ضرب من السيره الفردانيه ام تخليد لتهميش جماعي/ وائل ابو عقصة

-

ضرب من السيره الفردانيه ام تخليد لتهميش جماعي/ وائل ابو عقصة
بوعي جغرافي جامح لمدن "الشام التاريخية" وبوعي ثقافي متجذر ومثير، يكتب إياد برغوثي مجموعة قصص أشبه بسيره ذاتيه متقطعه تتحدث عن تجاربه الغراميه والحياتيه التي يجمعها تحت عنوان واحد يسميه "نضوج".

المدينة والمدنية بمفهومهما الحديث تلعبان في هذه المجموعه دورًا يعكس واقعًا مميزًا، وربما استثنائيًا في السياق الأدبي العربي العام: فالمدينة في هذا الكتاب لم تلعب الدور المألوف لدى الكثيرين من الكتاب العرب بكونها وطنًا عضويًا مسلوبًا يحنّ اليه الكاتب ويشتاق بنبرات رومانسيه لا تتعدى كينونتها ولم تلعب كذلك نزعه مألوفة أخرى تتمثل بإرادة جامحه لتغيير واقع اجتماعي متهافت في أهليته الخانقه للحريه التي غالباً ما تنتهي بهجرة ذلك المثقف من مدينه "تتمزق على الجسد القديم" عل حد قول أدونيس.

فالمدينة في هذه المجموعه تعكس هاجسًا جماعيًا متجذرًا بالواقع الإبداعي لفلسطينيي الداخل. فهي عند هؤلاء تلعب دور الإغتراب والمبتغى في آن واحد، مغايرة تنعكس على ادوار ابطال هذه القصص بشكلها الخاص والمميز لهذه الأقليه.

تتمثل رحلة الكاتب ببحثه وراء مكان للعيش وبالتسائل "أين سنسكن؟، فهو يحب المدن الكبيره لكنَّه مسجون في هذه البلاد الضيقة. فالهجرة استفزاز لمثالية الباقي والصامد والمستمر وهروب غير مضمون والبقاء استسلام لضباب الأفق وأسئلة التناقض اللانهائيه".

فإذا كانت القرى العربيه أو "قرية أهله" لا تتعدى بنظره "هامش حزين وبائس تحولت مثلها كباقي القرى القليله التي بقيت في الجليل إلى فندق للفلاحين الذين تحولوا إلى عمال من أبناءالمدن اليهوديه على أراضيهم المصادره". وإذا كان المبتغى مدينة فهو بالضروره لا يتمثل بالمدينه العربيه الموجودة، فـ"الناصره أكبر مدينه عربيه في البلاد، ليست مدينة" وعندما "لم تعد الناصرة ناصرة" قرر الكاتب هجرة هذه المدينه غير النمدينة بحثاً عن مدينه تلائمه، لكنه سرعان ما يدرك بأن كل المدن العربيه في هذه البلاد تعيش حالة اضطراب قد افقدتها المدنيه. فـ"القدس مسجونه داخل سورها ممنوعة من زيارة رام الله الثائره الجريحه خلف الحاجز وبعيدة عن الناصره المعزولة".

وبوعي مجروح لواقع متصدع تخترقه واقعية الإحتلال والإستيطان يفهم الكاتب بأن المدينة الوحيدة المتاحة أمامه هي مدينة "الآخر" اليهودي، بحيث يسافر مضطراً للسكن فيها.

لكن أمله البائس سرعان ما يزيده إحباطاً: فهذه المدينة القريبة جغرافياً منه والبعيده ثقافياً عنه والتي لعبت دوراً رئيسياً في وعيه الفلسطيني المقهور سرعان ما تتعرى مدنيتها المصبوه في خياله لتصبح مدينة "الآخر" اليهودي المطلق. فهكذا تصبح تل ابيب "مدينه مستنفره لتشتري كل شيء تحتاجه للسبت"، وحتى عندما يتحدث الكاتب عن معارض الجمال الرسم والفن التي استمتع برؤيتها في أحد شوارع المدينه فلا تفوته الممثله التي "لا تتحرك الا برنة الشيكل".

