"دنيا" لجوسلين صعب هستيريا وطنية بين ذكورة جريمة وأنوثة مشطوبة

-

سألت المذيعة الشاب المتحمس: ماذا تعني مصر بالنسبة لك؟
فقال الشاب بعد أن ارتفع الحماس درجة: "مصر هي أمي".
ابتسمت المذيعة وتوهجت شرايين وجهها تحت طبقة المكياج الكثيفة.. وتوجهت الى الشاب الآخر.. الذي كان شارداً: ".. وأنت.. ماذا تقول عن مصر؟".
فرد الشاب بشكل عفوي: ".. في الحقيقة ماباحبش اتكلم عن أم واحد صاحبي...".

هذه نكتة تلائم ما حدث مع فيلم "دنيا" حينما عرض في القاهرة. وكان قبل أن يعرض تعرض لحملة في الرقابة. تلاها حالة انتظار وترقب. حتى ان الأخبار نشرت قبل عرض القاهرة أن الفيلم سيعرض في مهرجان دبي تحت اسم مختلف هو "لا تقبلني".
والحقيقة أن للفيلم عنواناً فرعياً مأخوذاً من أغنية عبد الوهاب الشهيرة "بلاش تبوسني في عيني".

الفيلم عادي. لكن رد فعل أشاوس الدفاع عن وطنية "مصر هي أمي" كان مثيراً. أخرجوا أسلحة قديمة ومستهلكة. وظلوا يصرخون في قاعة العرض: "سمعة مصر... سمعة مصر". وانقلبت الندوة الى حفلة ردح.. على طريقة المحترفين في شتائم مدرجات كرة القدم. وحلقة ذكر.. يردد فيها الجميع أغاني الوطنية الساذجة التي تعلمناها في مدارس الحكومة.. وطنية لا تختلف كثيراً عن الرومانسية المبتذلة في أغاني هاني شاكر. هذه الوطنية التي تعتبر أن الوطن هو الأم.

وطنية موروثة من الأنظمة الفاشية. تربى المواطن على أنه مجرد رقم في عائلة كبيرة. وطنية تقوم على التعصب الأعمى. وعلى فكرة القطيع الذي لا يفكر... يحتمي وسط القطيع.. وينتمى اليهم. هكذا كان يمكن للسادات أن يعتبر نفسه مصر. وأي نقد له هو "إساءة الى مصر". وبنفس المنطق فإن المنتمين الى وطنية القطيع تنتابهم هستيريا جماعية عندما يعري أي أحد الفضائح التي يتواطأ الجميع للتستر على وجودها. بهذه الثقافة. ووطنية تربت على يد العسكر. وهدير القطيع. استقبل جمهور مهرجان القاهرة فيلم المخرجة اللبنانية جوسلين صعب.

هي لبنانية أي غريبة (وثقافة القطيع ينتابها خوف هستيري وتوحد في مواجهة الغريب).
وقدمت فيلماً جريئاً على مستوى أخلاق السينما الحالية في مصر: يقولون عنها (السينما النظيفة) أو سينما العائلات ويقصد بها سينما خالية من الحواس.. سينما بلهاء تلعب على مشاعر ساذجة ومليئة بتلميحات جنسية على طريقة جلسات الرجال في المجتمعات البدوية.. لكنها تنفي الجسد والمشاعر خارجها.. وكأنها ترى في المشاهد الجريئة على الشاشة.. نوعاً من العري المبتذل.

