جلجامش على حافة العصر الذهبي للزمن الطوطمي السعيد/ محيي الدين اللاذقاني

-

جلجامش على حافة العصر الذهبي للزمن الطوطمي السعيد/ محيي الدين اللاذقاني
موت شخص واحد قلب حياة جلجامش رأسا على عقب، وقبله حدث الأمر ذاته مع أمير آخر من اسطورة هندية، فما بال الموت الفردي والجماعي لا يحرك الناس كثيرا هذه الايام، هل تبلدت الاحاسيس ام استسلم الناس الى عدمية تشبه ما وجده جلجامش عند "سيدوري" فتاة الحانة التي قابلها قبل ان يبحر باتجاه دلمون.

ان اسطورة جلجامش في سياقها التاريخي أول نص تمجيدي لثقافة الذكورة وبداية ملحوظة لردم التراث الطوطمي الامومي الذي تحكم بالسياق الحضاري قبلها، فهناك دفن حقيقي لانكيدو ودفن رمزي لتراث سيطرة المرأة على مقدرات المجتمع والحضارة، وبذا تأتي هذه الملحمة على الحافة بين زمنين متضادين.
ولانها تقع على مفترق الطرق وفي مفصل تاريخي حاسم نرى كاتبها يحتار في اتخاذ موقف من النساء، فجلجامش نفسه ومع تمجيده المتوقع لامه "ننسون" نراه يذم عشتار ويسخر منها ويتهمها بكل التهم التاريخية اللاحقة التي سيستخدمها الذكور في النيل من الاناث، فهن غادرات ماكرات لا يخلصن لأحد ويلوثن من يتصل بهن لذا يرفض جلجامش الاقتران بعشتار ويذمها مع بنات جنسها في نص طويل من سوء حظ النساء انه اقل ألواح الاسطورة تخرما وتفتتا:

ما هو نصيبي منك لو تزوجتك

ما انت الا موقد تخمده ناره في البرد

باب خلفي لا يحمي من ريح او عاصفة

قصر يسحق الابطال من حماته

حفرة يخفي غطاؤها كل غدر

قار يلوث حامله

قربة ماء تبلل حاملها

حجر كلسي هش في سور صخري

حجر كريم.. في بلاد الاعداء

صندل يزل به منتعله

اي حبيب اخلصت له ابدا

وأي راع افلح يرضيك دوما

تعالي افضح لك حكايا عشاقك

ويمضي جلجامش بعدها في سرد حكايات عشاق عشتار التي تمتعت بهم ورمتهم ومنهم تموز وطائر الشقراق الذي كسرت جناحيه والحصان الذي سلطت عليه السوط والمهماز والبستاني "ايشولانو" الذي مسخته الى خلد يقيم في الحفائر.

وتأتي اللعنات للنساء ايضا عن طريق انكيدو وهو على فراش الاحتضار:

تعالي ايتها المرأة ارسم لك قدرك

قدرا راسخا أبد الآبدين

سألعنك لعنة جللا

لتكن الطرقات سكنا لك

وظلال الجدران لك مستراحا

وشوك الارض في قدميك جلدا

وليلطم خدك الصاحون والسكارى

ولا يتوقف انكيدو عن لعن النساء الا بعد ان يذكره "شمش" اله الشمس الشرقي بان المرأة هي التي اصطفته من قطيع الوحوش وعلمته اكل الخبز وشرب النبيذ وكسته الثياب الفاخرة وادخلته في مسلك الحضارة بعد ان كان تائها مع الوحوش في البراري.

ويعتقد فراس السواح الذي اعتمدنا ترجمته لهذه النصوص من ملحمة جلجامش ان انكيدو اقتنع بهذا المنطق الحقيقي والصارم وحول لعناته الى بركات للنساء، لكن هذا التحول لا نراه عند جلجامش مع انه اوشك ان يعود خائبا من دلمون لولا تدخل زوجة حكيمها "اوتنابشتيم" التي طلبت منه ان يمنحه شيئا والا يتركه يعود خالي الوفاض، فأعطاه نبتة الخلود التي سرقتها الافعى في طريق العودة، ولذا لم يتمكن ملك "أور" من اعادة كهول مملكته الى شباب ليبدأ بهم اسطورة "رجوع الشيخ الى صباه" قبل اختراع "الفياجرا".

* حق الليلة الاولى

* ويبدو جلجامش منذ بداية الاسطورة صاحب موقف تعسفي من النساء، فقد كان قبل ان ينشغل بالصراع مع انكيدو ثم صداقته يغتصب النساء والعذراوات خصوصا، ويعتقد السواح ان "اور" ربما تكون قد عرفت كبعض حضارات شرق المتوسط ما يعرف بـ "حق الليلة الاولى"، حيث كان يحق لكل حاكم ان يختلي بالعذراء قبل ان تدخل على عريسها، ولا نعرف ماذا ستكون عليه حالة الحاكم الشرقي لو تزوجت خمسين عذراء في ليلة واحدة؟

قطعا ستكون تلك الليلة من الليالي القليلة التي يتنازل فيها الحكام طواعية عن بعض حقوقهم، اما جلجامش فلم تشذبه الكثرة والملل، لكن شذبته الصداقة والتفكير بجلائل الاعمال.