هكذا لا يلبث الكاتب إلا أن يرى هذه المدينه من خلال سبتها اليهودي وإستهلاكها الرأسمالي المثير لإشمئزازه الذي سرعان ما يترجم بوعيه لروح عدائيه. فهي بسكانها المتمثلين بركاب الحافله "ينظرون إليه بخوف واستغراب حين يجيب بالعربيه على مكالماته". وهو العربي الذي يبحث عن عمل بلا جدوى في "عشرات الشركات التي تبحث عن موظفين عرب" ليشعر نهايةً بأن تللك المدينة تشاركه العداء، فعندما "نظر إلى مصاريع الشبابيك البيضاء المغلقه شعر انها أغلقت أمامه هو".

في هذه المراحل يتخذ تصور المدينه وبالتالي مدنيتها عند هذا المثقف منحى من نوع آخر. فهو الآن الفلسطيني الذي ييبحث عن عمل في هامش هذه المدينه وهو المقهور والمحبط في ظل المدينه الماديه والإستهلاكية المعاديه له ولأصالته والتي سمى سكانها ـ"الحكام الجدد". فالعرب من الآن في نظره هم "المضطهدون" عند فرانس فانون وبالتالي هم بالضروره "ناس ُسمُر" او "الناس السُمُر الطيبون". ففي هذه الحاله تنقلب المعاني على نفسها لتأخذ ثنائيات منتشرة في الأدب العالم ثالثوي المتعامل مع "الآخر" الأوروبي عادةً وتُسبغ هذه العلاقه بمصطلحات المستعمِر والمستعمَر، الأبيض والأسود. ومن هنا لم تكن الطريق طويله لأدلجة ومن ثم جنسنة العلاقه بين لأنسان والعالم وبشكل خاص بين المثقف المهزوم والمتروبولين القاهر.

هذا ما يحدث عند لقائه بفتاة يهودية في مقهى "اليسار المثقف" فعندما يدرك بأن تللك "الراقصة" التي "ظن أنها عربيه " بأنها تنتمي لذلك "الآخر" فهي توحي له بشكل مباشر "كل شيء اسمه رغبه". ولأنه "محبط "نفسياً و"مهزوم" ثقافياً كان هذه المرة يشعر بأشد الحاجه لإثبات رجولته والأنتقام لها.

فرمادية تللك الراقصه تتمثل "بغرابتها" وبهويتها المشوهة "الأرابسكيه" بنظره والتي "هجرت اصالتها" العربيه. فهي كانت "عراقية الأصل تبحث دون كلل عن العربية والشرقية التي فيها...عبر الموسيقى العربيه الكلاسيكية التي كان أبوها يسمعها" وسرعان مايتوج ذللك الموقف الطهراني بذهنه ليكون "أغرب تجربه خاضها".

ففي هذا الوضع البائس لا يكاد يسمع بطل القصه عن حادثه قد وقعت مع أهله في البلدة حتى يهجر تللك المدينة و"لو مشياً على الأقدام" وعند اتخاذه لهذا القرار المصيري فقد "نظر حوله ولم تكن يافا ولا الناس سمر ولا رائحة الريح خبز ولا ملح... كانوا يمشون حوله والليل لم يكن يعرفه والشارع كان اطول من مشيته بكثير".

بأسئله مفتوحه عن مفهوم الذات والآخر وبرومانسية صارخة ومهزومة تكون نهاية رحلة المدينة بمخيلة الكاتب وبأسطر هذا الكتاب. فهل كانت هذه الردة عبارة عن طرد لا رجعة منه للمدينه الحديثه وبالتالي تخليداً للهامشية؟ أم مجرد صرخه من صرخات هذا الفلسطيني المتراميه عل عتبة 58 سنة من التهميش؟

التعليقات