إتيل عدنان في قصيدة "يوم 27 أوكتوبر 2003" التحرّر من الذاكرة

-

إتيل عدنان في قصيدة
في الإمكان اعتبار قصيدة إتيل عدنان، بعنوان <<27 أوكتوبر 2003>> Le 27 Octobre 2003 التي كتبتها بهذا العنوان المتخذ لتاريخ بعينه ليوم مشهود في روزنامة الأيام الكثيرة، بمثابة قصيدة عربية أو عراقية بامتياز، لشاعرة اختلطت في دمها السلالات والألسنة، والأماكن، وصنعت من هذا التزاحم (الكثرة) فردانيتها التعبيرية، وفرادتها الإبداعية الموسومة بما يشبه التحرر من التكاثر وبسببه، في اتجاه الانتباه أو الالتجاء للأصل الأول في ذات الشاعرة، لجسدية النص، للخامة الإبداعية البدئية للشاعرة. من هنا فإن إتيل عدنان، على الرغم من تحدرها من سلالات إبداعية وثقافية كثيرة، تتفرد في جسد قصيدتها الخاص، وبدلاً من أن تكتفي بالاغتناء بهذه السلالات، تعود فتغنيها، كلاً على حدة.

إتيل عدنان Etel Adnan شاهد قوي معاصر على مقدرة الفنان، والشاعر بخاصة، على التخلص من ضغط تعدد الثقافات الملزم بالإحاطة بها والتداخل فيها بحكم عولمة الثقافة المعاصرة وضرورتها... في اتجاه صنع الفرادة الإبداعية، وهي مسألة شديدة الأهمية لجهة قدرة المبدع على التخلص من شبكات الأصل والجغرافيا، اللغة والأنترنت، والالتجاء لأرضه البكر والكتابة بلغة كما لو لم تمر عليها أو تطأها لغات أخرى. هذه هي خصوصية إتيل عدنان الشعرية في مجمل أشعارها، وقصيدة <<يوم 27 أوكتوبر 2003>>، من بينها.

القصيدة مكتوبة في الأصل بالفرنسية. وإتيل عدنان تكتب بلغتين بكفاءة متماثلة بالفرنسية والإنكليزية. ولها كتابات قليلة بالعربية. هي شاعرة ورسامة ذات شهرة عالمية، ورسومها ذات تحرر وبدئية وجسدية، شبيهة بنصوصها الشعرية. وقد ترجمت أعمالها الشعرية والنثرية، لأكثر اللغات العالمية، ومن بينها العربية... وتركت بعض التأثير على الشعر الإنكليزي والشعر الفرنسي، ولها بعض البصمات في الشعر العربي. نشرت أعمال لها مترجمة للعربية، كما اهتمت مجلة مواقف بشكل خاص بنشر رسوم لها، وترجمة عدد من نصوصها الى العربية.

إتيل عدنان بلغت اليوم حدود الخامسة والسبعين من عمرها، هي المولودة في بيروت العام 1925.. يعرفها المتابعون من شعراء ومثقفي العربية، والدارسين، لكن أهميتها أكبر من الاهتمام الجزئي بها، لذلك فالتعريف بها من جديد، وإلقاء الضوء على صنيعها الشعري وأهميتها الفنية، من ضرورات التعريف الثقافي بالمبدعين، وبإيتل عدنان بخاصة.

وكانت الشاعرة والرسامة موضوعة من موضوعات قام بترجمتها الشاعر التونسي الأمازيغي خالد النجار في ما سمي <<سلسلة القصيدة>>، حيث أصدر ترجمات للعربية لكل من <<لوران غسبار>> في <<البيت قرب البحر>> و<<أجساد ناهشة>>، ولإتيل عدنان في <<يوم 27 أوكتوبر 2003>> الذي نحن بصدده.

