ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 25)/ د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 25)/ د.مصطفى كبها
كنا قد بدأنا في الحلقة السابقة استعراض الحوادث المهمة في الحقبة الثالثة من الثورة وهي مرحلة المد والتوهج. وفي هذه الحلقة سنكمل استعراض تلك الأحداث مع التركيز على تلك التي اختزنت في الوجدان والذاكرة الوطنية الفلسطينية ولم يكن لها، بالرغم من ذلك صدى في المصادر المكتوبة التي أرخت للثورة.

بعد خدمة دامت سبع سنوات، كانت الأخيرتان فيها على أشد ما يكون، طولب المندوب السامي البريطاني الثالث السير آرثر واكهوب بإخلاء منصبه. وقد كان ذلك، كما يبدو، على خلفية فشله باخضاع الثورة الفلسطينية التي ازدادت حدة في الربع الأول من سنة 1938.

غادر الجنرال المخضرم فلسطين في الثالث من شهر آذار 1938 وذلك بعد أن قام بجولة وداعية في المستوطنات اليهودية نتانيا برديس حنا والخضيرة، وبعد أن نام ليلته الأخيرة في البلاد في عربة قطار في محطة الخضيرة.

غادر غداة تلك الليلة عن طريق ميناء حيفا تاركاً وراءه ميراثاً بشعاً من التنكيل والقمع وقوانين الطوارئ المجحفة وما لايقل عن 65 حكماُ بالاعدام على ثوار فلسطينيين أو مساندين للثورة في الفترة الواقعة بين أيلول 1937 وشباط 1938 فقط.

بعد مغادرة واكهوب وتولي مكمايكل لم يتغير الوضع الصعب لحكومة الانتداب كثيراً ،الشيء الذي جعل وزير المستعمرات يغير أيضاً، في مطلع نيسان 1938، القائد الأعلى للجيش البريطاني في فلسطين الجنرال ويفل بآخر أشد بطشاً هو الجنرال روبرت هايننغ، الذي تولى مهام منصبه في التاسع من نيسان. وقد واكب بدء تسلمه لدفة القيادة قدوم لجنة وودهيد الفنية ومقابلة الفلسطينيين لها بالاضراب العام الذي دعت إليه اللجنة العربية العليا ولجنة الجهاد المقدس في الرابع والعشرين من نيسان 1938، وكانت الاستجابة لهذه الدعوة شبه كاملة.

وقبل تقديم لجنة وودهيد لتوصياتها طلب منها وزير المستعمرات مقابلة الجنرال هايننغ واستشارته في الأبعاد العسكرية لعملها. وكان القصد من ذلك مراعاة الأبعاد العسكرية -الاستراتيجية للتواجد البريطاني في فلسطين وفي الشرق الأوسط عامة لا سيما وأن رياح الحرب العالمية كانت قد بدأت بالهبوب وكانت الحسابات العسكرية البريطانية أوسع بكثير من الساحة الفلسطينية الضيقة.

ولكن شيئاً من هذه الساحة خصص للنشاط العسكري البريطاني العام، وقد كان بناء معسكر صرفند العسكري الضخم على أراضي قرية صرفند العمار ( قضاء الرملة ) جزءاً من هذا النشاط .
أدرك هايننغ أن قمع الثورة وكسر شوكتها لا يمكن أن يكتب له النجاح دون إخضاع بؤرتها في منطقة المثلث الكبير (جنين- نابلس -طولكرم ) حيث عملت القيادة العسكرية العامة للثورة .

بادر هايننغ في الأسبوع التالي لتسلمه منصبه إلى شن عملية واسعة في هذه المنطقة دامت شهراً كاملاً لم يحقق فيها الكثير من أهدافها .

بدأت العملية في الرابع عشر من نيسان ووجهت ضد القائد العام للثورة عبد الرحيم الحاج محمد الذي تواجد في ذلك اليوم في قرية دير الغصون (قضاء طولكرم ).

خصص القائد الانجليزي لهذه العملية سبع كتائب مشاة مجهزة بمدافع رشاشة ومدرعات خفيفة وبغطاء جوي مكون من خمس طائرات.

جاءت القوات الانجليزية إلى دير الغصون من جهتين الأولى من جهة شويكة ودير العشاير (الجنوب الغربي ) والأخرى من جهة بلعا وصيدا (الجنوب الشرقي ). كان عبد الرحيم الحاج محمد قد علم بالتحضيرات للهجوم وغادر دير الغصون باتجاه الشمال نحو النزلات وباقة الشرقية وأبقى في دير الغصون، بغرض التمويه، فصيلاً صغيراً بقيادة عبد الله الأسعد (من عتيل ) أمره بالانسحاب والتخفي داخل السكان فور بدء الهجوم البريطاني المكثف.

