"اسرار، اكاذيب وديمقراطية" - آخر مؤلفات ناعوم تشومسكي

هذا الكتاب عبارة عن سلسلة مقابلات أجراها الصحفي الاميركي دافيد بارساميان مع الفيلسوف الشهير ناعوم شومسكي. وشومسكي لمن لا يعرفه هو أحد كبار المثقفين العالميين الآن. وقد اشتهر في البداية كعالم ألسنيات حيث اكتشف نظرية خاصة به، ولكنه لم يحصر نفسه في هذا الاختصاص الضيق كما يفعل بعض الاكاديميين وإنما انخرط في هموم عصره وقضاياه.


ثم يقول لنا المؤلف، أو بالاحرى المحاور، دافيد بارساميان بان شومسكي يمثل اقصى اليسار في الساحة الثقافية والسياسية الاميركية، ولذلك فإنهم يحاولون تهميشه الى أقصى حد ممكن، فهو يقوم بنقد جذري للسياسة الخارجية الأميركية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى وبلغت ذروتها أثناء حرب فيتنام. ويدين شومسكي هذه السياسة التي يعتبرها امبريالية أكثر مما ينبغي.


ولكن تأثير شومسكي معدوم على السياسة الاميركية بسبب بسيط هو ان يتموضع خارجها كلياً ولا يعترف بها ولا تعترف به، ومع ذلك فإن الرجل موجود في الساحة وله حضور ثقافي كبير في أوساط الجامعات الاميركية بل والعالمية.


واستمرارية انتقاداته للسياسة الاميركية وانتشارها الواسع يجعلان منه إحدى المرجعيات الثقافية والسياسية الكبرى.وهو يدين الطابع الاجرامي واللاأخلاقي للسياسة الأميركية التي تمارس باستمرار سياسة الكيل بمعيارين، كما ويدين أكاذيبها وادعاءاتها بالديمقراطية وحقوق الانسان.


وقد طرح عليه دافيد بارساميان السؤال التالي:شومسكي: يمكننا أن نتخيل المجتمع الديمقراطي على هيئة مجتمع مزود بوكالة استخباراتية تجمع المعلومات للقادة، فهذا أمر ضروري للدول، ولكن المشكلة هي ان الـ «سي.آي.ايه» لا تكتفي بجمع المعلومات وتقديمها للحكام، فهذا جزء صغير من أعمالها.


ما هو رأيك في الدور الذي تلعبه المخابرات المركزية الاميركية في مجتمع ديمقراطي كالمجتمع الأميركي؟ هل يتناقض هذا مع ذاك؟


ثم يردف البروفيسور ناعوم شومسكي قائلا: في الواقع ان هذا جزء صغير من أعمالها، ومهمتها الاساسية تكمن في القيام بأعمال سرية ولا شرعية في الخارج، وهذا ما تكلفها به السلطة التنفيذية التي تحيط هذه الأعمال بستار كامل من السرية لكيلا يعرف بها المواطنون. فالسلطة تعرف ان المواطنين الاميركيين كانوا سيدينون هذه الأعمال لو عرفوا بها، وبهذا المعنى فإن وجود الـ «سي.آي.ايه» هو بحد ذاته مضاد للديمقراطية: أي للشفافية والصراحة والوضوح.


يضاف الى ذلك ان المخابرات المركزية الأميركية قامت في الخارج بنشاطات ضد الديمقراطية في تشيلي مثلاً أو سواها، فهي التي دبرت في السر عملية اغتيال سلفادور الليندي ونصبت محله الطاغية بينوشيه. وهذا عمل لا ديمقراطي بالخالص. ويمكن ان نضرب أمثلة عديدة في هذا النوع كالانقلاب الذي نظمته ضد حكم محمد مصدق في ايران. وقد كان زعيماً وطنياً وشعبياً.


ومعلوم ان كيسنجر ونيكسون كانا متورطين في أعمال الـ «سي.آي.ايه» فقد وظفاها لخدمة مؤامراتهما الخارجية. ويمكن القول ايضاً بأن كيندي وجونسون فعلاً شيئاً مشابهاً.