الأصل الفرنسي للقصيدة والترجمة، صدرا معاً عن منشورات جبل التوباد في تونس العاصمة، العام 2004، راجع الترجمة الشاعر التونسي محمد الغزي، ولمسة الغزي اللغوية ظاهرة في شعرية الترجمة الأمينة للنص الأساس التي أجراها النجار. فالترجمة صنيع شاعرين متميزين معاً. وهي تستحق الاهتمام نظرا لبلوريتها، وتقديمها نصا شعريا بالعربية، لشاعرة جهدت للتخلص من سطوة بلاغيات وأسلاف كثر.. ونجحت في ذلك.
وإتيل عدنان، تعريفا موجزا بها، شاعرة ورسامة وكاتبة لبنانية، تحمل الجنسية الأميركية، ولدت في بيروت العام 1925، حيث درست على غابريال بونور، وفي 1949 غادرت الى باريس حيث درست الآداب والفلسفة في السوربون، وفي 1955 انتقلت الى بيركلي وهارفارد حيث عملت بالتدريس. لإيتل عدنان شهرة عالمية. تكتب باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولها تأثير على الشعرين الأميركي والعربي. من بين أعمالها الشعرية والنثرية:
خمس حواس لموت واحد. يوم في نيويورك. قيامة عربية. عن مدن ونساء. الست ماري روز.
نقلت أعمالها الى كثير من اللغات، كما وضع مؤلفون موسيقيون من أمثال غافن بريارز وهنري تريدجيل وزياد ملتقى وآنيا لوكوود قطعا موسيقية من قصائدها. تقيم منذ سنوات بين باريس وسان فرانسيسكو، متفرغة للكتابة والرسم.

قصيدة عراقية
إن قصيدة <<يوم 27 أوكتوبر 2003>>، هي قصيدة طويلة مقطعية، تتألف من 46 مقطعا شعريا، يراوح المقطع بين سطرين وخمسة. والمقاطع مضغوطة شديدة التركيز، تكاد ترجع فيها الشاعرة الى لغة الأصل الجسدي للكائن البشري، بما يحمل من جينات تكوينية، والى الأصل التكويني الثقافي لها، كشاعرة تنتمي الى البحر الأبيض المتوسط، فهي تحنو على هذا الأصل البحري لها حنواً جميلاً، وتستغيث لكي لا <<يترك العالم المتوسط>> مكشوفا للعنف والموت.
<<لا تتركوا المتوسط ne quittez pas la MŽditerrannŽe/ ففي أماكن أخرى، وفي كل الفصول/ ليس ثمة سوى فخاخ/ وحسراتكم المكتومة ستخنقكم>>
هذه المتوسطية في القصيدة، هذا الحنو على المتوسط، تتردد في أكثر من مقطع من مقاطع القصيدة، وهو حنو طافح بالحبر، وبتذكر أبنائه وبناته، الذين صعدوا نحو الشمال في يوم مطير، أو في يوم حرب.

القصيدة أناشيد عذبة وابتهالات للأصول المهددة، المضروبة بالحرب. والعنوان لتاريخ يوم بعينه هو 23 أوكتوبر 2003، هو عنوان انطلاقة اجتياح العراق، من قبل جيش الولايات المتحدة الأميركية والبلاد والدول الحليفة. فالقصيدة بهذا المعنى عربية ومشرقية، بل عراقية.. من أرجوان فينيقيا الى نخيل العراق، ومن صديق الشاعرة <<خالد>> العراقي الذي أرسل لها أشجار نخيل في بطاقات البريد، لأنه يعلم أن أوروبا يغطيها البترول المحترم، الى المتوسط، ثمة وصايا بالطفولة، ووصايا بالبقاء حيث الجذور... لأنه ليس ثمة من طمأنينة للقلب إلا حيث الجذور.. <<الطرقات تقود الى إشراقات، بيد أنها لن تمنحنا طمأنينة القلب>>.

