ثورة 1936 الفلاحية من الدعوة إلى القيادة الغائبة إلى تضييع الأهداف/غسان كنفاني

-

ثورة 1936 الفلاحية من الدعوة إلى القيادة الغائبة إلى تضييع الأهداف/غسان كنفاني
في الذكرى السبعين لميلاد الروائي والمناضل غسان كنفاني تنشر <السفير> مقتطفات من كتابه <ثورة 36 1939 في فلسطين> لا تحية للكاتب الراحل فحسب ولكن لأن رؤيته لثورة 1936 لا تزال تندرج في سجالنا السياسي الراهن، نضيف ان الدراسة تؤكد ان الموضوع الفلسطيني الذي غلب على اعمال كنفاني الروائي مبني لا على الوجدان العميق فقط ولكن ايضاً على تقميش دقيق وتحليل تاريخي ومعرفة وافية.

يتسابق الكثير من المؤرخين في اعتبار حادث معين وقع في مكان معين هو السبب في انفجار ثورة 1936: يعتقد يهودا بويير ان الحادث الذي <يعتبر عموما بداية اضطرابات 1936> حدث في 19 نيسان 1936 حين <هاجمت حشود من العرب في يافا المارين اليهود>. ويعتبر عيسى السفري وصالح مسعود ابو يصير وصبحي ياسين ان الشرارة الاولى انما كانت قيام عصابة عربية مجهولة (يقول صبحي ياسين انها كانت عصابة قسامية منها فرحان السعدي ومحمود ديراوي) بنصب كمين لسيارات كانت تعبر بين عنبتا وسجن نور شمس، بلغ عددها ,15 فسلبت الركاب اليهود والعرب على السواء أموالهم، وألقى احد الافراد الثلاثة من العصابة خطبة موجزة في الركاب العرب الذين كانوا اكثرية الركاب، كما يقول السفري، تضمنت القول بأن الثورة قد بدأت و<اننا نأخذ أموالكم لكي نستطيع ان نحارب العدو وندافع عنكم>. ويرى الدكتور عبد الوهاب الكيالي ان الشرارة الاولى انفجرت قبل ذلك، اي في شباط ,1936 حين تألفت حامية من العمال العرب طوقت احدى المدارس التي كان مقاولون من اليهود يقومون ببنائها بواسطة ايد عاملة يهودية فقط في يافا. إلا ان جميع المصادر تعتبر عن حق ان الانتفاضة القسامية التي فجرها الشيخ عز الدين القسام كانت هي البداية الحقيقية لثورة .1936 على ان تقرير اللجنة الملكية البريطانية (اللورد بيل)، وهو التقرير الذي يعتبره يهودا بويير من انضج ما كتب عن المسألة الفلسطينية حتى الآن، يقفز فوق هذه التعابير المباشرة عن الانفجار، ويرد الاسباب في انفجار الثورة الى سببين رئيسيين هما: رغبة العرب في نيل الاستقلال القومي، وكرههم لإنشاء الوطن القومي اليهودي وتخوفهم منه. وهذان السببان، كما نلاحظ بسهولة، هما في الواقع سبب واحد، وتبدو العبارات التي صيغ بها فضفاضة ولا تقود الى اي معنى واضح. ولكن اللورد بيل يضع ما يسميه ب<عوامل ثانوية> ساعدت على نشوب <الاضطرابات> وهي: 1 انتشار الروح القومية العربية خارج فلسطين. 2 ازدياد هجرة اليهود منذ سنة 3 .1933 الفرصة المتاحة لليهود بالتأثير على الرأي العام في بريطانيا. 4 عدم ثقة العرب في اخلاص حكومة بريطانيا. 5 فزع العرب من استمرار شراء الأراضي من قبل اليهود. 6 عدم وضوح المقاصد النهائية التي ترمي لها الدولة المنتدبة. أما قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، فإن فهمها لأسباب الثورة يمكن استنباطه من الشعارات الثلاثة الاساسية التي كانت تتوج بها مجموع مطالبها، وهي: 1 الوقف الفوري للهجرة اليهودية. 2 حظر نقل ملكية الأراضي العربية الى اليهود. 3 إقامة حكومة ديموقراطية يكون النصيب الاكبر فيها للعرب وفقا لغالبيتهم العددية. على ان هذه الشعارات، بالصيغ الفضفاضة التي كان يجري من خلالها تردادها، ظلت غير قادرة على التعبير عن حقيقة الموقف، والواقع انها كرست الى حد بعيد هيمنة القيادة الاقطاعية على الحركة الوطنية.