ويحاول بعض المفسرين ان يجعلوا علاقة جلجامش بانكيدو علاقة جنسية لمجرد ورود شطر في حلمين رآهما جلجامش واستخدم فيهما في حديثه تعبير "ملت عليه كما أميل على امرأة" وهذا النوع من التفسيرات القسرية يرافق في الغرب محاولات تحويل كل ابطال الاساطير والتاريخ والادب الى مثليين جنسيين.

وبعيدا عن موقف جلجامش وانكيدو المتقلب من النساء ترى اصرارا خفيا من صائغ النص الاصلي للاسطورة على الايحاء بالتأثير السلبي للمرأة على الرجل، فبدلا من شكرها لانها رقته وحضرته وهذا ما لا يحدث لاحقا الا بتدخلات الآلهة نرى في بداية لقاء انكيدو بالمرأة رغبة في وضع القوة الجسدية مقابل القوة العقلية لنعرف ماذا ربح الوحش وماذا خسر الانسان، وموقف صائغ الاسطورة واضح فالخسارة في عدة ابيات والربح في شطر واحد:

علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة

وها هو واقع في حبها

ستة ايام وسبع ليال قضاها انكيدو مع فتاة البهجة

وبعد ان روى نفسه من مفاتنها

يمم شطر رفاقه الحيوان

فولت لرؤيته الغزلان هاربة

حيوان الفلاة فرت امامه

تمهل خلفها ثقيلا كان جسمه

خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولوا بعيدا

تعثر انكيدو في جريه، صار غير الذي كان

لكنه غدا عارفا واسع الفهم

قفل راجعا الى المرأة جلس عند قدميها

والمفترض ان انكيدو حصل على اكثر مما فقده، فأن تخور ركبتاه وان يعجز عن الجري ويصير جسمه ثقيلا ظواهر تدل على انه امضى وقته في الممارسة، فمن اين صار عارفا واسع الفهم..؟ وهل كان عنده مع المفاجأة التي كانت تنتظره عند الغدير اي وقت ليسمع ويفهم.

تفسير ذلك عند شعراء كثر منهم "بليك" يعتقدون ان الصلة الجنسية، ترتقي بالروح البشرية، وبالتالي تظل المرأة ضرورة حضارية حتى وان لم تنطق وتعلم وقبل ان تكون مصب غرائز هي في نظرهم بوصلة روحية قبل ان تكون حاجة جسدية ولأمر لا يصعب اثباته تظل المرأة اقرب الى روح العقل والمنطق من الرجل، وهذه قناعات استغرقت البشرية قرونا لتصل اليها. اما عند القدماء، فظلت رمزا للغواية وظل الجنس طريقا للخسران والفقدان والنبذ والطرد من الجنان بمساعدة الافعى التي تتوحد مع المرأة في مواقف كثيرة.

ويوجد في المتحف البريطاني في لندن ختم سومري يمثل رجلا وامرأة وبينهما الشجرة المحرمة والافعى خلف المرأة توحي لها ان تغوي الرجل بثمارها، ويعود تاريخ هذا الختم الى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد وهي ذات الفترة التي اثبتت فيها الالواح وجود شخصية حقيقية لملك اسمه جلجامش حكم بحدود 2700 قبل الميلاد. اما الاسطورة التي سجلت على مراحل وتم آخر تنقيح لها بعد رحيل صاحبها بألف عام، فقد استفادت من التطور العقلي الذي حصل خلال عشرة قرون، ولم تحمل الجنس والافعى والمرأة كما فعل الختم السومري كل الشرور، بل حاول صاغتها ان يوازنوا الموقف من المرأة، وربما الى ذلك العهد يعود الاعتراف التاريخي الاخير بفضلها على الحضارة اي في الوقت الذي كانت فيه الحقب الطوطمية تحتضر مفسحة المجال لثقافة القوة الذكورية لاننا بعد ذلك الوقت وحين تسلم الاغريق ثم الرومان زمام التطور الحضاري في العالم شهدنا تراجعا ملحوظا لدور النساء وقلت المدائح التي تقال في حكمتهن وخصبهن مع انهن لم يتوقفن عن ممارسة الحكمة ولا عن الانجاب وتلبية غرائز الرجال.

وجاءت الثقافة اللاهوتية الانتقائية فأوشكت ان تخفي ايجابيات النساء تماما وهذا ما لم يجرؤ عليه المؤسطر البابلي الذي حرص على علاقة شبه متوازنة الى حد ما في العرض تعطي للذكور ثلاثة ارباع الانجازات دون ان تخفي تماما دور النساء الذي ومض كالبرق حاملا بعض اشارات الزمن الطوطمي السعيد.

