الازدواج الكرنفالي في نصوص أنوار سرحان 2\3 / حسام حسين عبد العزيز- مصر

الازدواج الكرنفالي في نصوص أنوار سرحان 2\3 / حسام حسين عبد العزيز- مصر
إن لعبة السرد عند" أنوار سرحان " بالفعل أطروحة لغوية في أساسها، من هذه التقدمة من الأوقع أن نشير إلى تلاقي الأسلوبية اللغوية الرصينة لسياقات السرد، والتي أتت مًُطعمة في كثير من الأحيان باللهجة الفلسطينية داخل بعض السياقات المسرودة؛ الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد الواثق بأن هذه الضفيرة اللغوية قد باتت مسألة إشكالية بالفعل، لأن المظلة التي تغلف فعل الإبداع هنا(قصة قصيرة) محكومة بالعديد من ضوابط هذا الفن. إذن يظل السؤال مطروحا إلى أي مدى يمكن النظر نقديا لهذا التعاطي ؟
في حقيقة الأمر لست أدري يقينا من أين أبدأ، وأنا أقف أمام قصة قصيرة قد آلت على نفسها أن تبدو في فضاء التأويل كوثيقة تسجل أمرا ملحا على قريحة الذات التي أبدعتها؟

من الأشياء الغريبة التي أشعر بها عند قراءة "أنوار"، ولا أملك حيالها دليلا على أسباب تواجدها بشكل يمنحني يقين حسن القراءة داخل خطابها السردي. طبيعة اللغة المستخدمة في قصصها، والتي تعبر بجلاء عن الازدواجية في دواخلها، تتميز بالبساطة والعفوية وربما القصدية في قليل من الأحيان.
لو افترضنا كمعطى أول بأن هناك وطناً أصلياً أتت عليه قومية مُحتلة، فإن الهاجس المبدئي الذي يشكل منطقة ضغط . قضية اللغة ولاشك، فهل هي تكتب بهذا التعاطي اللغوي اعتقادا منها أن اللغة ذاتها تتعرض للاغتيال، وأن فعل الكتابة على هذا النحو حقنة الحياة للغة تقاوم كي تعيش؟؟
أزعم أن اللغة في قصص أنوار سرحان كالتواليت بالنسبة للمرأة الأنيقة، والمدهش فعلا أن تعاطي اللغة عندها طيع للدرجة التي تستطيع معها أن تجزم أن لغة قصصها تأتي راغمة، تهب لها نفسها كي تفعل بها ما تشاء، بسيطة في مواضع البساطة، عميقة في مواقع العمق، ناهيك عن مزاج خاص يصبغها بشاعرية فضفاضة، وعلى الدوام تجيء طبيعية ورصينة وليست من قبيل التقعر أو الانتحال.

مما لاشك فيه أن جميع النظريات البلاغية تصبح خالية من معناها إذا فقدت البناء التركيبي والدلالي( مادة اللغة الخام) للخطاب وعلاقته بالمؤثرات الاجتماعية؛ فلاشك أن قيمة الخطاب تتوقف على عناصر بناءه. لذا من الضروري القول: إن التحليل الدلالي والتركيبي لأي خطاب أدبي من شأنه أن يستحيل إلى قدرة على بسط معطيات التفسير في نطاق سياق اجتماعي.

إنني لا أقول هذا الحديث عبثا في الحقيقة، لكن طالما اتفقنا مبدئيا على الولوج من باب التحليل السوسيولوجي، فهذا أدعى لأن نفهم عناصر لغة السرد المنتمية بالكلية للذات الساردة، والتي تبدو في قمة البريق والحياة من جهة، ومنتمية للغة الجماعية أو لهجة الجماعة من جهة أخرى، وهذه الأخيرة ليست على الدوام نتاج جماعة واحدة، ولكنها قد تُخلق من التقاء جماعتين لأسباب اقتصادية أو سياسية، أو أي حد ممكن من المصالح المشتركة، أو القضايا المُعلقة بين طرفين يشكلان أيدلوجيات خاصة بكل جماعة, لذا يمكننا اليقين في ظهور اللغة في إطار علم الاجتماع كنظام تاريخي، من خلاله يمكن تتبع مسيرة تغيراته اللفظية والتراكيب والدلالات في ضوء الصراعات بين الجماعات، ومن ثم بين العديد من اللهجات.

