السقطاتُ المطلقة / سامي مهنا

السقطاتُ المطلقة / سامي مهنا
سبقَ وكتب الأخ عصام زكي عرّاف مقالاً لا أذكر عنوانه منتقدًا بحماس شديد وتجنّي أشد مقالاً لي بعنوان "أزمة الثقافة الهوية والأدب عند عرب ال 48" والذي نُشر في القدس العربي وموقع عرب ال 48 الذي أُحرر فيه الزاوية الأدبية، وقد نُشر المقال في الزاوية التي أحررها، فأبقيتهُ دون تدخّل أو حذف، أولاً لأنني مؤمن بالحوار، فكرًا وممارسةً، وثانيًا كي أعطي عراف وغيره درسًا بالفعل لا بالقول، "لعلّهم يفقهون".
لكنّ بعد انقطاع مبارك يطلّ علينا "بتحفةٍ فكرية- علمية- أدبية" منتقدًا مقالاً جديدًا لي بعنوان سقطات اينشتين النسبية. ليس بالسيئ أنّ عراف ممن "يسهرُ جرّاها ويختصمُ"... لكنّ تهجّمه الشخصي غير المبرر، أوجب الرد رغم التردد للأسباب نفسها، المذكرة أعلاه.
حين قرأتُ عنوان مقاله، ظننتهُ مقالاً علميًا نقيّاً، يسلّط صاحبه الأضواء على الجانب العلمي الفيزيائي، والذي لم أخضه في مقالي سوى بالإشارة، لأنني لستُ متعمقًا ولا متخصصًا في هذا المضمار، ولأنني لا أرقص رقصة لا أعرفها، إلاّ أن عرّاف يرمي بمقاله غير ذلك، فيبدأ بالمقدّمة مقتبسًا من أبي العتاهية والجاحظ، ناصحًا كاتب هذه السّطور بلسان هؤلاء الأعلام وأقلام الثقة، "بالصّمت حين يأتي المنطق في غير حينه". ثم نجدهُ ينتقلُ إلى النابغة الذبياني، مبتعدًا عن السياق، مقتبِسًا قصةً ليس لها علاقة لا بالافتتاحية ولا بالمقال ولا بالسياق ولا بالنصيحة الناتجة عنهم، وكأنه يقتبس من كتاب، فيستحسن قصةً وردت في الصفحة نفسها، فيضيفها!
ويأتي بعدها بدرّةٍ نفيسة من حجارته الكريمة السّخية، فينوّرنا بمعلومة عظيمة أن عنوان مقالي "سقطات اينشتين النسبية هو عنوان مقال لا معنى له في فقه اللغة، بل ليس من لغة العرب في شيء كما يقول الشّيخ ابراهيم اليازجي" (يا سلام)!!، وأود أن أنصح بهذه المناسبة الأخ عرّاف بمراجعة ابن جني على سبيل المثال ليفهم ما هو فقه اللغة.
وأود أن أشير إلى أن هذه التقليدية في الذوق والتفكير والتي لا تحتمل التحديث والابتكار والإبداع، هي عقلية سادت وسيطرت في عصور الانحطاط، وبدأ العرب يخرجون من هذه الحفرة المظلمة منذ بدايات ما أُطلق عليه "عصر النهضة" التي لا تزال تزيل الغبار عن ثيابها، لكن النهضة العربية لا تزال منحسرةً بين النخب، لا تصل دوائرها إلى الأطراف الشعبية. والعقلية التقليدية الموروثة أفقيًا منذ سقوط مراكز الحضارة العربية لا تزال تسيطر على الأطراف وتطال المركز، ولا ينجو منها سوى الفرقة المتجاوزة والمتخطّية ظروفها وشروطهما ومفاهيمها المتوارثة والمتكدّسة كأكياس رمال محليّة، أنعم الله علينا بها دون حدٍّ، في صحرائنا الشاسعة والواسعة واللاسعة.
