جولة في القرى الفلسطينية المهجرة، عين غزال (الحلقة 8) د.مصطفى كبها

-

جولة في القرى الفلسطينية المهجرة، عين غزال (الحلقة 8) د.مصطفى كبها
في الرابع عشر من نيسان 2006، يممنا شطر الزاوية الجنوبية - الغربية لجبال الكرمل قاصدين قرية عين غزال على وجه التحديد. رافقني في الجولة هذه المرة صديقي الدكتور حمدان أبو بدر (من باقة الغربية حالياً ومن المنسة أصلاً ).

كان الجو حاراً، حيث لم تفلح النسمات الخفيفة الآتية من البحر في تخفيف حدة الحر الذي كان وقعها شديداً على الأعشاب الخضراء الغضة، التي انتعش اخضرارها بسبب الأمطار الغزيرة التي سقطت في الأسبوع الفائت بقوة هائلة وخلفت خسائر بالأرواح والممتلكات بشكل لم يعهده سكان المنطقة منذ عهد طويل.

في طريقنا إلى هناك، مررنا بمواقع بعض القرى المهجرة التي اختفت معظم آثارها، فساهم ذلك في محوها، شبه التام، من الذاكرة الشعبية لسكان المنطقة.

تحركنا من مفرق عيون الأساور ( المدخل الغربي لوادي عارة ) واتجهنا غرباً فمررنا بعيون الأساور عن يميننا (التي شهدت الأسبوع الفائت احتفالاً بتدشين اسم عبري جديد لها " معيان أروبوت") وببقايا قرية كركور العربية عن يسارنا ( على أطلالها أقيم معهد للدراسات التكنولوجية ومدرسة ابتدائية )، ومن مفرق كركور انثنينا يمنة مارين بغابة كركور، التي لم يبق منها إلا الأسم وبناء واحد يستعمل نادياً لشباب كركور الجديدة.

ثم مررنا بالصفصافة عن يميننا، وقد بقيت منها بقايا منزل علي بك بشناق. وبعد أن تجاوزنا محطة القطار في "بنيامينا" بقليل كانت البرج والزرغانية عن يسارنا. ومن ثم استوينا على طريق تل ابيب - حيفا القديم، منعطفين يمنة وميممين شطر الشمال حيث مررنا بقرية جسر الزرقاء عن يسارنا ( هي والفريديس كانتا القريتين العربيتين الوحيدتين اللتين بقيتا من عشرات القرى التي كانت على الساحل بين حيفا ويافا) وبعدها كانت بقايا الكبارة أيضاً عن يسارنا. وبعد تجاوزنا لمفرق الفريديس بقليل كانت أطلال قرية الطنطورة على يسارنا من جهة البحر.

بعد الطنطورة بقليل انعطفنا يساراً حيث الطريق المؤدية لإجزم وعين غزال. الانعطاف إلى عين غزال يمنة مباشرة بعد المفترق في حين يستمر من يرغب بالوصول إلى إجزم في المسير نحو الشرق في طريق ضيق نسبياً ولكنه ساحر ورائع الجمال.

في مدخل عين غزال تجد لافتة كتب عليها ( بالعبرية والانجليزية ) " عوفر " حيث تطالعك في المدخل مباشرة استراحة وضعت فيها بعض المقاعد الخشبية في ظلال زيتون عين غزال، ومن الشرق جدار من الصبر تختفي وراءه بعض " المطامير" التي استعملها أهل عين غزال لتخزين الحبوب.

بعد تجاوزنا الاستراحة تأخذ الأرض بالارتفاع والطريق المعبدة بالالتواء، عن يسارنا مباشرة تقبع بين الأشجار الحرجية التي زرعتها "الكيرن كييمت" دار أسعد عبد الحق التي بقيت أجزاء كبيرة منها، ثم تتوالى بعدها حارات عبد الحق والصعبية والمطامير والعثامنة التي تتوسطها عين العثامنة الجارية، وعن يميننا بيت أبو الجمال وعين البلد وحارات أبو زليخة وأبو غليون.

من عين البلد ( الجارية كل أيام السنة ) ينحدر الطريق الأصلي الذي يفصل بين حارتي أبو زليخة وأبو غليون ويصل حتى مدخل القرية، ومنه كان يمر الباص الذي وصل مرتين كل يوم من حيفا، مرة في الصباح ومرة في المساء، وورد ذكره أكثر من مرة في مذكرات الكاتب والأديب الراحل إحسان عبّاس، إبن عين غزال، والذي أطلق عليه اسم "غربة الراعي ". والحقيقة أن الصور التي أوردها إحسان عبّاس في كتابه هذا عن قريته ترافقني، منذ أن قرأته للمرة الأولى عام 2000، في كل زيارة لي لعين غزال.

من دواّر الباص ( الذي لم يبق منه شيء تقريباً ) انعطفنا يميناً حتى وصلنا مقام الشيخ شحادة عبد الحق والمقبرة الرئيسية التي تقبع في الجهة الجنوبية للقرية دون سياج يحميها من قطعان البقر المتجولة أو سيارات المتنزهين الذين حاولوا أن يجعلوا جزءاً منها موقفاً لسياراتهم، ليصلوا إلى مكان خلدت فيه ذكرى "اسحق يعقوبجان" الذي سقط في صدام مع أهل عين غزال عشية التهجير.