إن أي مجتمع هو في حقيقته أو يكاد؛ مجموعة جماعات متعادية بشكل أو بآخر، لذا فمن الطبيعي أن تدخل اللغة الاجتماعية أو اللهجات عموما في صراع مع بعضها البعض مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا إن حدث سيدفع بنا إلى الإيمان بأن كل ما هو اجتماعي سيميوطيقي بالضرورة، لكن ذلك لا يدفعنا للاعتقاد بأن نختزل الوقائع الاجتماعية والذوات إلى ظواهر نصية، بل يجب وضع علاقات وثيقة مبدئيا بين النص والمجتمع مع إظهار المشاكل والمصالح على المستوى اللغوي وهذا من شأنه أن يضع الأدبي في ترابط مع الاجتماعي. وعندما يبني الكاتب ضفائر من اللغة الأدبية مُطعّمة بسياق لغوي منتمٍ للهجة المتداولة في محيطة الاجتماعي، فهو يعترف يقينا أن اللغة داخل إطار السرد لن تكون محايدة على الدوام، ولن تكون بالضرورة ملكية خاصة له، على عكس اللغة الأدبية وما تنطوي عليه من أسلوبية تكتسب مشروعية وجودها ودلالتها من خلال معالجته الخاصة لمفرداتها وتراكيبها.
من هنا يجب أن نضع أيدينا على التحدي الأكبر الذي يواجه أنوار سرحان وهي بصدد خلق هذه الضفيرة في إطار قصة.

في حقيقة الأمر نحن لا نتحدث عن اللهجة الفلسطينية وحضورها في قصصها من منطلق عارض يتيم، إننا نرصد ظاهرة موجودة في الكثير من قصصها التي قرأتها هنا.
الملاحظ إننا في أي نمط حياة داخل بناء اجتماعي معين نتعاطى اللهجة على نسق رباعي الأبعاد؛ لهجة خاصة بالحياة الأسرية، وأخرى خاصة بالإنسان المتدين وصلواته وأذكاره، ولهجة العوام في محيط اجتماعي أكبر، أو انتحال لهجة رابعة أكثر رقيا إذا كنا نخاطب مسئول حكومي أو ما شابه نعرض عليه مشكلة ما. وهذا إذا صحت الرؤية يجعل من هذه اللهجة ذاتها ليست نسقا منغلقا على نفسه، بل يعني استسلام اللهجة لعناصر النقد من أي اتجاه يتبنى بعدا معينا من هذه اللهجة، نقد تواجهه اللغة الأدبية بنفس الصلاحيات. لكن لا يفوتنا أن نقولها صريحة هنا: إن دخول اللهجة الفلسطينية في سرد "أنوار" ليس افتئاتا على اللغة الأدبية التي تشكل القاسم المشترك الأكبر من القصة، بل هو اعتراف ضمني أن هذه اللهجة ليست منغلقة على نفسها، بالشكل الذي يغرينا بأن نتهمها بأنها قد قامت بأي شكل من أشكال التشويه للغة الأدبية التي تمارسها الكاتبة ببراعة، ولا يمكن لهذه الضفيرة أن توجد داخل القصة لإرهاصة لا تخلو من عشوائية، فهذا ظلم كبير ولاشك إذا سلمنا بوجوده، فإذا كانت القصة كما سبق القول اقتطاع جزء من واقع الحياة، فإن هذا مدعاة لليقين بأن القصة عالم مصغر، فلو اعتبرنا أن لكل شعب لغة أدبية منبثقة من ثقافته، فإن ذلك بالضرورة انعكاس جدا فاعل للعالم الكبير الذي ينطوي على تعددية لغوية ولسانية فوق حدود الحصر.
من سيناريو لجريمة محتملة 10
{ لكن أخاها لم يرجع ولم تكتحل عينها برؤيته.. لجأ إلى لبنان ثم سافر للإمارات ثم لا تدري إلى أين.. ويوم جاءها خبر وفاته كان قد فات الأربعين. اندفقت منها صرخة فألجمها زوجها بلطمة كف كالمخباط: بدك الناس يعرفوا وييجوا يأجرّوا علينا؟ هو مات الله يرحمه وأنا ليش أدفع اللي معي حق تمر وقهوة وأجار كراسي.... انخرسي وإذا حدا بيدرى إنه أخوك مات ما بيظل لك ببيتي عيش.. أبلعها حتى صرختها على أخ لم تعرف بالضبط أي تراب لفه} (من قصة لا نعنع ولا حبق)