وأتساءل: ما معنى جملة: "سقطات اينشتين النسبية هو عنوان مقال لا معنى له في فقه اللغة" ؟؟؟!!!
لو أن مستمعًا عربيًا من القرن السادس عشر قال هذه الجملة لعذرناه، لكن أن يكتبها قارئٌ يعيش في قرننا! أنا أسمّي هذا غيابًا وانقطاعًا عن العصر بل عن الإبداع فهمًا، فكرًا، ذوقًا وتجدّدًا.
وكأنه يقول من خلال الاكتشافات اللغوية وانتقاد ربط المفردات وتكوين الجمل التي يتحفنا بها،: لا حياة خارج "اتموسفيرا" لسان العرب، وما جاء على لسان العرب القدماء، وإن اللغة العربية كائن نهائيٌ، أغلق باب الاجتهاد عند الأخفش.
ومع الاحترام الشّديد للسان العرب، وغيره من القواميس والنواميس والتي بتنا نستطيع العودة إليها "بكبسة زر" في الباحث الانترنيتي، فالمعرفة والثقافة ليست مقتصرة على معرفة أصل واشتقاق المفردة، ولا حفظ وسرد أخبار الأدب والأدباء وحسب ، (رغم أن هذه المعرفة جزء هام من الثقافة) فكل هذه المعلومات متوفرة في الاختراع العصري الذي يسمى انترنيت، ولا يحتاج إلى متخصصين حتى ينعموا علينا بها، إنما الثقافة والإبداع هما الفهم والربط والتحليل والتعمق والابتكار والتجدد والتجديد وترويض النفس والحواس وتحسين الذوق والرؤية والرؤيا والاستشراف والارتقاء بالذات المتجددة نحو آفاق أسمى، وكل هذا لا نجده عند النماذج التي يمثلها عصام عراف.
هذه العقلية التي يحاول بعض السلفيين فرضها وتكريسها وترسيخها، هي عقلية "الاحاضر" "والامستقبل" وعقلية الجمود والخمود والوراء الوراء. والمشكلة أن هؤلاء يستخدمون اللغة كأنها كائن مقدس، والصبغة القدسية وإن كانت مزيفّة توقع الكثير في شباكها، وتدب الرهبة في صدور العوام والسُذّج، لكنها لا تقنع ذوي الألباب والتقييم والمعرفة والذوق.
وبما أنّ أخانا عرّاف استدرجنا لفتح هذا الباب الذي كان بمأمنٍ قبله، فلا بد لي إلا أن أذكر أنه نشرَ في الزاوية التي أحررها في عرب ال 48 قبل فترة، (وأعلن براءتي من هذا النشر)، "قصيدة" للحق أقول إنها قومية وإنسانية المضمون، إلاّ أنها نظم لا يقترب إلى الشّعر سوى بالشكل الخارجي، لا روح فيها ولا حرارة، فاستُقبلتْ بالإنتقاد.

