تداعيات ما بعد النكبة/قلنا نكتب عن هوشة وكأننا نكتب عن الكساير.../سلمان ناطور

-

تداعيات ما بعد النكبة/قلنا نكتب عن هوشة وكأننا نكتب عن الكساير.../سلمان ناطور
تقطع الشارع الطويل العريض..تنظر الى اليمين ثم الى اليسار..تتراءى لك شجرة صبار تحتضن كومة من الحجارة أو تتكيء على حائط.. تجزم أن على هذه البقعة/ الخراب كانت في يوم من الأيام قرية عامرة تبتسم لحقول القمح وكروم التفاح والعنب.

هوشة والكساير.. ألأولى على تلة في الجانب الأيمن من الشارع والثانية على مرتفع لم يبق منها شيء حتى شجرة الصبار وأطلال الحائط الحالم بعودة أهله..

قلنا نكتب عن هوشة، وكأننا نكتب عن الكساير. موقع واحد، شعب واحد ومصير واحد. وبدأنا نبحث في شفاعمرو، في سخنين، في البعنة، ولو كانت مهمتنا البحث عن أحياء لوصلنا الى بيروت والشام والبحرين، ولكننا لم نبحث الا عن شيخ مشقق الوجه، يعرف تاريخ هذه القرية منذ وصل رجال عبد القادر الجزائري الى فلسطين وكل منهم يحمل ستة فرانكات فرنسية وجروحا كانت تنزف بعد معركة قاسية على الأرض التي قدمت فيما بعد مليون شهيد.

"المغاربة أبطال..أولاد/ أحفاد عبد القادر" قال الشيخ وعلمنا منه أن المغاربة وصلوا الى هذه لمنطقة واستوطنوا في ثلاث عشرة قرية ، سبع منها في حوران. رفضوا أن يكونوا لاجئين في بلاد الشام فقرروا العودة الى الجزائر وفي ساحات حيفا نصبوا بيوت الشعر في انتظار باخرة تنقلهم الى المواقع القديمة..

ظلوا ينتظرون وهم يبيتون على سفر.. وقد حملت بواخر "قادمين طلائعيين وأنزلتهم في الميناء ليحتلوا مرتفعات الكرمل وينظروا من شرفات "الهدار" الى بيوت الشعر التي يهزهزها الريح.. كأنها شيئ عابر.. كأنها تنتظر أن تهب عاصفة وتقتلع أوتادها.. وترمي بهم في البحر.. البحر الصاخب.

التقينا الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه.. تحت شجرة زيتون وارفة الظلال.. تجاوز الثمانين حولا.. والى جانبه جلس حفيده موسى..

- سيدك يا موسى وحسين ابن ناصر كانوا اولاد شباب في زهرة عمرهم.. راحوا في حيفا يدّوروا على شغل. يومها مصطفى باشا الخليل كان يعمّر في داره. اجوا على المعلم. سألوه : عندك شغل ؟ قال : عندي. كانوا جدعان مستهمين في الشغل. شافهم مصطفى باشا. سألهم : من فين الاولاد ؟ قالوا : من الجزائريه في حارة البيض. سألهم : من فين جيتوا. في عندكم ختياريه. ابعث لي اثنين. رجعوا الاولاد وخبروا. الصبح تصبحوا بخير ، راحوا ختيارية اثنين الى بيت مصطفى باشا. استقبلهم ورحب فيهم وسألهم عن قصتهم فحكوا له كل الموضوع "من طقطق للسلام عليكم.." قالوا له يومها : خلصت المصاري وبدنا نرجع لوطنا.. فصاح : "يا عربجي حط على الخيل.." ركبوا معه وأخذهم للمتصرف وقال له : هؤلاء مهاجرين من الجزائر وبدهم مصاري.. بدهم يعيشوا.. أعطوهم أرض.. فتحدث المتصرف مع الوالي في بيروت والوالي تحدث مع عبد الحميد في اسطنبول وقال : أعطوهم من أراضي الميري.
ونصحهم مصطفى باشا يطلبوا خربة هوشه.. لأنها واقعه بين المدن الرئيسيه الناصره وحيفا وعكا وشفاعمرو.."

توقف الشيخ هنيهه عن الحديث.. تلفت حوله كأنه يبحث عن خربة هوشه التي كانت قرية عامرة أحياها "المغاربه" وكانت ملجأ لكل أهل المنطقه..

