سليمان نزال و"لينا والبرتقال"/ نضال حمد

سليمان نزال و
كلما قرأت المجموعة القصصية " لينا والبرتقال" للشاعر الفلسطيني سليمان نزال، تذكرت أطفال المخيمات واللجوء والغربة والشتات والمهاجر والتشرد، تذكرت طفولتي ومنظمة الشبيبة ومدرسة المخيم ومعسكره حيث كنا نحن الأطفال الأشبال، رواد الثورة المستمرة. الأطفال الصغار الذين من حبهم وإيمانهم بالهدف جعلوا الدرب يصبح أجمل،فرسموا بالأنامل اللينة صورة الشهيد وعلقوها على الجدارن والأعمدة.. فصارت صور الشهداء صورة عن تضحيات الأجداد والآباء. وصاروا يحجون بها نحو مقبرة المخيم،حيث كانوا يقولون للشهداء تصبحون على وطن من حرية وسيادة وسلام..

مع لينا ونوال وهيفاء وسعاد ودلال وفاطمة ومريم كانوا يصنعون من الأحلام حقائق،ومن كعك العيد يشيدون بيوتهم ويبنون مسرحهم المتنقل.مسرح الأطفال الذين لازالوا تواقون للجذور، ويحلمون ببرتقال يافا وزيتون صفد وموز أريحا ونخيل بيسان. يقضون لياليهم في الأحلام الفلسطينية الملونة، أحلام العودة إلى الحقل والبيدر والكرم والمروج الخضراء. حيث المنزل الأول لعلي والحب الأول للخضراء جدته، تلك العجوز التي حملت الوطن في قلبها والانتماء في عقلها. كانت الخضراء معلمة الأطفال ومربية الأجيال تشرح لعلي ورفاقه وإخوانه عن الحلال الضائع، عن الحلال المسروق، المنهوب، والمعتقل في سجنٍ كبير، لا يمكن انتزاعه منه سوى بكسر القفل الحديدي. كانت الخضراء أكثر فهماً وتحليلا من التنظيريين في زماننا الفلسطيني الرخو، في زمن خرائط الطرق التي تحلل ضياع وسرقة الحلال من قبل أولاد الحرام.

انتظرت لينا برتقالها اليافاوي كي يصل مع بريد العاشقين، فألغت صباح ذاك اليوم كل المواعيد وكافة الالتزامات.غابت عن المدرسة، وانقطعت عن زيارة الجدة والجد، لم تقم بواجبها المنزلي، لم تطه الطعام في المطبخ الصغير. ابتكرت أعذارا عدة قدمتها للوالدة كما تقدم طبق البرتقال الشموطي. تدبرت أمر الأعذار حيث استعانت بأقرباء لها بدورهم تمرسوا في خلق الأعذار. لينا قضت سنوات عمرها القليلة وهي على موعد مع بيارة البرتقال التي قضى جدها العمر وهو يحرسها من الغرباء واللصوص. يحرسها ويحميها من لصوص الحلال، لصوص الأرض، الذين غزوا البلاد. ثم كانوا السبب في ضياع البستان والبيارة وموت الجد غريبا في مخيمات البؤس والتشرد، بعيدا عن أشجاره وبرتقاله والأرض التي كانت لا تحرمه المطر وتمنحه الشجر والثمر. وكانت الجدة قد دفنت في بيارة العائلة تحت أشجار البرتقال نتيجة موتها بالقصف المدفعي المعادي. وظلت صورة الجدة التي لم ترها لينا قط عالقة في ذهنها، تخالها كالفراشة أو كملكة النحل، جميلة سريعة متحركة كالريح، كالخيال، كالهواء وكما الهوى.

يافا عروس الساحل الفلسطيني الممتد من أوجاعنا إلى حصارنا المستمر، كانت يافا حلم لينا وبرتقالها المعلق بين الاحتلال والحصار، وكلنا مع لينا لازلنا ننتظر العودة إلى الحقل الأول في لوبية والصفصاف والشجرة وحطين وصفورية وسحماتا ويافا وحيفا، حيث البرتقال والتين والصبار والعنب والجوز واللوز، وحبال الغسيل وقمصان الأجداد ومقابر الأهل. ولينا بنت حيفا ويافا وكل فلسطين كأي طفلة فلسطينية تحلم بوطنٍ حر وسعيد وسيد. تحلم بهوية وقلم وقصاصة وقصص وكتب مدرسية ودفاتر وحدائق عامة وخضرة وماء وهواء نقي، وتحلم أيضا بمخيم للكشافة بجوار مخيمها الذي يعتبر مؤقتا حتى العودة إلى ارض البرتقال الحزين. ولينا تعي أنها تقيم منذ ولادتها في سجن جماعي يسمى بالعربية الدارجة مخيم للاجئين الفلسطينيين.

لينا هي طفلة كل فلسطيني يحمل فلسطينه معه أينما حطت رحاله. وهي طفلة المستقبل الذي يبشر به سليمان نزال في قصصه الجميلة وحكاياته الشيقة. فلينا هي كالحجر الأساس في بنيان الجسد الفلسطيني الذي صار متراسا للفلسطيني في دفاعه عن وجوده. وهناك عند لينا بنت الأزقة والزواريب يصبح العنفوان عنوانا للصغار وللكبار في زمن العذاب والحصار والحجارة وما تبقى للمخيم من سلاح. ولينا الفلسطينية جاءت من عذابات الناس في المخيمات،حيث يعيش اللاجئ في بيته جسدا، أما روحه فقد ظلت هناك مع الخضراء وفي المراعي الخضر وتحت أشجار البرتقال والزيتون والصفصاف، حيث حطت روح لينا وحيث ظلت الخضراء بروحها.