الجمهور المحافظ الذي يستفزه مشاهد جريئة كانت السينما المصرية تقدمها بشكل عادي (قدم الفيلم أحدها و كانت بطلته هدى سلطان). لكنها الآن في ظل سيطرة الشيزوفرينيا الأخلاقية التي تلعن المشاهد الجريئة في الأفلام العادية... وتبحث طوال الليل عن قنوات البورنو في الأقمار الأوروبية. هذه الشيزوفرينيا تفجر طاقة عدائية تجاه الفن.. والنساء.
ينظر أصحابها الى الأفلام أو الروايات على طريقة محاكم التفتيش. يرون المشاهد بعين ذكورة جريحة. وهنا يلتقى جرح الذكورة مع جرح الوطنيةالتي تتصور أن مصر يمكن أن تكون أفضل بلد حتى وهي في أسوأ أحوالها.. وتتخيل أنه بدلاً من مواجهة الحقائق... الأفضل أن نخفيها.. ونداري عليها.. هذه الوطنية التي تصور مصر على أنها أم الدنيا في الأغاني لكن في الواقع تحدث الصدمة فهي بلد تعيش في ظل ديكتاتورية طويلة العمر.. ينهشها الفساد والبلطجة.. والتطرف الديني.

لم يهتز واحد من أصحاب الوطنية الجريحة من مشاهد عصابات السيوف والسنج التي احتلت شوارع مصر في الانتخابات. ولا من ملايين المتسولين الذين باعوا أصواتهم في الانتخابات مقابل 20 جنيهاً. ولا من جحافل الأمن المركزي وهي تمنع المواطنين من الخروج من بيوتهم.. والوصول الى لجان الانتخابات. ولا من عصابات العواجيز المحتكرة للسلطة وهم يدمرون البلد قبل أن يذهبوا الى القبر أو السجن. لم يهتز واحد من أشاوس سمعة مصر من كل هذا واهتزوا وانتفخت عروقهم من فيلم.

الأنوثة المشطوبة

الفيلم عن رحلة "دنيا" لاكتشاف الأجزاء الغامضة من حياتها. اكتشاف نفسها. هي طالبة الآداب.. التي تريد دراسة الحب في الشعر العربي... موضوع محرم. وخطر من البداية. وهي جريئة بشكل نظري. حواسها باردة.. وعقلها هو القلق. كيف توقظ الحواس الباردة...؟ كيف تستعيد أنوثتها المشطوبة؟ جربت مرة عبر أمها. الراقصة القديمة الهاربة من عادات الصعيد وتقاليده. ومرة عبر "عنايات" سائقة التاكسي. أو "اروى" أستاذة الجامعة. وأخيراً عبر جمالات نموذج الأنوثة الطاغية المعبرة عن نفسها باللون الساخن (لون الروج و الملابس واللون المسيطر على الحجرة).

كل امرأة في عالم "دنيا" لها لون مميز (اختارت المخرجة للبطلة الأحمر الخفيف).
ينتهي الفيلم ودنيا تعود الى لحظة طفولتها. تولد من جديد مع أزمة الطقلة "ياسمين" ابنة عنايات بعد جرح الختان الذي أدخلها في قافلة المحرومات من المتعة.. ومن سخونة الحياة.
الاكتشاف تم مع بشير أستاذ الجامعة والمثقف المدافع عن الحرية.. فقد نظره في عملية عقاب على موقفه المدافع عن حرية الأدب.. وذلك في واقعة حقيقية وهي مصادرة وحرق النسخة الكاملة من ألف ليلة وليلة (حدث هذا في منتصف الثمانينيات).. كان الدفاع عن حق الناس في قراءة نسخة كاملة غير محذوفة (و لا مهذبة) من أهم نص عربي للحكايات.
وحق النص في قراءة حرة لا تحبسه في تفسير جنسي مريض. ومبتذل.

المثقف الذي فقد حاسة البصر بحث عن حواسه الأخرى. كان يريد اكتشاف العالم من حوله عبر هذه الحواس. وعندما التقيا في نهاية الفيلم: استيقظت الحواس الباردة وطلب من دنيا الخروج من ثياب الآخرين والحياة على طريقتها. هنا بدأت "دنيا" رحلة جديدة. كانت تحاول أن تنصت الى أصوات بعيدة في داخلها. تحاول بالرقص باعتباره فن الحواس كلها... في الرقص الصوفي تمرين للروح في التعبير الحر عن وجودها كمركز للكون. وفي الشرقي يخف الجسد حتى يكاد يطير. وفي الرقص الحديث يحرك العقل كتلة الجسد الثقيل ليبدو رمزاً حيوياً في دراما الحياة.

