جولة في القرى الفلسطينية المهجرة (الحلقة 7 ) أكراد الخيط / د.مصطفى كبها

-

جولة في القرى الفلسطينية المهجرة (الحلقة 7 ) أكراد الخيط / د.مصطفى كبها
في يوم الرابع عشر من آذار 2006، وصلنا إلى محيط قريتي أكراد البقارة وأكراد الغنّامة من مفرق طوبا حيث انعطفنا من هناك يساراًً، بعد مئات قليلة من الأمتار، ودخلنا في طريق ترابية أودت بنا إلى خربة يردة القريبة من الموقع الأول لمستوطنة مشمار هياردين والتي احتلها الجيش السوري في اندفاعته الأولى في أيار -حزيران 1948 حيث دارت في المنطقة معارك طاحنة امتدت من تحصينات إيدن في الشرق وحتى خربة يردة في الغرب مروراً بجسر بنات يعقوب.

لم يبق في الخربة سوى بيت تشير آثاره الباقية إلى أنه كان ذا شأن في الماضي(أنظر الصورة المرفقة ) وقد ألصقت دائرة الآثارعلى جدرانه لافتة تقول إنه كان يتبع أحد أغنياء صفد، وأن منظمة البيكا قامت بشراء البيت من ورثته في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي. في حين قامت هذه السلطة بتسخير الموقع كموقع تخليد لذكرى الساقطين في معارك "مشمار هياردين" وما جاورها، وقد قدرت عددهم ببضع مئات.

أما دليلنا في الجولة، الحاج محمود موسى حسين الهيب (أبو حميدي )، فيقول إن هذا البيت كان ملكا للسيد أبو هاشم الخضرا من صفد الذي كانت له أملاك كثيرة في المنطقة وهو لا يذكر أن البيت بيع قبل عام 1948.

الربوة التي تقوم عليها خربة يردة ربوة مشرفة يمكن للناظر إلى الغرب أن يرى جبال صفد الساحرة، وقد احتجبت وراءها شمس الأصيل الآخذة بالمغيب، والتي لم يصلنا منها سوى حزم صفراء مائلة للإحمرار من أشعتها، ولقد انعكست على أطلال أكراد الغنامة المترائية على مرمى النظر، فولد ذلك لدى الناظرين حالة من الحنين لأيام غابرة لم يبق منها سوى ظلال باهتة من المناظر المخزونة في ذاكرة كبار السن الآخذين بالتناقص يوماً بعد آخر، دونما يفلح المهتمون القلائل بتدوبن الرواية الشفوية بتسجيل كل هذه الذاكرات التي رحل كثير من أصحابها آخذين معهم مايملكون من كنوز لم يحسن الباحثون اماطة اللثام عنها في الوقت المناسب.

كل هذه الأفكار راودتني وسيارة الجيب التابعة لأبي جاسم الهيب تتهادي في المنحدر المؤدي إلى أكراد الخيط. في الطريق سألنا أبا حميدي عن سر تسمية القريتين فقال مرجحاً كون سكان القريتين من أصول كردية أو تركمانية أو من منطقة الجزيرة وقد ربى بعضهم الأبقار فتمت تسميتهم بأكراد البقارة، أما القسم الآخر فقد ربوا الأغنام فأطلق عليهم إسم "أكراد الغنامة". علماً أن المصادر التاريخية تختلف في أصل السكان وأصول التسمية.

بداية مررنا على أكراد الغنامة. حيث كانت على يسارنا في طريقنا الملتوية المتجهة إلى جهة الشمال الغربي. لم يبق الكثير من آثار القرية سوى بعض الحجارة المتناثرة حول "حاووز" للمياه أرجح أنه أقيم بعد التهجير النهائي عام 1951. بلغت مساحة أراضي القرية قرابة 4000 دونم من الأراضي الخصبة كانت اغلبيتها من أرض المشاع وبعض القسائم من أرض الملك التي كانت تتبع بعض العائلات الملاكة من صفد مثل بيت الحداد وبيت الخوري.

هذا إضافة لقطعة صغيرة كانت تابعة للوقف أقيمت عليها مقبرة القرية ( التي غدت اليوم أثراً بعد عين). زرعت أراضي القرية بالبيارات والفواكه والغلال والخضار. وبلغ عدد سكان القرية، عشية التهجير، قرابة 400 نسمة سكن معظمهم الخيام وبيوت الشعر.

كانت عين الوقّاص، الواقعة على مسافة 2 كم شرقي القرية، هي مصدر المياه الأساسي للسكان الذين استعملوزا مياهها للشرب وقضاء الحاجات المنزلية في حين رووا قطعانهم من مياه نهر الأردن ( الشريعة).

في طريقنا إلى قرية أكراد البقارة، الواقعة أسفل الوادي شرقي عين الوقاص، توقفنا قليلاً عند مقام الشيخ أبو الريش حيث أقامت هيئة السياحة مدرجاً يصل للمقام الذي تظلله شجرة ضخمة من البطم (خلتها من بعيد شجرة بلوط وجادلت مرافقي لأني لم أر قبل ذلك شجرة بطم بهذه الضخامة ولم أقتنع إلا بعد أن قضمت قطعة من براعمها الغضة التي اقنعني مذاقها الحامض، نوعاً ما، بأنها شجرة بطم وليست بلوطاً ).

تحدث أبو حميدي عن الولي أبو الريش وعن كراماته خاصة في السنة التي حشر فيها سكان القريتين في المنطقة المنزوعة السلاح ومنعوا من الاتصال بالعالم الخارجي، فكان أهل طوبا (وهو منهم) يتسللون إلى القريتين ليجلبوا لهم حاجات الغذاء والمعيشة الأساسية. علماً بأن المحاصيل الزراعية التي جناها أهل القريتين في تلك السنة، كما قال، كانت أضعاف ما كانوا يجنونه في السنوات العادية.

أما قرية أكراد البقارة فقد كان عدد سكانها عشية التهجير قرابة ال - 500 نسمة سكن معظمهم في الخيام وبيوت الشعر.

اعتاش سكان هذه القرية على الزراعة وزرعوا معظم أراضي القرية التي بلغت مساحتها قرابة 3000 دونم بالغلال. كانت معظم الأراضي أرض مشاع باستثناء قرابة 500 دونم ملكها الحاج حسن سويد من صفد وثمانين دونماً من أرض الوقف التي خصص معظمها لمقبرة القرية التي لم يكن حظها بأحسن حالاً من حظ مثيلتها في أكراد الغنامة.

أما بالنسبة لمصادر المياه، فقد ارتوى سكان القرية من عين الصفا التي كانت تبعد عن القرية قرابة الكيلومتر الواحد ورووا المواشي من نهر الأردن.

بعد أن مكثوا قرابة السنة والنصف في قراهم التي أعلن عنها، بعد توقيع اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل،منطقة منزوعة السلاح تم تهجير السكان من هناك بعضهم إلى قرية شعب في الجليل الغربي وبعضهم الآخر إلى سوريا. وكان ذلك في صيف عام 1951.

وهكذا أنهينا جولتنا في أرض الخيط ولا يسعنا إلا أن نشكر السيد أبو حميدي وإبنه محمد اللذين غمرانا ببشاشة الاستقبال وحسن الضيافة والكرم العربي الأصيل.

وللجولات بقية.....

التعليقات