ان الاسباب الحقيقية للثورة، في الواقع، هي وصول حدة التناقض في عملية انتقال المجتمع الفلسطيني من الاقتصاد الزراعي الاقطاعي الاكليريكي، العربي الى الاقتصاد الصناعي البورجوازي اليهودي (الغربي) الى ذروتها، كما رأينا في الصفحات السابقة. ان عملية تعميق حالة الاستعمار وتجذيرها، ونقلها من حالة الانتداب البريطاني الى حالة الاستعمار الاسكاني الصهيوني، وصلت الى ذروتها، كما رأينا، في منتصف الثلاثينيات، والواقع ان قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية قد ارغمت على تبني شكل الكفاح المسلح لانه لم يعد بوسعها ان تظل متربعة على سدة هذه القيادة في وقت وصل فيه التناقض الى شكل صدامي حاسم. وقد لعبت عوامل متناقضة ومختلفة في دفع القيادة الفلسطينية آنذاك الى تبني شكل الكفاح المسلح: اولا: حركة عز الدين القسام. ثانيا: سلسلة الإخفاقات التي منيت بها هذه القيادة طيلة فترة تكلسها فوق رأس الحركة الجماهيرية، حتى فيما يتعلق بالمطالب الجزئية الصغيرة التي لا يتردد المستعمرون عادة في تلبيتها لغرض امتصاص النقمة (وقد ادرك البريطانيون متأخرين هذه الامكانية التي خفف من إلحاحها بالنسبة لهم وجود العميل الصهيوني الأكفأ) ثالثا: العنف اليهودي (الحاميات شعار اليد العاملة اليهودية فقط الخ) مضافاً الى العنف الاستعماري (الطريقة التي قمعت فيها انتفاضة 1929).


ان الحديث عن ثورة 36 1939 يستلزم وقفة خاصة عند الشيخ عز الدين القسام، فبالرغم من الكثير الذي كتب عنه إلا أنه بوسعنا ان نقول بأن هذه الشخصية الفريدة ما تزال، وربما ستظل، شخصية مجهولة في الحقيقة. ان معظم الذي كتب عنه قد مسه من الخارج فحسب. وبسبب هذه السطحية في دراسة شخصيته لم يتردد عدد من المؤرخين اليهود في اعتباره <درويشاً متعصباً>، فيما اهمله الكثيرون من المؤرخين الغربيين، وفي الواقع يبدو ان الإخفاق في إدراك العلاقة الجدلية بين الدين والنوازع الوطنية في العالم المتخلف هو المسؤول عن التقليل من اهمية الحركة القسامية. ولكن مهما كان الرأي في افكار القسام، فمما لا ريب فيه ان حركته (12/11/1935
19/11/1935) كانت نقطة انعطاف لعبت دوراً مهماً في تقرير شكل متقدم من اشكال النضال، إذ انها وضعت زعامات الحركة الوطنية الفلسطينية التقليدية، التي كانت قد انشقت على نفسها وتشتت وتشرذمت، امام امتحان لا يمكن الفرار منه. ولعل شخصية القسام تشكل في حد ذاتها نقطة التقاء رمزية لمجموعة هائلة من العوامل المتداخلة التي تشكل في مجموعها ما صار يسمى تبسيطا بالقضية الفلسطينية: ف<سوريته> (هو من مواليد جبلة، قضاء اللاذقية، 1871) تمثيل للعامل القومي العربي في المعركة. و<أزهريته> (فقد درس في الازهر) تمثيل للعامل الديني الوطني الذي كان يمثله الازهر في بداية القرن. و<نضاليته> (فقد اشترك في ثورة جبل حوران السورية ضد الفرنسيين من 1919 1920 وحكم بالاعدام) هي تمثيل لوحدة النضال العربي.

وقد جاء القسام مع الشيخ محمد الحنفي (المصري) والشيخ علي الحاج عبيد الى حيفا في ,1921 وبدأ لتوه العمل في انشاء حلقات سرية. ان ما يلفت النظر في النشاط القسامي عقله التنظيمي المتقدم، وصبره الحديدي: فقد رفض عام 1929 الاندفاع في الاعلان عن وجوده المسلح، وبالرغم من ان هذا الرفض قد ادى الى انشقاق في تنظيمه، الا انه استطاع ان يظل متماسكا وسريا. ويقول احد القساميين المعروفين إن القسام برمج ثورته في اربع مراحل: الاعداد النفسي ونشر روح الثورة، انشاء حلقات سرية، تشكيل لجان لجمع التبرعات ولجان لشراء السلاح، ولجان تدريب، ولجان أمن وتجسس، ولجان دعاية وإعلام، ولجان اتصالات سياسية. ثم الثورة المسلحة.