"كل واحد هارب من بلده كان يلفي عندنا.. علشان هيك قسم كبير من أهالي البلد حملوا أسماء بلادهم. كان عندنا العبلاني - من عبلين. والطمراوي - من طمره. والقباطي - من قباطيا. كل واحد كان يحمل اسم بلد..

سبحان الله ، كأنه مكتوب على أهل هالبلاد يحملوا اسم بلدهم.. حتى تقوم الساعه.. اليوم بتسمع عن الصفدي وعن الصفوري وعن الكسايري وعن المعلولي.. الناس عايشه وبلادهم فش الها أثر الا على لسانهم.. حزينه هالبلاد يا عمي.. ما شافت ولا شفنا يوم سعاده.. أيام عبد الحميد كنا نفلح الارض ونخزن القمح عالسده.. ايام الانجليز سخرونا في "كمبات" الجيش.. وبعد الشغل نفلح أرضنا.. على دور اسرائيل لا بقينا ولا بقي أرض.. و"كمبات" الجيش بنوها على قبورنا.. حزينة هالبلاد يا عمي حزينه.."

يتذكر الشيخ تلك الايام البعيده / القريبه. يشير باصبعه الى طفل صغير جلس يصغي لحديث جده عن أيام زمان. يقول له :
- روح جيب المفكره من الديمايه !
والديمايه بلغتنا هي القمباز ، ويعود الطفل وهو يحمل بطاقة صغيرة..

- "هاي جنسيه فرنساويه.. أخذناها لما دخل الانجليز علشان يعاملونا كرعايا أجانب وتحمينا فرنسا ، كان كل شغلهم التمهيد لليهود : قاسوا الارض بالشبر وأعطوهم أياها.. كنا مسلحين وندافع عن أرضنا.. ولكن بدهمش حد يرفع رأسه.. كانوا يطوقوا البلد.. ولما نحس في الطوق كنا نقول : "شوالك والخروبيه"..
هاي كانت كلمة السر بين المسلحين.. كان كل واحد يحمل شوال ويهرب لمنطقة الخروبيه ويتخبا يوم.. يومين ثلاثه بينما ينحل الطوق.. كانوا يخرجوا الناس على البيادر ويركعوهم في الشمس من الصبح للمسا.. ويفتشوا بيوتنا.. ويضربونا ويعذبونا علشان نقر عن المسلحين ونسلمهم سلاحنا.. يوم من الايام انطخ أنبوب النفط.. كان عندي بدوي نايم.. قلت له قوم تفرج السهل مولع قال :

- يا نبي ! عملها أبو عفان.

وأبو عفان كان يملك باروده "عصمليه" فش باروده تقدح الماسوره غيرها. تاني يوم وصل الضابط فريد ومعه جيش وكلاب أثر. دارنا كانت مفتوحه والكلب مشوّب. قيّل الكلب باب الدار. قال الضابط : الثوار ميلوا على هالدار. أنا ما كنت في الدار. طوقوا البلد. ثاني يوم جيت. صادفوني جاي فسألوني : شوا اسمك ؟ قلت : فلان. أتاريهم دايرين على اسمي. بعد ما كبشوني هربت منهم. تاني ليله. ثالث ليله سهرنا في بيت واحد صديق. راحت علينا نومه. فإجوا علينا وكبشوني وكتفوني برشمة الحماره. وحطوني في السياره الى "بيت غاليم" في حيفا. بعدين نقلوني الى مسحه وهناك بقيت ستة أشهر. كنا 16 واحد في مسحه : أبو موسى ورشيد وقاسم وأبو عيطه والشيخ أحمد صديق وكثار غيرهم. والله ظلموني، والله ما هو صحيح ، راح اللي راح.. انحبسنا ستة أشهر على شوبة كلب.."