كبرت لينا في الظلال وتحت أشجار البرتقال في المخيم، ببلادٍ تجاور بلادها التي أصبحت حلالا ضائعا واستباحتها أيدي الغرباء، فبدلت طعم الصبار ولم يعد للفاكهة في البلد رائحة فاكهة البلد. ونمت في لينا كما في الخضراء أجنة العنفوان الذي لا يخمد، فكبرت على حب العودة، وفكرت كيف تعود في ظل واقع الحال المستحيل. فقررت ان تدرس وتكبر فدرست وكانت في المدرسة تنمو مثل طربون الحبق. بعد حين تحولت لينا لأنشودة تعلمها كل الصغار من الجنسين في المخيمات. فأصبحنا نسمع بها وننشدها دون أن نعرفها " لينا كانت طفلة صارت ثورة..".

ولينا الطفلة صارت بعد حين شابة، مقاتلة، أم فجدة...ولم تعد البلاد بكامل التراب، ورد التراب على الكثيرين من ناسها وخلانها. وهاجر عددا لا باس به من الأهل والجيران والأصدقاء والصديقات إلى بلاد الغربة والشتات، فصارت لينا المخيم ،لينا الثورة التي تحمل دمها بين يديها، أنشودتهم في كوبنهاغن واوغوس وستوكهولم وغيتينبورغ وبرلين وامستردام وبروكسل وباريس ولندن واوسلو وبرغين وحتى ترومسو في أقصى شمال النرويج. ومثل لينا حمل المهاجرون دمهم على أكفهم وساروا في ارض الله الواسعة يشقون طريقهم نحو فلسطين، بعدما ضاقت بهم بلاد العرب التي تعتبر بلدانهم، ففي ابتعادهم عن الوطن العربي الكبير كانوا يفتشون عن أفضل الدروب المؤدية إلى وطنهم فلسطين.

في مدينة كبيرة ذات أحياء أنيقة ومواصلات مميزة، تعرف الفلسطيني المهاجر على لينا جديدة، فلينا تلك تركب كل صباح قطار أحزانه، مثله تماماً. أما لينا المخيم فكانت تصعد التلال وتنزل الوديان وتعبر الأرض البور والشوك حافية القدمين. هنا في اوغوس حمل الفلسطيني راية المخيم وثبتها في الحي الأنيق، في مدينة اوغوس الدنماركية وفي مدن اللجوء والهجرة وإعادة اكتشاف الذات. لينا التي صارت اثنتين ظلت تلازمه كأنها ضفة عطشى لا ترغب بترك النهر يجري دون الارتواء من مياهه العذبة. ونهر الحب والانتماء لتفاصيل العنفوان يهدر من حدود المخيم الممتد من جراح الأهل إلى المقابر الجديدة في بلدان اللجوء الحديثة. وفي قطار الساعات التي تمر بسرعة مياه النهر المتدفقة، كان الفلسطيني يفكر بقلمه الذي حاولوا كسره وببندقيته التي حاولوا مصادرتها وبقراره الذي لعبت به أصابع الوهم فضيعته. وكان يرى على المقعد المقابل لمقعده طيف الخال شقيق الخضراء، يسير وعلى كتفه يحمل عنوان الصراع، وفوق رأسه رمز البقاء. قال المهاجر الفلسطيني في قرارة نفسه خوفا من أن تسمعه لينا الدنماركية قرينة لينا الفلسطينية، التي كانت أيضا تجلس في نفس المقصورة، أين أنت أيتها الخضراء لتعرفي كم يحبك علي الصغير، علي الطفل الذي شبَ وشابَ على فكرة علي الكبير. يترك كاتبنا علي لعلي والخضراء للخضراء ويعود للينا التي وهبها إياه الرب لتكون رفيقة درب في سفر التكوين والعودة. يكتب لعينيها كلمات عربية بلغة أجنبية،يخط بالأحرف الأبجدية انتفاضة الجسد ورعشة القضية. ثم يرسم عيناها قصائد حب تتغنى بالعودة،ب القيامة من جديد..

مجموعة لينا والبرتقال للشاعر الفلسطيني سليمان نزال، مجموعة تقدم الفلسطيني كما هو بدون رتوش ،تقدمه صاحب قضية حية لا تموت، وصاحب تجربة ناضجة لا تتكسر بفعل أزمات عابرة. فالغضب من الذين كانوا السبب في خراب البيت وضياع الوطن يعبر في حكايات المجموعة عن خميرة عقائدية جبلت مع طحين المخيم فأنتجت خبزا حارا ساخنا يلتهب حبا وعنفوان، خبزا يشبع الجياع ويسكت صراخ الأطفال في المخيمات. مجموعة لينا والبرتقال للصديق سليمان نزال هي كالفارس الوطني الذي نزل الساحة شاهرا سيفه المهجري.

التعليقات