تقول الشاعرة في مقطع من المقاطع: <<لا تهجر طفولتك...>> لأنها هي الرغبة الأولى التي سترافقك الى النزع الأخير. وفي المقاطع التالية تكرر الدعوة للبقاء، لعدم الهجرة، إنما للمتوسط <<لا تهجر المتوسط>>، فهذا التناسب بين الطفولة والمتوسط، ومن ثم التناسب الذي سيلحق في مقاطع تالية، بين الطفولة والجذور المتمثلة بأرجوان فينيقيا، ورمال الصحراء العربية، ومياه الأنهار، حيث ثمة سعادة وحشية اun bonheur sauvageب، وذكر شراسة القبائل واستنهاضها <<القبائل تجمّع شراستها>>، واستدعاء عمر الخيام إلى ساحة القصيدة، يمنح الصنيع الشعري لإيتل عدنان النكهة المشرقية، فجغرافيا الشرق جالسة في صحون الشاعرة... واللفح الشعري للعربية والعراقية يلفحها ويشكل نار النص الشعري.

وإذا هي استدعت عناصر اخرى من ثقافة او حنين، فإنها تستدعي اليونان <<سأعود الى اليونان La Grce بعناد المسوقين الى الموت (المحكومين بالاعدام كما ورد في الترجمة). لماذا؟
لأن اليونان هي الاقرب للشرق، ولأنها تشبهه في الألم. الشاعرة تعود لكي <<تتبدد في الألم>> <<أراني اتبعثر في الألم>>.
يمكن من خلال هذه القصيدة فهم كيف انطبع يوم الوحشية المدوّن، المؤرخ له، في 27 اوكتوبر 2003، على شاشة روح شاعرة عربية وإن كتبت بلغتين غير عربيتين: الانكليزية والفرنسية.

إنها تبدأ انثيالها الروحي/ الشعري، الذي هو كالدموع، من مشهد التلفزيون، من مشاهد الموت المظهّرة على الشاشة
<<انظروا عبر التلفزيون/ إلى إخوانكم يموتون/ لا تحركوا ساكناً/ هم الآن في عالم جديد/ بلا منفذ>>.
ثم تنتقل مباشرة للتشبث بالطفولة، وبالنداءات التي هي استغاثات محروقة وباكية لما استثير في عمق ذاتها، في الأرض الأولية للشاعرة، من معانٍ تعرضت للتفسخ بفعل الموت.. بل بفعل الاجتياح والقتل.. حتى كأن الاجتياح لم يحصل على ارض وبلاد معينة ومحددة على الجغرافيا، بل على الداخل.. الداخل الصافي والأولي للشاعرة.

<<إن الأمم تتغذى من النهب>> كما تقول. لكنها تنتبه فجأة الى الشجرة المحصنة في جذورها او المخبأة فيها، وإلى تغيرات الخريف، وتدعو نفسها، للنوم، كطفل، او كشجرة، إنها كما تقول <<تحاول ألا تضيّع المفتاح>>.

بين احوال الشاعرة الخاصة وضغط القنابل الهاطلة على بغداد يتكوّن النص الشعري لإتلي عدنان. كنت استطيع الذهاب الى المقهى المجاور، تقول، لتأمل البرد وهو ينسل في الخارج، فيما هي تتنعم بدفء الغرفة المكيفة التي تقيم فيها (في باريس في حينه) او حتى ممارسة الحب.. لولا <<القنابل المنهمرة على بغداد>>. وحين تشتد القبضة على الداخل، يعلو اليأس، ويدفن كل شيء: الجوهري وغير الجوهري.
القصيدة ذات انتماء خاص جداً، شعري خالص، للثورة. لا صراخ في كلمات اتيل عدنان، لا ترسيمات وايديولوجيا، بل نداء حار للجذور. ولعلها تقدم نموذجا لشعر لا تغيب عنه الاحداث السياسية والحربية، بل هي منطلقه وأساسه، إلا انه يحلّق خارج المباشرة والولولة، الهجاء والنظريات وما يجب وما لا يجب، كما هي الحال في معظم نصوص الشعر العربي الحديث والمعاصر، الذي حركته الاحداث السياسية، من احتلال فلسطين الى اجتياح العراق، مروراً بجملة الحروب الكلاسيكية او الاهلية.. لقد سال دم كثير على الأرض العربية، لكن الحبر الجوهري المعادل الشعري والإبداعي لهذا الدم كان قليلاً.. من بينه نصوص إتيل عدنان.
تقول:
<<أنا من فصيلة الحجارة/ التي نلقيها في غياب المروحيات/ أنا من النساء المحتجبات/ من المساجين السياسيين/ وأحياناً/ أندم على محبتي للعزة>>.

