أن نروي الهزيمة .../ أنطوان شلحت

-

أن نروي الهزيمة .../ أنطوان شلحت
قبل حوالي ثلاث سنوات خصصت المجلة الثقافية الاذاعية في راديو صوت اسرائيل (الشبكة الأولى) قسما من برنامجها لرواية "باب الشمس" للكاتب الياس خوري، بمناسبة صدور ترجمة عبرية لها في ذلك الوقت عن منشورات "أندلس" . واستضافت المجلة مديرة دار النشر، ياعيل ليرر، مع كاتب هذه السطور.

تناول البرنامج الرواية من مقتربات مختلفة، فنية ومضمونية. كما تعرض، في جزء منه، الى ردود الفعل عليها بين صفوف القراء اليهود، حسبما انعكس ذلك أساسا في سيل لم ينقطع من المكاتبات مع الناشرة منذ صدور الرواية.

مقدمة البرنامج، التي هي معدته أيضا، لم تحاول اخفاء اعجابها وتعاطفها مع الرواية. وألمحت، وان من طرف غير خفي، الى أن مصدر ذلك يكمن، بصورة رئيسية، في قدر عال من الفنية جاءت متميزة به في سرد الحكاية الفلسطينية (التاريخية) من خلال تعقب الايقاع الانساني المخصوص لنماذج بشرية نابضة بالحيوية والمواقف، في منأى عن الكلفة والخطابية والشعارات الجوفاء. فلا غرو، اذا، أن دار الحوار برمته حول هذه الخصيصة.

مع ذلك كان لا بد من سؤال عَرَضي يبدو أن مقدمة البرنامج طرحته ليس لأنها لا تعرف الجواب عنه، وانما لأن المناخ الثقافي في اسرائيل، الثابت والرافض للتحول عن اعتبار نكبة فلسطين في 1948 تندرج في اطار المسكوت عنه أو البدهي ـ المفهوم ضمنا ـ لا ينفك يستدعيه أولا ودائما. فما بالك الآن؟.

مؤدى السؤال أن القارئ الاسرائيلي سيواجه بالحتم صعوبة، قابلة للتفسير، في هضم هذا النص الروائي، بله استبطانه، بينما الشخصية اليهودية فيه تتوازي وتتساوي مع ا"لشر المطلق" . وعلى رغم معرفتي بأن السائلة لا تجهل الجواب قلت اننا بهذا نُلحق بالرواية ومؤلفها ظلما لا يغتفر لسبب جوهري هو أن الكاتب الياس خوري علي طول صفحات الرواية (544 صفحة في الطبعة العبرية) تجنب الاطلاقية والتجريدية في صوغ الشخصيات وتوصيفها، وان مجرد نأيه عن ذلك جنبه عثرات السقوط في فخ التنميطية الفجة.
ينسحب هذا، أولا وقبل أي شيء، على البطل الفلسطيني، ضمن مفهوم مغاير للبطولة الرائجة عموما، لكنه أيضا ينسحب، بمقدار ليس أقل، على الشخصية اليهودية (وهذه الشخصية في "باب الشمس" تعد موضوعا قمينا بالبحث والدراسة). بالانطلاق من هذا ـ أضفتُ ـ يمكن الافتراض بأن القارىء العربي، وربما أكثر منه القارىءالفلسطيني، قد واجه صعوبة في هضم الرواية. فانه لصق سردها الحكاية الفلسطينية التي تمتاح من ذاكرات ممضة، معذبة، مركبة، تروي "باب الشمس" ما يمكن اعتباره حكاية الهزيمة الفلسطينية والعربية في 1948.

هذا الأمر تناوله خوري نفسه في الحوار الشيق والهام الذي أجراه معه أنطون شماس (ظهر كاملا في مجلة "مشارف" الفصلية العائدة الى الصدور، العدد 17، ونُشر جزء منه قبل ذلك، في ملحق 7 أيام الأسبوعي التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت") في سياقة حديثه عن توقع استفظاع البعض لما أقدم عليه من تكسيرٍ لنمط البطل الفلسطيني السائد في روايات سابقيه، وخصوصا من الكتاب الفلسطينيين.

ومما قاله في هذا الشأن: عندما صدر الكتاب بالعربية كنت متخوفا من ردود الفعل الفلسطينية، والحمد لله أنه لم يصدر أي رد فعل سلبي لسبب لا أعرفه .
وتابع، ردا على سؤال حول قوام هذا الخوف: أعتقد أن هذا الكتاب قام بتحطيم الصورة النمطية للفلسطيني. قام بتحطيم البطولة. الأدب الذي تعامل مع القضية الفلسطينية طويلا، بشكل أساسي الأدب الفلسطيني، قدم نمط الفلسطيني الشجاع، البطل، الشهم، المظلوم، الشاعر، المجدد.

