"أوسكار" لهاني أبو أسعد/ أنطوان شلحت

في غمرة أحداث سياسية كبرى (فوز حركة "حماس" وحمّى الانتخابات الإسرائيلية وغيرهما) لم نعر الاهتمام المطلوب إلى أن المخرج السينمائي الفلسطيني هاني أبو أسعد، النصراوي الأصل، اجترح بفنه وفيلمه الأخير "الجنّة الآن" مأثرة كبرى، بحصوله بداية على جائزة "الغولدين غلوب" وترشيحه من ثمّ لجائزة "أوسكار" عن أفضل فيلم أجنبي، مسجّلاً بهذا فصلاً هامًا في تاريخ السينما والثقافة الفلسطينية بل والعربية عمومًا.

وينبغي التنويه- استدراكًا- بأن القيمة الحقيقية للفيلم ولسينما أبو أسعد عمومًا ليست مستمدّة البتة فقط من هذه الجوائز والترشيحات، التي عادة ما تتدخّل فيها اعتبارات لا يمكن إدراجها جميعًا في عداد تلك الفنية، الخالصة من الشوائب الملازمة، والتي تؤدي إلى أن تحرم منها نتاجات هامة بقصد أن تصيبها في مقتل. القيمة الحقيقية تكمن في أن هذه السينما تتجاوز السائد والمألوف في حقل السينما العربية المعاصرة، وتحلّق في فضاء المساءلة وتستأثر لنفسها بلغة فنيّة مخصوصة تخلّف أثرًا متميّزًا، لمسًا ورؤيا. وبالتالي فإن أيّ ادعاء بـ"سياسية" هذه النجاحات يشكل محاولة قميئة لاغتيال فنيتها ومشروعيتها. وهو ادعاء تكفيه أن يكون كذلك حقيقة وقوف أصابع إسرائيلية خفيّة وراءه.

أبو أسعد هو جزء من ظاهرة سينمائية فلسطينية، تضم أيضًا مخرجين ذوي خصوصية مثل ميشيل خليفي وإيليا سليمان ومؤخرًا توفيق أبو وائل أيضًا (فيلم "عطش")، لا تنفك تتعاطى مع السينما لا باعتبارها رسالة فحسب وإنما أيضًا ويمكن القول أساسًا باعتبارها لغة، فانتازيا وخيال، لأنه ليس في الطرف الأول ما يعوّض عن الطرف الثاني من المعادلة... والعكس صحيح.

وإن نجاحات هذه الظاهرة تفترض وقفة عند بعض العوامل التي يعتبر تآلفها بمثابة تزكية لهذا النجاح الذي لم يبلغه آخرون من السينمائيين العرب حتى الآن، على رغم ما "تراكم" من تجارب سينمائية منذ أن بدأ تعامل الشعوب العربية مع الفن السابع.
ومهما تكن هذه العوامل أرى وجوب التشديد على عامل غربة أو شتات معظم السينمائيين الذين يشكلون النواة الصلبة لتلك الظاهرة، إذ أنه يحيل بدوره إلى عجز التربة المحلية، الوطنية، عن توفير الأرضية الخصبة لصناعة سينمائية تأخذ بيدها للمراهنة على الكون ومخاطبة العالم.
ولئن كان هذا العامل يدخل في نطاق المعطيات الموضوعية، فإن ذلك لا يعني أوتوماتيكيًا أن تجاوز هذه المعطيات أو التخلص من ربقتها عبر الانتقال إلى الشتات يقلّل من شأن العامل الذاتي في هذا النجاح، الذي يحيل بدوره إلى جوهر الإبداع الفردي الخاص لكل مخرج على حدة.
تحتاج ملامسة هذا الإبداع لدى كل فنان فرد من هؤلاء إلى أكثر مما يتسع له هذا المقام، لكن ذلك لا يمنع الإشارة إلى أن قاسمًا مشتركًا واحدًا على الأقل يجمع هذه الأفلام، وهو قاسم الممانعة أمام السقوط في "مناخ آسرٍ" للإنتاج السينمائي العالمي تهيمن عليه هوليوود وتوجّه خطاه.
وليس من المبالغة القول إن هذا المناخ الآسر لا يزال أكبر امتحان تتعرض له السينما في زماننا، حيث عليها الاختيار بين غوايته وبين الإبداع الفني كمشروع فرديّ وإنسانيّ.
يضاف إلى ذلك، حسبما سبق أن أشار أكثر من ناقد وباحث مختص، أن هؤلاء السينمائيين كانوا من روّاد سيرورة تنزيل الفلسطيني من فضاء التجريد إلى أرض التحديد، لا بالمفهوم المباشر التنميطي إنما بمفهوم نقل الفلسطيني من صورة البطل المبهم، الغائم الملامح، المؤسطر، إلى صورة الشخصية السينمائية التي تتحرّك ضمن حيّز من التاريخ الشخصي، السياسي والاجتماعي والنفساني، فضلاً عن التاريخ الجماعي. وهذا الأخير تبدّى، على أيديهم، في صيغة ذاكرة حافلة مركّبة أكثر من صيغة السجل التبسيطي.

حصول فيلم هاني أبو أسعد "الجنّة الآن" على أوسكار أفضل فيلم أجنبي سيكون مفاجأة سارة للغاية، ذلك أنه بدأت تظهر منذ الآن إشارات قوية إلى أن اعتبارات غير فنيّة قد تتحكم في التأدية إلى حرمانه من هذه الجائزة الرفيعة، من قبيل سيطرة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة على أكاديمية الجائزة وعلى كبرى شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود وما إلى ذلك. مع هذا فإن في مجرّد وصول الفيلم إلى لائحة ترشيحات الأوسكار إنجازًا هامًا وغير مسبوق سيكون له ما بعده بالنسبة للسينما وثقافتنا العربية.

فألف تحية إلى المخرج الفنان هاني أبو أسعد وإلى جميع من أسهم في إبداع "الجنّة الآن".

التعليقات