ثم يطرح عليه دافيد بارساميان هذا السؤال


هل المخابرات المركزية الاميركية هي أداة للسياسة الاميركية أم انها هي التي تصوغ هذه السياسة وتوجهها؟


شومسكي: لا نعرف بالضبط أو على وجه اليقين، ولكن رأيي الخاص هو ان السلطة التنفيذية الاميركية هي التي توجه الـ «سي.آي.ايه» وتوظفها لخدمة مخططاتها وليس العكس.


وقد درست هذا الموضوع فيما يخص حالات وأمثلة عديدة. وفي معظم الحالات كنت أتوصل الى النتيجة التالية: نادراً أن تقوم المخابرات بمبادرات شخصية من تلقاء ذاتها. ولكنها تقوم بأفعالها وتوهم الناس بأنها مستقلة عن أي سلطة ولا تخضع لأي سلطة.. لماذا؟ لأنها تريد تغذية الوهم بأن الرئيس الأميركي لا علاقة له بها ولا يتحمل بالتالي مسئولية أعمالها.


لهذا السبب يتوهم الجمهور العام بأن المخابرات المركزية هي التي تتخذ المبادرات من تلقاء ذاتها، وهي التي تحكم البلاد.


ولكنها في الواقع أداة، مجرد أداة في يد السلطة التنفيذية للولايات المتحدة الأميركية. بالطبع لا توجد أي نسخة مكتوبة أو نص صوتي مسجل يثبت لنا أن الرئيس هو الذي أمر المدير العام للمخابرات بتنفيذ هذه العملية أو تلك. فهذا مستحيل. فمثل هذه الأوامر تصدر شفهياً وبالتواصي السري لكيلا يمتلك أحد أي برهان عليها.


فعندما يأمر الرئيس الأميركي أو أحد معاونيه باغتيال لومومبا أو كاسترو أو أي شخص آخر فإنه لن يترك وثيقة مكتوبة أو مسجلة صوتياً للبرهنة على ذلك! بل انه يستطيع ان يكذّب المخابرات إذا ما قبض الطرف الآخر على أحد عملائها واعترف بما أُمر به. ففي كل الاحوال تستطيع وزارة الخارجية ان تقول: لا علاقة لنا بهذا الشخص، لقد تصرف بمفرده.. نحن لا نعرفه أصلاً.


ثم يطرح عليه دافيد بارساميان سؤالاً آخر عن أحد الآباء المؤسسين للأمة الاميركية، وقال له: أنت دائماً تميل في محاضراتك الى أقوال جيفرسون، فما هو السبب يا ترى؟ فأجابه شومسكي: لقد مات جيفرسون عام 1826، أي بعد خمسين سنة من إعلان استقلال أميركا. وحوالي نهاية حياته راح يتحدث بمزيج من الأمل والهم عما كان قد أُنجز في أميركا وعما لم يُنجز بعد. وحض الشعب على مواصلة النضال من أجل المحافظة على انجازات الديمقراطية وانتصاراتها.


ثم يضيف شومسكي قائلا: في الواقع ان وجهة النظر هذه يتبناها الآن مثقفون محترمون وفي مجتمعات عديدة. وهي مشابهة تماماً للعقيدة اللينينية التي تقول بأن حزب المثقفين الطليعيين ينبغي أن يستلم السلطة ويقود الجماهير الجاهلة والغبية باتجاه المستقبل الباسم. ومعظم الليبراليين هم من الارستقراطيين بالمعنى الذي يحدده جيفرسون لهذه الكلمة.


ويمكن القول بأن هنري كيسنجر هو أحد الليبراليين المتطرفين والنخبويين العتاة. انه ارستقراطي واستعلائي بالمعنى البغيض للكلمة.


وأما فيما يخص الديمقراطيين فيقول عنهم جيفرسون انهم أولئك الذين ينصهرون بالشعب ويثقون به على عكس الارستقراطيين أو النخبويين. انهم يثقون بالناس الشعبيين ويحبونهم ويعتبرونهم الاشرف والاكثر موثوقية وإن لم يكونوا الأكثر حكمة دائماً. فالجماهير قد تصبح غوغائية في بعض الاحيان كما هو معلوم.