" الانجليز طوقوا البلد. ليبحثوا عن الثوار.. في واحد ثائر فات في المغاره. حماد الشيخ وابراهيم ابن سلام وعلى المحمد ويوسف الناطور كانوا يطحنوا في البابور.. لقاهم الجيش على الطريق قالوا لهم : ادخلوا طلعوا "البانديت". تقدم حماد الشيخ ووقف عند باب المغاره وخلفه رفاقه الثلاثه وصف الجنود على بعد خمسة أمتار مصوبين رشاشاتهم نحوهم. انحنى حماد في مدخل المغاره وصاح : يا الله. علشان يعرف الثائر أنه عربي فلا يطلق عليه الرصاص. ولكن الجنود أدركوا هذه الحيله وأطلقوا عليهم الرصاص فسقطوا على الارض ثم القوا بجثثهم في المغاره.

"والله شيئ يشيب الاطفال.. أحمد الصديق حبسوه في عتليت.. في مسألة الثوره.. يوسف الانواني من الفرج التحق مع الشيخ عز الدين القسام وقتل معه في يعبد.. كان لنا جار من "الكمبانيه" اسمه ابراهام غيفر ، كان يشتغل في الحرس.. بعث لنا : لا تطخوا علينا ولا نطخ عليكم"..

يضحك الشيخ فتظهر في شقوق وجهه آلام تلك الفتره.. كأن في محجره مغارة كتلك التي اختبأ فيها الثائر.. كأن في خديه ارتسم ذلك الوادي العميق الذي يفصل بين هوشه والكساير..
"رهنا أراضي واشترينا سلاح.. اشتريت باروده ما تنفع..

خربانه.. بعثتها مرتين. ثلاث ، للتصليح.. حياة أبوي راح الشام وجاب باروده.. كان هو والوحش وقاسم أبو عيطه وأكم من واحد معهم بواريد نافعه. لما ولعت مع اليهود ، صار طخ على "الكمبانيه".. ما عرفنا مين ولا منين جاي الطخ.. تجمعوا أهاليها وهجموا في الليل ، رحلنا من البلد وحطينا عند عين الزيات.. تالي الليل حياة حسن الخضر قال : بدنا نرجع عالبلد. ركب حماره وراح. كانت الدنيا الظهر سمعنا أكم طلق بارود. انقتل حسن وفارس الحمدان. الصبح ما حسينا الا جنودهم منا وفوق. قمنا وهجمنا. وصار الفزيع. فزعوا من كل القرى حتى حدود لبنان. انقتل 20 من أهالي المنطقه بينهم أبو رزمك من يركا وسليمان أبو رعد وفضل لويس وجميل الصادق ويوسف شعبان وأحمد اليوسف ، هذا كان زلمه مسكين كان معه فرد. هجينا لشفاعمرو ما حسينا الا اللغومه صارت تفقع في البيوت.. ومن يومها.. في ناس عظامهم بعدها في الرجمه.. سمعت عن واقعة هوشه والكساير ؟"

بعد واقعة الهوشه والكساير.. بعد أن مسحت ألغامهم كل البيوت.. وأصبحت الشويكه ومراح رقاق ومرج الذهب وطيحة الفرس ووادي هوشه ، أصبحت خرابات تندب فيها أشجار التين والرمان هذا الحظ التعيس.. بعدها وصل الشيخ المشقق الوجه مع عائلته وعدد من أهالي البلد الى وادي سلامه..
"الصبح قمت ريقي ناشف. نزلت عالوادي وشربت. قلت : يا جماعه وين رايحين ؟

قالوا : على سوريا ولبنان.