ان معظم العارفين بالقسام يقولون إن خروجه الى تلال يعبد مع 25 من رجاله ليل 12/11/1935 لم تكن غايته اعلان الثورة المسلحة، ولكن نشر الدعوة للثورة، إلا أن اشتباكا عرضيا ادى الى افتضاح امر وجوده هناك، وبالرغم من استبساله مع رجاله فقد قضت قوة بريطانية على مجموعته بسهولة، ويبدو ان الشيخ القسام، حين شعر بأنه لم يعد بوسعه توسيع الثورة مع رفاقه، رفع شعاره المشهور: <موتوا شهداء>. ومن حق القسام ان نفهم شعاره هذا فهماً <غيفارياً> اذا جاز التعبير، ولكن على المستوى الوطني العادي، ان سلوك القسام من خلال الشهادات القليلة التي نملكها عنه تدل على انه كان يدرك اهمية دوره كمفجر لبؤرة ثورية امامية. وما لبث هذا الشعار ان اثمر على التو: فقد شيعت الجماهير جثمان شهيدها مشياً على الأقدام الى قرية ياجور مسافة 10 كيلو مترات، على ان اهم ما في الامر كان افتضاح القيادات التقليدية امام التحدي الذي مثله الشيخ القسام. وقد شعر هؤلاء القادة بهذا التحدي بنفس المقدار الذي شعر فيه الانتداب البريطاني. ويقول احد القساميين انه قبل ان يصعد القسام الى الجبال بشهور قليلة ارسل الى الحاج امين الحسيني بواسطة الشيخ موسى العزراوي يطلب منه التنسيق لاعلان الثورة في جميع انحاء البلاد، الا ان الحسيني رفض، بحجة ان الظروف لم تنضج بعد. وعندما استشهد القسام لم يسر في جنازته إلا الفقراء، واتخذ الزعماء موقفاً فاتراً ما لبثوا ان ادركوا خطأه، فقد شكل استشهاد القسام حدثاً بارزاً لم يكن بوسعهم تجاوزه بالتجاهل، والدليل على ذلك ان ممثلي الاحزاب الفلسطينية الخمسة قاموا بزيارة المندوب السامي البريطاني بعد ستة ايام فقط من استشهاد القسام، وقدموا له مذكرة لعلها من اندر المذكرات صفاقة، فقد اعترفوا ب<انهم إذا لم يتلقوا عن مذكراتهم هذه جوابا يمكن اعتباره بصورة عامة مرضيا، فإنهم سيفقدون كل ما يملكونه من نفوذ على اتباعهم، وعندئذ تسود الآراء المتطرفة غير المسؤولة، وتتدهور الحالة سريعا>. فمن الواضح انهم كانوا يريدون توظيف ظاهرة القسام لتحقيق خطوة الى الوراء. على ان الشهيد القسام كان قد فوت عليهم، بالشكل النضالي الذي قرره، فرصة التراجع، وهذا في الواقع ما يفسر اختلاف موقف الزعماء الفلسطينيين من استشهاد الشيخ القسام فور حدوثه عن موقفهم في الاحتفال الاربعيني باستشهاده، فقد اكتشفوا خلال هذه الايام الاربعين انهم إذا لم يحاولوا ركوب الموجة الشامخة التي فجرها القسام، فإنها ستطويهم، ولذلك قفزوا من الفتور في جنازته، الى المهرجانات والخطابات في اليوم الاربعين لاستشهاده.

ويبدو ان الحاج امين الحسيني سيظل فيما بعد شاعراً بهذه الثغرة، وحتى بعد اكثر من عشرين سنة ستظل مجلة <فلسطين> الناطقة بلسان الهيئة العربية العليا، تحاول الإيحاء بأن الحركة القسامية انما كانت جزءا من نشاط الحركة التي كان يقودها المفتي، وأن هذا الأخير والقسام، كانا <اصدقاء شخصيين>.