بمعنى آخر، فإن الديمقراطيين بحسب منظور شومسكي ينبغي ان يحكموا البلد سواء اتخذوا القرارات الصحيحة أم لم يتخذوها. أما الارستقراطيون فيقولون بأن الشعب جاهل وينبغي أن نتخذ القرارات نيابة عنه لأننا نحن النخبة المثقفة والراقية.


هذا هو الفرق بين المنظورين، ولكننا نلاحظ ان الديمقراطيين أصبحوا قليلين الآن في أميركا، فالنخبة الاوليغارشية هي التي تحكم البلاد فعلاً.


ثم يردف الفيلسوف اليساري قائلاً: لقد حذرنا توماس جيفرسون من البنوك والشركات الضخمة. وقال لنا بأنها إذا ما كبرت أكثر مما ينبغي فإن الارستقراطيين سوف يستلمون الحكم وسوف تموت عندئذ الثورة الاميركية والمثل العليا. وللأسف فإن مخاوف جيفرسون قد تحققت في يومنا هذا، فالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الجنسيات هي التي تحكم أميركا والعالم.


وفيما بعد تنبأ المفكر الروسي الفوضوي باكونين بأن طبقة المثقفين المعاصرين سوف تنقسم الى قسمين: الأول دعاه بالبيروقراطية الحمراء، وهي التي ستأخذ السلطة وتؤسس أكبر نظام طغياني في التاريخ. وقد تحققت نبوءته فيما بعد من خلال الانظمة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وسواه.


وأما الثاني فسوف يستلم السلطة في المجتمعات الرأسمالية، وسوف يضربون الشعب بعصا الشعب! بمعنى انهم سوف يجرون انتخابات حرة وديمقراطية ولكنهم سوف يحكمون الشعب على الرغم من كل شيء باسم الشعب. وسوف يظل الشعب خاضعاً لهم ولكن بشكل ناعم لا مباشر وغير فج كما يحصل في المجتمعات الشيوعية التوتاليتارية.


ثم يطرح عليه دافيد بارساميان هذا السؤال:


أنت تتحدث ايضاً عن الفيلسوف جون ديوي، فما رأيه بكل ذلك؟


ويجيب البروفيسور شومسكي عن هذا السؤال قائلاً: لقد كان ديوي آخر ممثلي خط جيفرسون فيما يخص فهم الديمقراطية وطريقة تصورها. ففي بدايات القرن العشرين كتب ما معناه: ان الديمقراطية ليست غاية بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة يعبر بها الشعب عن نفسه وطبيعته الحقيقية، أي عن حقوق الانسان بكل بساطة.


وكان الفيلسوف جون ديوي يعتقد ان الديمقراطية بدون حرية وتضامن مع الفقراء لا معنى لها، انها تظل شكلية فارغة. الديمقراطية هي وسيلة يستخدمها الشعب لتشكيل نظام اجتماعي وسياسي جديد وعادل الى أقصى حد ممكن بالطبع، فالعدالة المطلقة أو الكاملة غير موجودة وربما لن توجد في أي يوم من الأيام.


والواقع ان الرأسماليين يستطيعون ان يشتروا الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام الاخرى ويسخرونها لصالحهم. وهكذا تصبح أبواقاً ناطقة باسمهم لا باسم أغلبية الشعب، بل ان بامكانهم ان يوجهوا عقلية الشعب في الوجهة التي يريدونها عن طريق وسائل الإعلام التي تضخ الاخبار والتعليقات والريبورتاجات الصحفية على مدار الساعة،


وبالتالي فما هو الفرق بين التوتاليتارية الشيوعية والتوتاليتارية الرأسمالية؟ في نظر أقصى اليسار الفرق ضعيف إن لم يكن معدوماً. ولكن في نظر الآخرين فهناك فرق كبير وإلا لما انتصر العالم الرأسمالي على العالم الشيوعي.