إننا بطبيعة الحال لا نحاكم ورود هذه اللهجة داخل سياقات السرد، ربما لو كنا نتحدث عن شاعرة لكان الأمر مختلفا، ولكننا هنا بصدد قصة، تجبرها في كثير من الأحيان أن تسلك طريقا مختلفا، فالعمل الأدبي في هذا الإطار احتفالية بالتعددية اللسانية والصوتية للغة، سواء كانت أدبية، أو غير أدبية. فالقاص لا يستطيع على الدوام أن يقوم بتنقية خطابه السردي من نواياه من جهة، ومن سطوة نبرة الآخر من جهة أخرى.
إن القصة عند" أنوار" وربما بوعي مقصود كانت تريد أن تحتفل بالتعدد اللساني الاجتماعي في أساسها، وحرصت فيما حرصت على إبراز طرائق الكلام، وتلك الشخوص الحاكية التي تجلس خلف كلماتها وأشكالها، وإن دور" أنوار" إنما يتجه لترتيب هذه الأنساق من الخطابات ووضعها على مسافات مختلفة ولكنها منضبطة للتخديم على النوايا الدلالية النهائية للنص، بمعنى أن تظل اللغة الأدبية واللهجة متى ظهرت، كأنها أدوات للتعبير عن أمرين مهمين لعلة خاصة في يقين الساردة.

الأول: تجريد مستويات اللهجة في السرد من سطوة الشخصية الساردة أثناء الخلق القصصي، بمعنى الحرص على ظهور بعض العناصر اللغوية التي لا تنتمي لها، ولا تعبر عنها بصفتها الكاتبة، بل حرصت على أن تعرضها لنا كموضوع يبرز توجهات العناصر الشخصية داخل البناء السردي.

الثاني: إن القصة كحالة مكتملة وبغض النظر عن تلك الضفيرة (لغة أدبية/ لهجة) هي في حد ذاتها حالة اكتمال رؤيوي من الكاتبة للحالة القصصية التي تم الإفصاح عنها؛ لأن الكاتب لا يتكلم هذه اللغة ويقوم بسردها وهو في حالة انفصال عنها. هو للدقة يكتب ويتحدث من خلالها على نفس الدرجة، فلا يمكن استئصال مرجعيته الخاصة وينأى بها عن مرجعية الآخرين الذين ظهروا في ثنايا قصته، مهما اختلفت ألسنتهم ولهجاتهم عن لهجته وأسلوبيته المرجعية التي تستند على قيمة الخلق الفني للقصة كمنتج نهائي.

لذا ليس من العدل أن ننتقد هذه الضفيرة التي تبدو كظاهرة متشكلة داخل النص القصصي ، بل هي بالضرورة جزء لا يتجزأ من هذا النسيج الذي أفرز هذه التعددية اللسانية وهذه اللهجة بوجه عام، وجاءت على هذا النحو لتؤكد خصوصيته، لكن إذا شئنا الموضوعية في شكل التعاطي مع هذه المسألة، فنحن لا نتجه لتقييم دخول اللهجة واقتحامها تمفصلات اللغة الأدبية، بل علينا أن نوجه كل طاقاتنا النقدية لأن نبحث عن قيمة هذا التضافر ومشروعية هذه الوشائج، بمعنى هل كانت اللغة الأدبية وهي تحتفل بهذه التعددية اللسانية والصوتية لكيمياء هذه اللهجة كانت داخل إطار أدبي منسجم، أم كانت رغبة ذرائعية من الكاتبة لتأسيس ما يمكن اعتباره التأكيد على هوية القصة وخضوعها بالكلية لسلطة ظرف الزمان والمكان، بشكل يُنبئ بخصوصية الحالة؟