أما البريطانيون فقد رووا قصة القسام في تقريرهم السنوي الذي جرى تقديمه الى لجنة الانتدابات في جنيف عن وقائع 1935 كما يلي: <انتشرت في الجو إشاعات عن عصابة للإرهاب تألفت بوحي من عوامل سياسية دينية، وفي يوم 7 تشرين الثاني 1935 كان جاويش ونفر من البوليس يقتفيان اثر سرقة في هضاب قضاء الناصرة فأطلق مجهولون النار فقتلوا الشاويش... وسرعان ما ادى هذا الحادث الى اكتشاف عصابة كانت في ذلك الجوار تحت قيادة عز الدين القسام، وهو لاجئ سياسي من سوريا، وهو ذو مكانة ليست بالقليلة كرجل من رجال الدين، وقد اشتبه به اشتباها قويا قبل ذلك ببضع سنوات، وقيل ان له ضلعا في أعمال إرهابية. ولقد حضر جنازة الشيخ القسام في حيفا جمع غفير جداً، وبالرغم من الجهود التي بذلها كبار المسلمين في توطيد النظام أثناء الجنازة إلا أنه وقعت مظاهرات وقذف أحجار، وبعثت وفاة القسام موجة قوية من الشعور في الدوائر السياسية وغيرها في البلاد، واتفقت آراء الصحف العربية على تسميته بالشهيد فيما كتبته عنه من المقالات...>.

وقد شعر البريطانيون بدورهم بالتحدي الذي مثله استشهاد القسام، وحاولوا بدورهم شد عقارب الساعة الى الوراء، ولذلك كان رأي المندوب السامي البريطاني الذي كتبه لوزير المستعمرات في تلك الفترة بأنه ما لم تلبَّ مطالب الزعماء العرب <فإنهم سيفقدون ما يملكونه من نفوذ وتختفي بالتالي إمكانات تهدئة الحالة الحاضرة بالوسائل المعتدلة التي اقترحها>. ولكن إعادة عقارب الزمن الى الوراء كانت مستحيلة، فحركة القسام كانت تعبيرا في الواقع عن الشكل الطبيعي القادر على معالجة ازدياد التناقض وحسمه، وسرعان ما انعكست في عدد من اللجان والتجمعات، وصار يتعين على القيادة التقليدية أن تختار بين الوقوف في وجه ذلك التصاعد في إرادة القتال لدى الجماهير، أو في امتصاص هذه الرغبة والتكلس فوقها. وبالرغم من أن البريطانيين تحركوا بسرعة، فعرضوا فكرة إقامة مجلس تشريعي وفكرة الحد من بيع الأراضي إلا أن ذلك جاء متأخرا، وأسهمت الحركة الصهيونية التي بدأت في تلك الفترة تبلور إرادتها بصورة قوية في إضعاف فاعلية العرض البريطاني، ومع ذلك فإن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية لم تكن قد حسمت موقفها بعد، وكان تذبذبها بارزاً بصورة تدعو للدهشة، وحتى 2 نيسان 1936 كان ممثلو الأحزاب الفلسطينية مستعدين لتشكيل وفد للذهاب الى لندن لطرح وجهة نظرهم أمام الحكومة البريطانية. وقد انفجر الموقف قبل أن تقرر قيادة الحركة الوطنية تفجيره. فحين اندلعت شرارة شباط 1936 في يافا كان زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية يعتقدون أنه ما زال بوسعهم أن يكسبوا من بريطانيا مطالب جزئية عن طريق المفاوضات. ولكن الأحداث التالية فاجأتهم: إن جميع المقربين من أحداث نيسان 1936 يعترفون بأن اندفاع العنف، والعصيان المدني، كان عفويا، وإذا استثنينا الأعمال التي حركها بقايا القساميين، فإن كل ما حدث كان تعبيرا عفويا عن المستوى الحرج الذي وصله التناقض. وحتى عند إعلان الإضراب العام في 19 نيسان 1936 كانت زعامة الحركة الوطنية متخلفة عنه، ولكنها سرعان ما تعلقت بالقطار قبل أن يفوتها، ونجحت للأسباب التي ذكرناها في تحليل الوضع الاجتماعي السياسي في فلسطين آنذاك بالسيطرة على الحركة الوطنية.