وأعود لمقالي "سقطات اينشتين النسبية" وأشكر بالمناسبة القرّاء المعقّبين، وقد أصاب بعضهم بالنسبة لجوهر وهدف المقال، الذي يأخذ اينشتين كنموذج، أعبّر من خلاله عن أفكار معيّنة، أهمّها الدعوة لعَلمانية إنسانية تؤمن بالإنسان كإنسان، غير منطلقةٍ من النظرة الدينية أو القبلية أو حتّى القومية، وهذه المنطلقات لا تناقض الإيمان والانتماء الوطني والقومي والتي تشكّل هيكلَ ثقافةِ وهُويّةِ ووعيِ الإنسان، إنما ترفع الإنسان إلى مقامه الانساني الأسمى، حيث تلتقي النقائض وتتداخل وتنسجم. وهدف كتابة مثل هذا المقال، هو وضع القيم والمعابير المثالية أولاً لنفسي لأستنير بها وأتدرّج نحوها كجزء من سيرورتي الانسانية، فهدف الأدب والفكر والثقافة، التغيُّر والتغير والارتقاء.
وأوضحتُ أن عودة اينشتين إلى الدين ليست سقطةً، بل تبنيه لقَبَلية التوراة التي تصوّر اليهود كهدف الخليقة والكون، وتبنيه لمصطلحات عنصرية "كالأغيار" وغيرها، ومساهمته في المشروع الصهيوني، وتغاضيه عن بعض نتائج قيام الدولة العبرية، وأهمها مشكلة اللاجئين، ودغمائيته الفكرية والعلمية أحيانًا، هي السقطات، والإنسان يُحاسب بقدر مقداره، وموقع اينشتين السامي، يفرض عليه فكرًا سلوكًا يتلاءم مع منزلته ومكانته. ولن أعود إلى كلّ سقطاته، لكنني أظهرتُ فضائله الكبيرة ومواقفه السياسية المشرّفة من وجهة نظر إنسانية محايدة، وتصدّيه للكثير من الأفكار الصهيونية، وبيّنتُ قِيَمهُ الأخلاقية وصراعه الداخلي، بين كونيةٍ تستقطبه، وقبليةٍ تشدّه بقوّة جاذبية الظروف والأحداث.
لكن الأخ عرّاف يضيّع هدف المقال، ولا يكتفي (غير موفّق طبعًا) بمحاولة تحجيم كاتب هذه السطور، وإنمّا يتعرض لمكانة اينشتين، واصفًا إياه بالفيزيائي العادي، منكرًا عليه اجتهاداته الفكرية، وتأثيره بالأحداث، ولو كان اينشتين كما يصفه عرّاف، لما كان فرقًا بينهما، فعراف أيضًا يدرّس الفيزياء، ويتعامل مع الأدب والثقافة.
وبالنسبة للمتصوفين الكبار وأذكر منهم مولانا جلال الدين الرمي، والحّلاج وابن عربي، فلهم فضل كبير في التعالي عن تفاسير فقهيةٍ ضيّقةٍ، والارتقاء نحو آفاقٍ إنسانية عليا، والمعرفة الإلهية عند هؤلاء تتم برفع الحجاب عن العقل والحس والوصول إلى الحقيقة الكونية، أي الله، بالكشف والذوق.
لن أدخل في مقالي هذا إلى دور الفلاسفة من جهة والحركات الصوفية من جهة أخرى، في البحث عن حقائق الكون، ففي جعبتي مقالات كثيرة أخصّصها لهذا المجال الواسع العظيم. وقد خصّصتُ لهذه المواضيع أكثر من حلقة في برنامجي الأدبي والثقافي الأسبوعي في إذاعة الشمس، وهو مجال أضخم من أن أخوضه عبر هذا الردٍّ.
لكن بالنسبة لتساؤل الأخ عرّاف عن عظمة الكون التي بحث عنها الصوفيون والحلوليون، وهل وجدوا شيئًا؟ نعم لقد وجدوا نقطة البيكار والدائرة التي تحيطها، أي الله.
وأستغرب منه أو بالأحرى لا أستغرب، عندما يناقش (بسطحية طبعًا) المقولة الصّوفية "الكون جسد الله" فنراه يتساءل، أين روحه، وإن كان الكون جسد الله فلماذا الكوارث والفيضانات إلخ... أتخيّل القرّاء يردّون عليه معي الآن بصوت واحد: إنها جملة مجازية يا عمّي عصام، ألم تسمع بالمجاز؟؟؟!!!! وإن كنت تحب المعرّي، الذي أراه من أعظم العظماء، فلماذا لا تأخذ بقوله:"لا تقيد عليَّ لفظي فإنّي مثل غيري تكلمي بالمجاز".
ويرد الأخ عرّاف، (بسطحية أكبر) على مقولة اينشتين المجازية" عن الرقص على أنغام نداء الكون" قائلاً: إنه تعبير غير موفق، فلا وجود لأي أنغام في الفضاء حسب ما نعرفه، والفضاء بين الكواكب والمجرات حيّز فارغ بارد جدًا، درجة حرارته 2.75 حسب سلم كلفن" إلخ..... ما هذه البرودة؟

أعود وأقول أنني ترددتُ كثيرًا قبل كتابة هذا الرد، لأنني لا أحب أن يستدرجني أحد إلى خاناتٍ ضيّقة لا تليق بأخلاقٍ أجتهد بتهذيبها كل ثانية من حياتي الفانية، ويشهد الله أن الهدف الثقافي متغلّب في هذا الرد على النزعات الغرائزية، وهو نعم الشاهد ونعم الوكيل

.

التعليقات