الرقص هو ملك الفنون الحسية. ملعب الحركة والايقاع. والجسد والروح. والطاقة المختفية تحت ركام ثقافة تحذف المتعة من قاموسها. وتضع مكانها الخوف والرعب.. والرغبة في ممارسة كل شيء في الظلام.. تحت خيمة العيب.. والممنوع. الرقص ضد هذه الثقافة. وهذا ربما ما جعل المتفرجين يستمتعون برقص حنان ترك في الفيلم قبل أن يعلنوا الغضب المبين على الفيلم. إعلان الغضب يداري المتعة. يتبرأ منها... أو ربما لا يعرف الاستمتاع... ويتصور بعقلية مريضة أن أي إعلان عن المتعة هو إعلان عن بضاعة سهلة. وهو مرض لا يعرفه إلا الزبائن المحترفين. إلا الباحثين عن بيوت شراء المتعة.

النهاية

الفيلم اختلف تماماً بسبب نهايته.
بسبب لافتة النهاية التي تقول بأن "97% من نساء مصر مختنات". بدا أن الفيلم كله مصنوع من أجل هذه اللافتة. أو أنه فيلم دعائي في حملة ضد الختان. الرقم استفز الأشاوس ودافعوا عن سمعة المصريين ضد "الغريبة" القادمة بتمويل من الغرب لكشف عورات المصريين.

هذا هو الاحساس الذي أخرج أنياب الفحولة المهزومة في الغاضبين ليلة عرض الفيلم في مهرجان القاهرة (الذي لا نعرف حتى الآن لماذا كرم الفيلم.. وماذا تعني جائزة الجرأة التي منحها لمحمد منير وحنان ترك.. وهو احتفال أضفى طابع الريبة على العرض.. وأثار كل النوازع الى نظرية المؤامرة.

هل الاحتفال بسبب أن الفيلم حاز بشكل أو بآخر دعماً من قرينة الرئيس أو مجلسها الخاص بالمرأة..؟
الاحتفال كان الشرارة الأولى في الحالة العدوانية. ووضع الفيلم في حالة مشاهدة سلبية خصوصاً أن هناك تربصاً بالفيلم من أيام رفض السيناريو في الرقابة. الرفض أثار خيال الباحثين عن مشاهد جريئة. والكلام عن قضية الختان فتح الشهية القنص لمصاصي الدماء وأعداء الفن. وفي الحقيقة لم يشاهد أحد من هؤلاء الفيلم. لكن شاهدوا الصورة التي تكونت عنه من الخيال. وهو خيال مريض غالباً.

سينما القسوة

جوسلين صعب قالت إنها تفكر في حذف لافتة الختان من الفيلم (رغم أنها أكدت أن الرقم الذي صدم الكثيرين يعتمد على احصائية اليونيسيف).

قالت هذا بعد مناقشة تلت عرض نسخة DVD من الفيلم في مقر "الفجر".

لم يكن المزاج العام للحاضرين من المحررين والصحفيين ضد الفيلم. على العكس كانت هناك ملاحظات على فيلم اجتهدت مخرجته في رسم رحلتها للتعرف على مصر وخباياها تحت السطح الخادع.

الفيلم هو محاولة لمعرفة مصر (وهو ما وصفه البعض بأنها رؤية مستشرق).
لكنها في الحقيقة رؤية معتمدة على تفاصيل لم تكن كلها بيد المخرجة. حوار تغير أكثر من مرة (أشرف عليه الفريد فرج وكوثر مصطفى).. ثم أضاف اليه كل ممثل حسب ثقافته... ورؤيته للشخصية.

وعرفنا من جوسلين أن النسخة الحقيقية للفيلم وصلت الى أربع ساعات وكان من المستحيل عرضها وأعادت المونتاج أكثر من مرة لتصل الى النسخة الأخيرة وهذا عيب سيناريو.. لأن جزءاً من حساسية السيناريست والمخرج هو رسم تفاصيل الفيلم في الزمن المحدد.. وهو سبب الشعور بخلل السيناريو وغموض العلاقة بين الشخصيات.. وربما أيضاً في التاريخ الشخصي لكل شخصية. خصوصاً أن الفيلم معتمد على فكرة التواريخ الشخصية.. ومعتمد على شبكة علاقات مركبة.