إننا لو أمعنا النظر قليلا في هذا التعاطي لأنساق اللهجة الفلسطينية ودخولها للخطاب السردي لوجدنا إنها تتجه عموما إلى سياقات قولية صدرت من شخوص القصة، الأمر الذي يجعلها ذات خصوصية معينة على المحك الأدبي والدلالي بشكل أو بآخر، بل يمكن اعتبارها لغة ثانية.
في الحقيقة لا أريد أن أمكث طويلا في مناخ سفسطات النقاد، لكن أستطيع من منطلق حسن ظن مبدئي في أطروحات أنوار القصصية، التأكيد أن هذا التمازج بين اللغة الأدبية واحتفالها باللهجة الفلسطينية، ليست رغبة للتأسيس لمعنى المحلية للقصة وما تنطوي عليه من أفكار خاصة بالواقع الفلسطيني بشكل محدد، وفي ذات الوقت اعتبر اللغة الأدبية هنا كانت عامرة بالفجوات والفراغات التي من شأن هذه اللهجة أن تعيد ملئها بسياقات سردية تتحد معها وظيفيا لبلورة الفكرة القصصية في حال اكتمالها.

إن المجتمع الفلسطيني فرضت عليه الظروف أن يكون مجتمعا عامرا بالحركة وربما الغليان، مرة من جهة الحياة الصعبة التي يعيشها معظم أفراده، ومرة من الإحساس المفقود بالحرية والاستقلالية، إحساس لا يتوقف عند حدود الافتقاد للعديد من المعاني الإنسانية، بل تصل لحدود التداعيات الدموية في كثير من الأحيان.
إن طرائق التعبير عن هذا الواقع لا يمكن أن ترتكز على لغة واحدة، ولا يمكن أن نجد خطاب سردي منتمي لهذا المناخ إلا وظهر واضحا جليا أن اللغة الأدبية ومفردات اللهجة وإن كانت تخدم الأداء الوظيفي لمنظومة اللغة عموما، ولكنها صراع بين العديد من الأفكار والاتجاهات ووجهات النظر، بل قد نلمس أحيانا أن حضور اللهجة في حوار ورد ذكره في القصة قد أدى بوعي مقصود إلى إحداث نقلة أو تغيير في وجهة نظر الكاتبة فجاءت لغتها تعبيرا عن هذا الأثر أو التغيير .
{ وبنبرة حادة بادرني أبي بالقول: بينفعش تظلّي هون لحالك بعد! إما بتيجي معنا أو بيجي زاهي يسكن معك! لم أكد أمتص عباراته حتى انهالت علي تساؤلات أخي زاهي عن حقيقة علاقتي بمنير، وعن السر الكامن وراء زياراته المتكررة إلى بيتي . فهمت من حديثهم أن ألسنة نساء الحي قد نعقت بما وسعه خيالهنّ من حكايات نسجنها حولي} (من قصة سأسجد لهما)
لعلنا نلاحظ من هذا المثال، أن الوسط الاجتماعي والثقافي كمنتج أول للغة، ورغم التعددية اللسانية قد جعل من السياقات السردية المؤسسة على اللهجة تبدأ وتنتهي دراميا وفق إرادة الكاتبة في الأساس، وكأن لغتها الأدبية هي في حقيقتها تعليق منتمي بالكلية للذات الساردة وتقييمها المرجعي لذاك المفصل السردي الذي تسللت له اللهجة الفلسطينية.

.

التعليقات