والتفرد الذي وقعت عليه الشاعرة، متأتّ من عدة عناصر، منها الاحتكام لجسدية الإحساس، واللجوء للذات والجسد، كملجأ ومحمى من الاجتياح. هذا اللجوء الجميل لجغرافية الجسد، في مواجهة تصدّع جغرافية الامكنة، يتبلور في مقاطع الشاعرة، فهي تدعو الذين لا يقدرون على السفر، الذين لا يقدرون على <<الهروب>>، الى اكتشاف <<جغرافية الجسد>> La gŽographie du corps لأنه:
<<ثمة موانئ
ومطارات على صفحة أرواحنا>>.
هذا التشبث بجغرافية الجسد، جعلها تنتمي لعذاباته، وتنتمي لجماله المعذّب، ولقبوره الخفيفة مثل اجنحة الملائكة:
<<وأنا أصغي إلى الريح/ يلذ العيش في المكان الذي نموت فيه/ حيث الخرافات منطفئة/ وقبورنا ايضاً/ ستكون خفيفة/ مثل اجنحة الملائكة>>.

تحرر
هذا الالتجاء منح لمقاطع اتيل عدنان بكارة خاصة.. اولية في الكتابة، تكاد تكون غير مسبوقة، بل متحررة من ضغط عناصر كثيرة بلاغية وعرقية، وجغرافية ايضا، تشاركت في صنع سيرة وصيرورة اتيل عدنان.

هي، كما سلفت الاشارة، لبنانية المولد، عربية الاصل والالتفات، شرقية، بغدادية بسبب محنة بغداد. وهي ايضا، ثلاثية اللغة: العربية، الفرنسية، الانكليزية. وكتبت نصوصها الكثيرة بالفرنسية والانكليزية. كما هي متعددة الجنسيات: اللبنانية الفرنسية والاميركية.. متعددة الاقامات.. بين باريس وبيركلي وهارفارد وسان فرنسيسكو ولا ننسى بيروت. عملت في التدريس فترة من الزمن، ثم تفرغت للكتابة. لا ننسى ايضا انها رسامة. والسؤال: كيف بإمكان هذه المتعددة (في الارومات واللغات والاماكن) ان تتخلص من ضغوطها؟ من ذاكراتها؟ من وطأة ثقافاتها؟ والاجابة انها فعلت ذلك بسبب قوة داخلها العظيمة.

يشير المترجم خالد النجار، والمراجع محمد الغزي، الى ما يشبه <<حيادية>> لغة اتيل عدنان وكأنها <<بلا ذاكرة، ولا عادات لغوية متحكمة، فكل لفظة لديها إبداع>>. ويشير النجار لتحرر الشاعرة من ضغط التراثية العربية، والتحرر من لغة التعليم الكولونيالي الفرنسي التي تظهر واضحة ومستعلية في نصوص الشعراء الفرنكوفونيين المغاربة منهم بشكل خاص... فهي اقرب ما تكون في شعرها، للرسامين العرب الذين هم تقريباً، بلا اصول تشكيلية عربية.. بلا ماض او ركيزة محلية او قومية او دينية.

ثمة إذن، في نصوص اتيل عدنان، وبحق، تحرر من اللاوعي اللساني والثقافي العربي والفرنكوفوني والانجلوفوني ايضا، ما يسميه العالِم النفسي الفرنسي اندريه غرين <<اللاوعي النصي>>.. <<وهذا الغياب الموضوعي للذاكرة عنصر تحرر>>، يشبهه خالد النجار ببدائية نصوص شعر الهايكو الياباني.. ويشير اشارة معرفية إلى <<التحرر النيتشوي>> من الذاكرة.
إذن: هي بكارة العالم تستعيدها اتيل عدنان، وتستدعيها إلى لغتها:
<<كان البحر صغير السن/وكانت نظراتي/ تعاشر الشمس/ ولم تكن الفصول/ قد ولدت بعد>>.



محمد علي شمس الدين
"السفير"

التعليقات