ولكن بعض أبناء عين غزال المقيمين في الفرديس وضعوا صفاً من الحجارة الكبيرة على الحافة الشمالية للمقبرة كي يمنعوا، ولو إلى حين، إيقاف سيارات المتنزهين في حدود المقبرة التي بقي منها عشرات القبور وبعض القبور المبنية وهي لشهداء من ثورة 1936 -1939 نذكر منهم محمد قاسم محمد وإبراهيم الصعبي.

والشيخ شحادة الذي بقي مقامه قائماً (انظر الصورة المرفقة) هو شيخ صوفي ينتمي إلى عائلة عبد الحق، مات حوالي سنة 1900 وأنجب 11 إبناً. يقوم بالإعتناء بالمقام اليوم وعلى مدار ثلاثين سنة خلت حفيده علي حمودة عبد الحق، والذي يسكن حالياً قرية الفريديس المجاورة. وهو يجابه منذ فترة مجموعة دينية يهودية أصولية تحاول تحويل مقام جده إلى مقام يهودي وقد رأيته السنة الفائتة، بأم عيني، يمحو الإسم العبري الذي وضعه أعضاء تلك المجموعة على القبر بعد أن نزعوا شاهد القبر وحطموا قفل باب المكان.

التقينا ذلك الحفيد، المكنى بأبي عبد الله، صدفة في ساحة المكان وهو يعمل على تنظيفه وتسييجه وزراعة نباتات الزينة من حوله.

ارتشفنا فنجان قهوة بطعم لا ينسى صنعناه على نار أوقدها أبو عبد الله، في حين توليت أنا تصنيع القهوة وتضييف الرفيقين.

رافقنا بعد ذلك أبو عبد الله كدليل فدلنا على مواقع العيون وأسماء أصحاب البيوت بقدر ما أسعفته ذاكرته وأرانا أماكن لم أرها من قبل رغم زياراتي المتكررة للمكان. فزرنا عزبة عثمان الصعبي الواقعة على بعد أربعة كيلومترات شرقي عين غزال. وعثمان هذا كان شخصاً ثرياً ومناضلاً ساعد رجال ثورة 1936 -1939 كثيراً، وكان على علاقة وثيقة بالقائد يوسف أبو درة. وقد أعلمني الدليل أن الإنجليز قتلوه بدم بارد بسبب علاقاته بالثوار.

بقي من بيوت الصعبي الشيء الكثير وبقيت آبار البيت ومطاميره وبستان تين اختلف رفيقاي على نوع أشجاره إذا كانت "خرطماني " أم "خضاري " ولم يكن بوسعنا البت بهذا الخلاف لأن الثمار ما زالت في بداية تفتحها، رغم أني أميل إلى ترجيح رأي الدكتور حمدان القائل بأنه من النوع الأول.

بلغت مساحة أراضي عين غزال قرابة 23000 دونم معظمها مشاع وبعضها ملك وأراضي وقفية. زرع الفلاحون الأرض بالغلال والفواكه والتبغ والخضراوات. أما عدد سكانها فقد بلغ عشية النكبة 3200 نسمة. كان في القرية مدرسة بها تسع صفوف وكان فيها جامع إمامه من قرية نعانة قضاء الرملة. أما المختار عشية النكبة فكان عبد القادر أبو زليخة الذي كان ملاكاً ومشاركاً في شركة للباصات عملت على نقل المسافرين إلى حيفا والقرى المجاورة (إجزم، صبارين، أم الزينات والطنطورة ).
أيام ثورة 1936 -1939 كان فصيل القرية نشيطاً جداً وقد عرف من الثوار كل من إبراهيم الصعبي، محمود علي الصعبي، محمد خالد العبد الله، سليمان الصعبي، عبد السلام عثمان عثامنة، محمد القاسم أبو قاسم وآخرون. أما عثمان الصعبي الذي تقدم ذكره، فقد عمل في الجهاز القضائي واللوجستي للثورة.

عام 1946 أقيم فرع لمنظمة النجادة في القرية ضم في عضويته مائة شاب بقيادة حسين العصفور ومصباح الحاج عبد القادر، وقد تبع هذا الفرع مركز النجادة في حيفا برئاسة يونس نفاع.

ساهم رجال النجادة ومفرزة من المتطوعين العراقيين والسوريين بالدفاع المستميت عن القرية التي شكلت مع إجزم وجبع مثلثاً أطلق عليه أثناء الحرب اسم " مثلث الرعب"، وقد كانت هذه القرى (بالاضافة لقرية عين حوض ) آخر القرى في قضاء حيفا والتي سقطت في أيدي القوات الإسرائيلية في 23-24 من تموز عام 1948 وذلك بعد أن تم قصفها من الجو بموجات متتالية، أحدثت أضراراً جسيمة وهلعاً كبيراً بين الأهالي.

بعد التهجير توجه معظم سكان هذه القرى إلى العراق وسكنوا في بغداد والبصرة والزبير. كما ويقيم قسم منهم في مخيمات الضفة الغربية والأردن.

التعليقات