لقد كان بامكان جلجامش ان يوفر على نفسه الكثير من المشقات لو استمع الى نصيحة فتاة الحانة "سيدوري" التي لم تأت بجديد لا يعرفه، لكنها صاغت الموقف بطريقة تعجز عنها عنجهية الذكر الذي يعرف الحدود المتاحة للكائن الانساني، لكنه يرفض كما في حالة جلجامش الاعتراف بها تحت حجة مقارعة المستحيل.

* الحرب وحفائر الروح

* تقول سيدوري المستقرة في حانتها على الشاطئ في مواجهة أرض الخلود:

الى اين تمضي يا جلجامش

الحياة التي تبحث عنها لن تجدها

فالآلهة عندما خلقت البشر

جعلت الموت لهم نصيبا

وحبست في ايديها الحياة

اما انت فاملأ بطنك

وافرح ليلك ونهارك

اجعل من كل يوم عيدا

وارقص لاهيا في الليل والنهار

اخطر بثياب نظيفة زاهية

واغسل رأسك وتحمم بالمياه

دلل صغيرك الذي يمسك بيدك

واسعد زوجك بين احضانك

هذا نصيب البشر في هذه الحياة

ولم يصل جلجامش الى الخلود، لكنه جعل حياة الخالدين مملة وحكم عليهم بالوحدة الابدية، فقد اخذ في طريق عودته من دلمون البحار "اورشنابي" الذي كان صلتهم الوحيدة بأرض البشر غير الخالدين، وبدل ان يحتطب ويحمل المؤن للحكيم الخالد وزوجته تحولت مهمته الحضارية، فقد اعطاه جلجامش مهمة اعلاء اسوار اور. فالدرس الحقيقي الذي حاول ذكور قرون ما قبل التاريخ تلقينه لمن جاء بعدهم هو ان البناء والعمران طريق الخلود وهي حكمة استفاد منها حكام قلائل وبشر اقل لأن ممثلي الثقافة الذكورية التي قامت على العنف والاغتصاب لم يستطيعوا ان يتخلوا عن لعبة الحرب والسيطرة، وهكذا لم تفدهم حكمة جلجامش الا في فترات قصيرة ظهر فيها حكام معماريون يحبون البناء والتشييد، اما ما تبقى من حقب فكان صوت معاول الهدم فيها هو الاقوى من ادوات البناء.

ترى هل كان عصر جلجامش يشبه عصرنا بصورة معكوسة..؟ اي انه كان عصر انتقال السلطة من الانثى الى الذكر ومن الطوطمية الى الابوية في حين ان هذا العصر الذي نعيشه يشهد بوادر عودة الى القبول بحكمة المرأة وسلطتها الاقل تخريبا للكون من سلطة الرجل.

ما نشهده حولنا لا يثبت ذلك لكن هذا لا يمنع ان يكون هذا القرن منذورا للتحولات الكبرى، فزمن اسطورة جلجامش كان الحد الفاصل بين الطوطمية والابوية وبين من يأكلون الخبز، ومن يلتهمون حشائش الارض، وتلك نقلة بالمقياس الحضاري ليست اقل من النقلة المعاصرة من الثورة الصناعية للتكنولوجيا الدقيقة، ومع كل تحول اساسي تتبدل اساليب المجتمعات ومنطلقاتها واساسيات تفكيرها وتدبيرها ويقوى جنس على حساب آخر او تتوازن العلاقة المختلة بين الجنسين.

وبقيت ملاحظة على الزمن الطوطمي لها علاقة بالجغرافيا قبل التاريخ فالملاحظ ان ارض الخلود دلمون في جنوب الخليج العربي، ويليها شمالا المملكة التي سبقت "اور" وهي "اريدو" ثم "لجش" و"آشور" وصولا الى "نينوى" في اقصى الشمال فهل نستطيع الافتراض ان العصر الذهبي للزمن الطوطمي بدأ في جنوب الخليج العربي، ثم صارت المرأة تفقد سلطتها وصلاحياتها كلما اتجهت الحضارة شمالا في وادي الرافدين الى ان خسرتها تماما عند شعوب آسيا الوسطى وقبائلها..؟

اذا صحت هذه الفرضية، فإن المفارقة التاريخية المضحكة ـ المبكية ان ذات البلاد التي شهدت العصر الذهبي السعيد للطوطمية ما تزال المرأة فيها الاقل تمتعا بالحقوق والحريات.

ان ملحمة جلجامش مثل حفائر الحضارات القديمة مكونة من عدة طبقات ومستويات، ورموزها ما تزال مفتوحة للعديد من التفسيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتلك طبيعة كل نص عظيم تجد فيه جديدا كلما عدت اليه بحثا عما في حفائر الروح من الغاز واسرار نائمة بانتظار من يكتشفها، فذهب الحضارات وتماثيلها مدفونة في باطن الارض، والحكمة الروحية للانسان مغروسة في حقول الاساطير على الحجر والفخار بين ثلوم الرموز والاشارات وعلى ضفاف الاختام والسطور.

التعليقات