الفيلم مبني على فكرة وليس عن حكاية. فكرة تحللها المخرجة عبر شخصيات كل منها يمثل رمزاً تختار له موديل ملابس وألوان وطريقة في الكلام. كل تفصيلة في الفيلم (الأغنيات والمشاهد والأحداث) مشغولة لتصل الى نهاية الرحلة المعروفة مسبقاً في ذهن المخرجة. صنعت جوسلين كل هذا باحتراف مخرجة مغرمة بالحس التسجيلي. وبمشاعر مغامرة تصنع فيلمها الروائي الأول. وتكتشف فيه نفسها. وبلد جديد عليها. وممثلة اسمها حنان ترك.

الطبيخ البارد

الفيلم هو اكتشاف لطاقة مهدورة عند حنان ترك. طاقة تستهلكها السينما السهلة. الأفلام المصنوعة على طريقة الوجبات السريعة.
الشخصية القلقة. المتوحشة. النائمة داخل حنان ترك. خرجت في دنيا.
الأسئلة تخصها أيضاً.
ومشاعر التائهة. المسافرة بين نماذج في الأنوثة. الحائرة بين برودة المشاعر وسخونة الوعي.
بين "الطبيخ البارد" وحتى لو وضع على النار. وبين انفجار السؤال الوجودي الشهير: من أنا؟!
حنان لعبت في هذه المساحة بطريقة لا تكفيها الكلمات. بل عبر لغة العيون.. والتوتر في ترك الجسد على حريته أو استخدام إشارات رمزية للتعبير تسرق لحظة الذروة قبل أن تتم.

سينما القسوة

لحظة الذروة في الفيلم هو مشهد الختان. اعترضت الرقابة على ايقاعه القاسي. صدمة. ختان على الشاشة بكل دموية الشفرة التي تقطع جزءاً من جسد بنت على اعتاب بهجة الحياة. جرح عنيف. يمنع المتعة الكاملة الى الأبد. ويحول المراة الى تمثال بارد.. يغطي نهراً ساخناً.

كان المشهد مقصوداً. لاستفزاز المتفرج ضد العملية المتخلفة. كما كان مشهد اغتصاب سعاد حسني في "الكرنك" مستفزاً ضد بطش السلطة التي تطلق كلابها لنهش الأعراض والأرواح المتمردة.

وكما كان مشهد ولادة الطفلة في فيلم مجدي احمد علي "أسرار البنات" مثيراً لأسئلة حول منطق النعامة الذي يتعامل به المجتمع مع رغبات المراهقين وحبسها في أنفاق التخلف.

هذه سينما القسوة. في مجتمعات مغرمة بإخفاء جروحها.

مصر منورة

كما حدث مع فيلم يوسف شاهين الشهير "مصر منورة بأهلها" عندما خرجت فرقة "الإساءة الى مصر" في وصلات ردح ضد الفيلم. يتحوّل "دنيا" الى رمز في معركة اجتماعية ساخنة. يخرج من السينما. ليصبح طرفاً في الحرب الدائرة منذ سنوات في المجتمع بين أخلاق قديمة تصيح صيحتها الأخيرة مثل ديناصورات تنقرض. وأخلاق تتمرد على كل الزيف الذي تربينا عليه... أخلاق جديدة تفتح الجروح النائمة، وتنظر فيها. بدلاً من انتظار منحة أو نظرة عطف من السلطة التي تريدنا قطيعاً لا يفكر بل يصرخ بكلمات غير مفهومة.
قطيع لا يفهم بل يختبئ في كتل كبيرة يقودها الأكثر ذكاء الى نهايتها المرعبة.


وائل عبد الفتاح
"المستقبل"

التعليقات