ثم يردف شومسكي قائلاً: ان هذه الافكار انتقلت الينا من أوروبا وبالتحديد من ألمانيا. فالمفكر الالماني ويلهيلم فون همبولدت هو الذي بلورها أولاً، ثم تأثر به الفيلسوف الليبرالي الانجليزي جون ستيوارت ميل، ومعلوم انه كان أحد أولئك الذين واصلوا التراث الليبرالي الكلاسيكي الذي تأسس في القرن الثامن عشر.


وجميع هؤلاء تأثروا بالمفكر الاقتصادي الكبير آدم سميث الذي قال إن الطبيعة الانسانية بحاجة الى الحرية من أجل أن تحقق ذاتها على هذه الأرض.


ويرى شومسكي ان العالم تهيمن عليه الآن 200 شركة عملاقة من الشركات متعددة الجنسيات. وبالطبع فإن القسم الأكبر منها أميركي، وبالتالي فإذا لم يطرأ أي تغيير على بنية الاقتصاد العالمي الرأسمالي فإن الفقير سوف يظل فقيراً والغني غنياً.


ونستخلص من ذلك النتيجة التالية: إذا ما أردنا تقليص الهوة السحيقة التي تفصل بين الدول الغنية والدول الفقيرة فإن على أميركا وحلفائها أن يتخلوا عن أنانيتهم وأن يتضامنوا ولو قليلاً مع شعوب العالم الثالث.


ثم يتحدث شومسكي عن مسألة الاصولية والتطرف الديني في عصرنا الراهن ويقول:


إن الاصولية موجودة ايضاً في أميركا. فالمجتمع الاميركي ذو عقلية دينية في معظمه على عكس مجتمعات اوروبا التي تعلمنت منذ زمن طويل.


ولكي ينبغي التفريق بين المسيحيين المعتدلين أو الليبراليين وبين المسيحيين الاصوليين أو المتزمتين، والواقع ان الفئة الاولى تشكل الاغلبية في أميركا في حين ان الثانية تشكل الأقلية. وبالطبع فإن النسبة معكوسة في بلدان الجنوب أو ما يدعى بالعالم الثالث.


ويرى الفيلسوف ناعوم شومسكي انه ربما كان 75% من الاميركيين يؤمنون فعلاً بوجود الشيطان! وقد أجرى بعضهم احصائيات رسمية مؤخراً، فتبين لنا ان 10% فقط من الشعب الاميركي يعتقدون بصحة نظرية داروين عن التطور، هذا في حين ان الاغلبية العظمى، أي 90% يعتقدون العكس!


وهناك مدارس في أميركا ترفض تعليم نظرية داروين بحجة انها كافرة أو تدعو للكفر، وبالتالي فإن المسألة لم تحسم بعد حتى في بلد متقدم علمياً أو تكنولوجياً كأميركا.


بالطبع فإن الشعب الأميركي هو من أكثر الشعوب تسامحاً مع أبناء الاديان والعقائد الاخرى، والدليل على ذلك ان جميع المذاهب والاديان والأعراق موجودة في أميركا بسبب الهجرة، فأميركا كما هو معلوم، شعب متعدد المشارب والاتجاهات والتيارات. ولكن الشيء الذي يقلق شومسكي هو استفحال قضية الجوع في العالم الثالث وبخاصة في أميركا اللاتينية وافريقيا السوداء ومناطق اخرى.


ويبدو أن الشقة تزداد اتساعاً بين دول الشمال ودول الجنوب في ظل العولمة الحالية. وأكثر من نصف سكان المعمورة يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. وهذا وضع لم يعد يطاق في عصر البذخ الاستهلاكي والاسراف في الانتاج.


الكتاب: أسرار، أكاذيب، ديمقراطية


تأليف: ناعوم شومسكي، مقابلات مع دافيد بارساميان


الناشر: أودونيان بريس ـ تكسون ـ اريزونا


2003


الصفحات: 127 صفحة من القطع الصغير


Secrets, Lies, Democracy


Noam Chomsky


David Barsamian


Odonian Press - Tucson - Arizona 2003


P. 127

التعليقات