالراوي ليس بحاجة إلى هذا التعبير لإضفاء جوّ الصدق والأمانة على المعلومات التي يقدّمها عن سلوك الشخصيّات لإقناع القارئ، وذلك لأنّه راوٍ عالم بكلّ شيء وموثوق به. لقد قام الكاتب هنا بما يشبه عمليّة "المونتاج"، إذ مزج بين الخارج والداخل ليعكس التداخل الذي حدث في وجهتَي النظر؛ وهو انتقال خفيّ من وجهة نظر الراوي إلى وجهة نظر الشخصيّة. بهذا بدت هذه الجملةُ المقتبَسةُ جملةً واحدة متلاحمة خاضعة لسيطرة الراوي أو سيطرة الشخصيّة.

انقطاع الإحـالـة
والإحالة هي الإشارة إلى ما يمكن اعتباره "مرجعًا" معيَّنًا، أي إلى شخصيّة أو حدث أو مكان أو زمن أو غير ذلك ممّا يعود إليه الكلام الذي يحمل إشارة لفظيّة.
جاء في الفصل الأوّل: "وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سَرق السارقُ، وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة". من هم الخونة؟ ما علاقة السارق الذي سرق واختفى بالخونة؟
التهديد هنا تابع لما سيأتي. متابَعة الحوار الداخليّ تكشف أنّ المكان الذي يسير فيه سعيد وقعت فيه أحداث مختلفة؛ منها أنّه هو نفسه سَرق مرّةً ولم يُقبَض عليه، وفي مرّة لاحقة قُبِض عليه. لِمَ يسبق الكلامُ التهديديُّ ذِكْرَ الخوَنة؟ هذه قضيّة أسلوبيّة. ولفهم أهمّيّتها نشير إلى أنّ الترتيب العكسيّ (المألوف) لهذين الأمرين (التهديد وذِكْر الخونة) يجعل النصّ أكثرَ تنظُّمًا لكن أقلَّ مفاجأةً.
قبل ذاك، ورد ما يلي: "أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أنّ باب السجن لن ينفتح، ولعلّكما تترقّبان في حذر، ولن أقع في الفخّ، ولكني سأنقضّ في الوقت المناسب كالقدر. وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحَرّ والغبار والبغضاء والكدر، وسطَعَ الحنانُ فيها كالنقاء غِبَّ المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟... لا شيء، كالطريق والمارّة والجو المنصهر. طَوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرّجت في النموّ وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظّ بمكان طيّب يصلح لتبادل الحبّ، ينعم في ظلّه بالسرور المظفّر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟ استعِنْ بكلّ ما أوتيتَ من دهاء، ولتكن ضربتك قويّة كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلّق الجدران كالفأر ويَنفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأيّ وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقيَّ كالكلب؟ ألم أعلّمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذي جعل من جامع الأعقاب رجلاً؟ ولم تنس وحدك يا عليش ولكنها نسيت أيضاً، تلك المرأة النابتة في طينةٍ نتِنة اسمها الخيانة". الفخّ الذي يخشاه سعيد لا يعرف القارئ ماهيّته إلاّ بعد بضع صفحات، وذلك في الحوار الذي يجريه سعيد مع آخرين في بيت عليش. كذلك الأمر في ما يتعلّق بسناء، إذ لا يعرف القارئ صلتها بسعيد إلاّ بعد صفحات.
وقبل هذا، وردَ ما يلي: "نبويّة عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب"... من هما هذان الـ "أنتما"؟ يذكرهما قُبَيل ذلك بدون فاصل (أو رابط) كلاميّ بينهما ("نبويّة عليش").
من وظائف الإحالة المنقطعة إشراك القارئ في ملء الفراغات، إذ إنّها تُقدِّم أفكارًا لم تُصَغْ صياغةً نهائيّة، وذلك من قَبيل التصوير للوعي الداخليّ.


التعليقات