وهذا الكتاب أحسست أنه يقوم بتدمير هذه الصورة النمطية. في "باب الشمس" نكتشف أن الرجلين بطلي الرواية ليسا ببطلين، لأن البطلين هما المرأتان، نهيلة وشمس. وعندما يتم تحطيم كل الأنماط عن معنى البطولة ومعنى الحنين الى الأرض..الخ تأخذ المسألة معنى مختلفا جذريا. تجربة نهيلة، التي بقيت في قرية دير الأسد في الجليل، لا علاقة لها بالحنين انما لها علاقة بالمرارة. وبالنسبة لها فان بطولة هذا الذي يأتيها (كان زوجها يأتي متسللا من لبنان الى فلسطين في فترات متقطعة) لا تعني شيئا. البطولة الحقيقية بالنسبة لها هي أن نعيش وأن نحب. من جهة أخرى قامت شمس بخلخلة الصورة النمطية للفدائي. ففي النهاية الفدائي ليس هو البطل أو المغامر فقط، انما الفدائي كما رأينا هو ملتبس، انسان.. فيه مخاتلات والتباسات، طلعات ونزلات... كما أن صورة النزوح، حسبما تظهر في قصة الولد الذي طلب رغيفا وخيطته له المرأة ثم جاء الرجل وقتل الولد، هي صورة ليست مقبولة في مجتمع مجروح الي هذا الحد.

بناء على هذا نستطيع القول انه بالمعنى الذي يتحدث عنه خوري- وربما به فقط- تشكل "باب الشمس" علامة فارقة في سيرورة صورة البطل الفلسطيني داخل النص الأدبي العربي.

وفي مقايسة عابرة فان مثل هذه العلامة الفارقة، فيما هو مرتبط بـ "صورة البطل الفلسطيني" ، بلغتها أيضا رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني لحظة صدورها في 1963، بمجرد ريادتها ما اصطلحنا علي اعتباره مسار تنزيل الفلسطيني من فضاء التجريد الى أرض التحديد، بمفهوم نقله من صورة البطل المبهم الغائم الملامح، المؤسطر، الى صورة الشخصية الروائية التي تتحرك ضمن حيز من التاريخ الشخصي، السياسي والاجتماعي والنفساني، فضلا عن التاريخ الجماعي.

ولئن كان كنفاني فعل ذلك في علاقة حملت دلالة الاستئناف، بصورة عمودية، على محيط عربي، ثقافي واجتماعي، كان مستغرقا في مفاهيم مطلقة تجرد الصراع العربي- الاسرائيلي من محتواه التاريخي والقومي، فان خوري يفعل ذلك، اضافة الى ما تقدم، في علاقة مركبة مع الآخر، الاسرائيلي. وهو ينتصر فيها للذات الفلسطينية في وجهة محددة غير مألوفة، هي وجهة مواجهة ذاتها بذاتها.

تطل هنا فكرة العلاقة مع الماضي، من زاوية راهنية العودة اليه في المفترقات البارزة أو حتى خلافها، لا يهم. وعلى كثرة ما قيل في شأن هذه الفكرة فان الشاعر محمود درويش يبقى من أفضل الذين صاغوها بصورة معبرة ولماحة في ارتباطها مع ما حدث في 1948، في الذكرى الخمسين، وذلك من خلال الكلمات التالية: لا معنى للنظر الى الوراء الا لمعرفة أين نحن الآن. ونحن، اذ نحاول قراءة الماضي الذي لم يمض بعد، نحاول أن نتجاوز سؤال البقاء الى سؤال الوجود الحر الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة الذات.. فلا يكفي أن نعيد رواية ما فعله الآخرون بنا. بل آن لنا، ونحن نتذكر ذلك، أن نتساءل بين حين وآخر عما فعلنا بأنفسنا، لا لنبرئ التاريخ من دمنا، بل لنعرف كيف لا يضيع دمنا سدى، وكيف نفكر بطريقة العودة الى التاريخ، تاريخنا علي الأقل.. .

هذا هو المسعى الذي لم يكل عنه الياس خوري في روايته. وان مركز الثقل في هذا المسعى يحتله الوعي بالذات. وفي واقع الأمر يمكن التوكيد أنه لا يكل عنه أيضا في كتاباته الأخرى، مستعينا بما أتابعه منها بأناة وتمحيص دقيقين.

من هنا يستعير الكاتب لغته أيضا، وربما تتحدد وظيفتها من طرفه. وهي بكيفية ما، على رغم جماليتها الفائقة وبساطتها الثرة، لغة غائية لكونها وسيلة تعبير عن التجربة والاقتراب من الحقيقة وليست بديلا عن الواقع. وبهذه الدلالة تبدو كذلك وسيلة القاريء لبلوغ الغايات نفسها.

عند هذا الحد يجدر التذكير بكون اللغة في غائيتها المحددة هذه ترتقي، في قراءة الياس خوري للواقع، الى مصاف واحد من الشروط التي لا استغناء عنها للنهضة العربية المشتهاة في الزمان الراهن. ويتمثل في شرط تسمية الأشياء بمسمياتها.
ولكي تكتمل دائرة الأشياء التي بدأنا بها هنا لا مهرب من استعادة كلماته التالية، التي لا تزال صالحة حتى يومنا هذا: لا يستطيع العالم العربي تأسيس نهضته من دون أن يعي هزيمته. نعم تبدأ النهضة عبر تسمية الهزيمة باسمها. لقد هزم العرب أمام المشروع الاسرائيلي ـ الامريكي. وعليهم الاعتراف بذلك. هذا اذا أرادوا مقاومة الهزيمة. أما اذا أرادوا البقاء في مياه الانحطاط الآسنة، فما عليهم سوى تسمية الهزيمة انتصارا والذل فخرا والركوع وقوفا.

لعل خطوة أولى وهامة في هذا السبيل تكمن في أن نروي الهزيمة...

التعليقات