قلت : اذا كان هون في فلسطين شحدنا. شو بدنا نعمل في لبنان. سألتهم معكم مصاري ؟ قالوا : لأ ! معكم طحين ؟ قالوا : لأ. قلت : والله ما أنا رايح ! رجعت مع الفرس. نشف ريقي وأنا أقنع العيله لترجع مع أولادها. قالت : لو فضيل هون نرجع (وفضيل الابن البكر كان قد هرب الى لبنان). قلت لها : ترجعي ولا بخاطرك. ونهرت الفرس ومشيت وأنا أتلفت وراي. يمكن تشوفني رايح وتلحقني. لكن ما لحقت. وصلت دار أبو حماده ، لاقوني عسكر يغئال الون. ساقوني على السرايا في شفاعمرو ربطت الفرس في درج السرايا. بعدين أخذوني الى عتليت. بقيت هناك سنه وشهرين. بعدها أطلقوا سبيلي. في لبنان قال ابني فضيل لأمه : بدي أشوف الختيار. تسلل بدون هويه ولا شيئ. سألني : شو رأيك ؟ قلت : شوف أمك وارجعوا. فسدوا عليه أولاد الحرام فأجوا في الليل ، أخذوه وكبوه على جنين. مره ثانية جاب نقلة مهرب وأجا مع أمه وأخوانه. ميّل الأواعي على نحف ووصلوا لشفاعمرو. يومها أخذنا كلنا هويات الا هو رفضوا يعطوه "قال مغضوب عليه" وكبوه مره ثانيه على حدود لبنان ومن يومها ما شفته وما سمعت عنه شيئ. بعثوا لي : أرضك مصادره. نزلت قابلت موظف اسمه دافيد باو : سألني وين أنت ساكن ؟ قلت في شفاعمرو. قال : اللي غادر بيته مسافة أربعين متر صار لاجئ. أرضك مصادره. بدك تمشي حسب القانون : تفضل. بدكش سكتر من هون. تركت مكتبه ودموعي على خدي. على الباب التقيت بمحامي من "زلام" الحكومه. قلت له الحكايه. قال لي ابن الكلب : خذ المتيسر وأترك المتعسر.

- أرضي 180 دونم أعطوني 30 دونم. هاي الارض ملكي ، عرق جبيني. بنيت خشه في الارض. كل الوقت حاولوا يهدموها، لكني قلت لهم : هاي الخشه بتكون قبري وقبر الختياره. فرضوا علي اقامه اجباريه. الختياره توفت الله يرحمها وانا بعدني هون. "

في الطرف الجنوبي من القرية خرابه صغيره هي "مزار النبي هوشان" ، والنبي هوشان كان سندا لاهالي القريه فينزل عليهم المطر عندما يطلبون النجده في موسم يتأخر فيه الوسم. فيتجمع شبان القريه ، ويختارون من بينهم "القرندس" ، شاب يلبس ثياب مهرج ، ويقف في المقدمه ويتبعه الاهالي وهم ينشدون :

يا أم الغيث غيثينا دلي الكوز عالجره

زرعنا شكاره في الدبه ما طلع ولا حبه

يالله الشتا يا ربي رغيف معشش في عبي

ويصلون الى بيت ، يقفون عند المدخل وهم ينشدون حتى يفتح لهم الباب ، فيدخل "القرندس" وحوله مرافقوه. يقول له أحدهم :

- كيف تعجن العجوز !

فيركع على الارض ، ويشمر عن ساعديه. ويحني ظهره ويقبض قبضته ويتمتم كالعجوز ويتحرك بشكل يثير الضحك.. ولما يضحك أهل البيت تتساقط عليه القروش. فيقولون له :

- كيف تضحك الصبيه ؟

فيعدل قعدته. مادا رجليه الى الامام. ويغطي قدميه بفستانه حتى لا ينكشف شيئ من حرمة الصبيه الجميله. وتتحرك أنامله كأنه منشغل في حياكة جارزه لخطيبها.. ثم يذبل عينيه ويبتسم ويحشر رأسه بين منكبيه كأن الصبيه يباغتها الخجل حين تذبل عيناها وتلمع أسنانها الناصعه وتخشى أن تتحدى الغمازه التي تتوسط خدها قلوب الشباب.. فينفرج الجالسون ضاحكين.. وينتصب "القرندس" ليجمع ما تساقط عليه من قروش واذا كانت صبية جميلة تجلس في زاوية من زوايا البيت تصوب الانظار نحوها.. كأنهم يلاطفونها.. كأنهم يطلبون منها ما يطلبون من النبي هوشان.. وتنطلق الانشوده :

يا أم الغيثان غيثينا دلي الكور عالجره..

وينتقلون من بيت الى بيت.. حتى يأتوا على آخر خشه من خشش الفقراء.. فيأخذون ما جمعوا من أموال ويلقون بها على قبر النبي طالبين أن ينزل عليهم المطر ، ويمضون ليلتهم الخريفيه على أمل.. ويقسم الشيخ أن النبي هوشان لم يخيب آمالهم ولا مره.. الا في المرة الاخيرة عندما طلبوا منه النجدة لينصرهم على جنود "الكمبانيه" فلم يحرك ساكنا.

- خفى الله يا ربي.. هذا النبي هو هوشع بن نون.. والا كيف نصر الستة على الستين..؟

التعليقات