في الريف اتخذت الثورة طابع العصيان المدني والعصيان المسلح، وتقاطر المئات من المسلحين للالتحاق بالعصابات التي أخذت تنتشر في الجبال، وكان الامتناع عن دفع الضرائب قد أقر في مؤتمر 7 أيار 1936 الذي عقد في كلية روضة المعارف الوطنية في القدس وحضره حوالى 150 مندوبا يمثلون عرب فلسطين، وأن استعراضا بسيطاً لأسماء المؤتمرين كما أوردها عيسى السفري يدل بأنه قد تم في هذا المؤتمر بالذات تكريس قيادة الحركة الجماهيرية لحلف واه بين الزعامات الإقطاعية الدينية وبين البورجوازية التجارية المدينية وبين عدد محدود من المثقفين، وكان القرار الذي اتخذ في هذا المؤتمر موجزاً، ولكنه يعبر تعبيراً واضحاً عن المدى الذي كانت قيادة من هذا النوع قادرة على الذهاب إليه: <قرر المؤتمر بالإجماع إعلان الامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من يوم 15 أيار (1936) الحالي، إذا لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييراً أساسياً تظهر بوادره بوقف الهجرة اليهودية>.

لقد وجه البريطانيون ضربتهم، في الرد على العصيان المدني والعصيان المسلح، نحو مفصلين: الأول الكادر التنظيمي الذي كان بالإجمال أكثر ثورية من القيادة، والثاني الجماهير الفقيرة المشتركة في الثورة والتي لم تكن تتمتع في الحقيقة إلا بحماية سلاحها ذاته.


وقد نجح البريطانيون في تحقيق ذلك من خلال وسيلتين: الأولى هي ضرب فقراء الفلاحين الثائرين بعنف لا مثيل له، والثانية استخدام نفوذهم الواسع لدى الأنظمة العربية، التي لعبت دوراً كبيراً في تصفية الثورة: من الجهة الأولى لعب قانون الطوارئ البريطاني دوره بفعالية، ويورد السفري مجموعة أحكام صدرت آنذاك للتدليل على عسف هذا القانون: <ست سنوات حبس لحيازة مسدس 12 سنة لحيازة قنبلة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة لحيازة رصاصة 8 أشهر بتهمة تضليل فريق من الجند عن الطريق تسع سنوات بتهمة حيازة مفرقعات 5 سنوات لمحاولة شراء ذخيرة من الجنود أسبوعان حبس لحيازة عصا>... إلخ. ووفق تقدير بريطاني قدم الى عصبة الأمم فإن عدد القتلى العرب خلال ثورة 1936 يبلغ حوالى الألف، هذا عدا عن الجرحى والمفقودين والمعتقلين.

واستخدم البريطانيون سياسة نسف البيوت على نطاق واسع، فبالإضافة الى عملية نسف وهدم جزء من مدينة يافا (18 حزيران 1936) يقدر عدد البيوت التي نسفت فيها ب220 وعدد الذين شردوا نتيجة النسف ب6 آلاف نسمة، نقول، بالإضافة الى ذلك جرى هدم مئة تخشيبة في الجبالية و300 في أبو كبير و350 في الشيخ مراد و75 في عرب الداودي، ومن الواضح أن سكان الأحياء التي هدمت في يافا، والتخشيبات في ضواحيها هم من فقراء الفلاحين الذين هجروا الريف الى المدن، أما في القرى فقد كان عدد السفري حوالى 143 بيتا جرى نسفها لأسباب تتعلق مباشرة بالثورة. وهذه البيوت تخص فقراء الفلاحين وبعض الفلاحين المتوسطين وعدداً يسيراً جداً من العائلات الإقطاعية. ومن الجهة الثانية: بدأ الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، ونوري السعيد، نشاطهما للتوسط لدى الهيئة العربية العليا، إلا أن هذه الوساطات لم تفلح بالرغم من استعداد الزعامات لتلبيتها، ولكن الحركة الجماهيرية كانت حتى ذلك الوقت (آب 1936) غير قابلة للتدجين بعد.

إن مسألتين هامتين في هذه المرحلة من الثورة، ينبغي التوقف عندهما: الاولى: ان <العرب اتصلوا باليهود مقترحين التوصل معهم الى نوع من الاتفاق على أساس قطع العلاقات مع بريطانيا قطعا تاما، ولكن اليهود رفضوا ذلك على الفور لأنهم يعتبرون علاقاتهم ببريطانيا مسألة جوهرية>. وقد ترافق ذلك مع ارتفاع عدد اليهود الذين يخدمون في البوليس في فلسطين من 365 عام 1935 الى 682 عام ,1936 وفي أواخر ذلك العام اذنت الحكومة بتجنيد 1240 يهودياً كبوليس اضافي مسلح ببنادق حربية، وارتفع العدد بعد شهر الى 2863 مجنداً. ولعب ضباط بريطانيون دوراً بارزاً في قيادة مجموعات يهودية للهجوم على قرى عربية. والثانية: ان وجود زعامة الثورة خارج فلسطين (في دمشق) قد جعل دور القيادات المحلية المنحدرة من أصل فلاحي فقير في معظمها دوراً اكبر مما كان في الحقبة المنصرمة، وكان هؤلاء يرتبطون مع الفلاحين ارتباطاً وثيقاً، وذلك يفسر، الى حد بعيد، المدى الأبعد الذي كان بوسع الثورة ان تصله.