وقد أنبأني المرحوم عدنان ياسين (ابن عم القائد العام وأحد المقربين له في تلك الفترة ) أن عبد الرحيم تلقى تفاصيل خطة الهجوم من المقدم رشيد عبد الفتاح من ذنابة (ابن عم آخر لعبد الرحيم ) والذي عمل في قوات الزنار الأحمر البريطانية وكذلك من الشرطي عبد الخالق عبد الغني(من قرية نحف في الجليل الأعلى) والذي كان يعمل ضابطاً في مركز شرطة طولكرم.

قاد العملية من الجانب الانجليزي العقيد أواطس الذي أختار أن يأتي مع القوات التي قامت بعملية الالتفاف من جهة بلعا، وقد جوبهت هذه القوات بكمين نصبه لها الثوار في لية بلعا التي أطلق عليها البريطانيون "زاوية الأشباح " وذلك لكثرة الكمائن التي نصبت للقوات البريطانية فيها.

استطاع الثوار إيقاف القوة المتقدمة ساعات عديدة من خلال نيران المدافع الرشاشة المنصوبة في خربة أبو خميش جنوبي الشارع وكتف جبل المنطار شمالي الشارع.

ولم يستطع أواطس كسر الطوق إلا بعد الاستنجاد بطائرتين قامتا بقصف مواقع الثوار وتخليص القوة المحاصرة التي تعطلت بعض مركباتها وأصيب بعض أفرادها بجراح كانت جراح أحدهم خطيرة وتوفي بعد يومين من الإصابة متأثراً بجراحه.

وقد استشهد من الثوار أربعة نتيجة ملاحقة الطائرات لهم. إثنان استشهدا قرب خربة أبو خميش وهما الأخوان عبد الرحيم وطاهر البرغوش. وإثنان استشهدا في الجهة الثانية من الشارع قرب قرية بلعا وهما محمد عبد الباقي وصالح عبد الرحمن (من كفر اللبد ). ولكن المهم أن هذا الكمين فوّت على أواطس تنفيذ خطته بالإحكام على عبد الرحيم في دير الغصون، ومكّن معظم الثوار المائتين الذين تواجدوا هناك بالافلات. علماً بأن فصائل ثورية أخرى تواجدت على حدود المنطقة عملت على مناوشة القوات الانجليزية وذلك للتخفيف عن قوات الثوار المستهدفة بالهجوم. ففي أم الفحم قام فصيل صغير من الثوار (أربعة أشخاص ) يقوده أحمد الفارس محاميد، إابن الثامنة عشرة في حينه، بنصب كمين لسرية بريطانية صغيرة كانت تحضر كل يوم إلى عين النبي في أم الفحم لتحميل الجمال بالمياه التي يستعملها معسكر الجيش في عنين. نجح رجال الكمين بقتل جنديين بريطانيين والاستيلاء على سلاحهما. وقد أثار هذا الحادث حفيظة الجنرال هايننغ الذي لم يبخل بانتقاد الجنود وقائدهم على عدم مراعاتهم قواعد الحذر المطلوبة. في حين رفعت هذه العملية من مكانة القائد الشاب أحمد الفارس الذي أصبح بين عشية وضحاها أحد رموز الثورة في المنطقة وأصبح بحكم ذلك احد كبار المطلوبيبن من قبل الانجليز الذين نجحوا بعد تلك العملية بسبعة أشهر بالظفر به وإعدامه بدم بارد في قرية كفر قرع، وذلك بعد إخبارية تلقوها من أحد مخبريهم في المنطقة.

ولعل من سخرية القدر أن يكون المخبر من إحدى قرى قضاء طولكرم الذي أراد أحمد الفارس من خلال عمليته في عين النبي تخفيف الضغط البريطاني عنها!!

وفي قرية عزون، هاجمت فصائل القائد عارف عبد الرازق قافلة بريطانية كانت في طريقها إلى منطقة القتال في بلعا - دير الغصون ونجحت بقتل ستة من الجنود البريطانيين الشيء الذي أثار حفيظة البريطانيين فقاموا بضرب الحصار على قرية عزون وهدم 12 منزلاً من منازلها.

استدعت عملية هدم المنازل وتأمين الجرارات ووحدات التفجير تركيز قوات كبيرة في عزون الشيء الذي انعكس سلباً على أداء القوات العاملة في بلعا عنبتا وقفين بحثاً عن عبد الرحيم الحاج محمد، والتي كان مقرراً أن تقوم بهجوم حاسم في الثاني من أيار بقيادة أواطس.

تأجل هذا الهجوم إلى الخامس من أيار الشيء الذي مكن معظم الفصائل الثورية من الافلات من المنطقة المقرر مهاجمتها ولم يسفر الهجوم الذي شاركت في إحدى عشرة كتيبة مجهزة بالمدرعات إلا الاعلان عن مقتل ثائر واحد والقبض على أربعة ومصادرة ثلاث بنادق ومسدس واحد. وهي نتائج إذا قيست بحجم التوقعات البريطانية من ذلك الهجوم الشامل ، تعتبر فشلاً ذريعاً بكل المقاييس .


يتبع ......

التعليقات