إن العسف البريطاني الذي تصاعد بصورة غير متوقعة، وتصاعد عمليات المداهمة والاعتقال الجماعي والإعدام طوال 1937 و1938 انهكت الثورة، ولكنها لم تضع حدا لها، وقد أدرك البريطانيون ان الثورة هي في جوهرها ومادتها وقياداتها المحلية ثورة فلاحية، وحين حاولت، نتيجة ذلك، ان تمايز في تعاملها مع المدينيين ادت الروح الثورية المهيمنة في فلسطين بأجمعها الى تعميم لباس الرأس الفلاحي (الكوفية والعقال) في المدن، كي لا يخضع الريفي النازل الى المدينة لعسف السلطة، وبعد ذلك منع الجميع من حمل هوياتهم الشخصية كي لا تكتشف السلطة الفلاح من المديني.


وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى الشهر الذي نشبت فيه الحرب العالمية الثانية (ايلول 1939) تكبد خلالها الفلسطينيون العرب خسائر لم يكن من الممكن تعويضها: كانت القيادة، بالإضافة لكل روح المساومة التي تعيشها، موجودة خارج البلاد، أما القيادات المحلية الناشئة فقد اخذت تسقط واحدة وراء الأخرى في ميادين القتال، وكان العسف البريطاني قد وصل الى ذروته، وبدأ العنف الصهيوني يصمد باطراد منذ اواسط ,1937 ولا شك ان التركيز البريطاني والإصرار الذي رافقه في الساحة الفلسطينية قد انهك الثوار الذين باتوا، مع تراوح قياداتهم، غير عارفين على وجه الدقة من كانوا يحاربون ولماذا؟ فتارة كانت القيادة تتحدث عن الصداقة التقليدية والمصالح المشتركة، مع بريطانيا، وتارة تصل الى حد قبول منح إدارة ذاتية لليهود في المناطق التي يتواجدون فيها، ولا شك ان تذبذب القيادة ورخاوتها وعدم قدرتها على تحديد هدف واضح للقتال قد أسهم في انهاك الثورة. ولكن ذلك يجب ألا يدفعنا الى إهمال العامل الموضوعي. فقد استخدم البريطانيون فرقتين عسكريتين وعدداً من اسراب الطائرات والبوليس وقوة حرس الحدود الأردني بالإضافة للقوة اليهودية المساعدة المؤلفة من 6 آلاف، ورموا ذلك كله للهيمنة على الموقف، (وكانت لجنة بيل قد اعترفت ان نفقات الأمن في فلسطين ارتفعت من 862 الف جنيه لعام 1935 الى 223.000 جنيه عام 1936). ان حملة الارهاب هذه، وخصوصا المحاولات التي بذلت لقطع الصلة بين الثوار وبين القرى، أدت الى إنهاك الثورة. وجاء استشهاد عبد الرحيم الحاج محمد في آذار من 1939 بمثابة ضربة قاصمة للثورة اذ فقدت واحداً من اكثر القادة الشعبيين الثوريين شجاعة وحكمة واستقامة، وأخذت القيادات المحلية، بعد ذلك، تنهار وتغادر ميادين القتال، ولا شك ان التقارب الفرنسي البريطاني عشية الحرب الثانية قد لعب دوره في محاصرة الثوار.

فقد استسلم عارف عبد الرزاق مع بعض اتباعه للفرنسيين بعد ان انهكه التشرد والجوع، وألقت القوات الأردنية القبض على يوسف ابو دره وسلمته للبريطانيين فأعدموه. وأدى الارهاب في القرى الى خشية من دعم الثوار ومدهم بالذخائر والطعام، ولا شك ان انعدام الحد الأدنى من التنظيم قد حال دون القدرة على تجاوز هذه العراقيل.


"السفير"

التعليقات