عربية بلا عرب/ محمود عبد الغني

-

عربية بلا عرب/ محمود عبد الغني
جاء التقرير الجديد للأمم المتحدة غنيا من حيث المعطيات اللغوية و اللسنية، فقد اظهر أن 50/ من سكان الأرض يتكلمون ثمان لغات فقط من أصل ستة آلاف لغة تستخدم اليوم في المعمورة. و المعطي الأهم هو أن اللغة العربية، من بين هذه اللغات، تتفوق علي الفرنسية و البرتغالية في عدد المتكلمين بها. و ذكر التقرير أن هذه اللغات المنتشرة هي الصينية و الانجليزية و الهندية و الاسبانية و الروسية و العربية و البرتغالية و الفرنسية. وحذر التقرير من اختفاء ثلاثة آلاف لغة من أصل ستة آلاف لغة معروفة ستختفي من العالم خلال اقل من مائة عام بسبب تناقص عدد المتكلمين بها و إهمال تعليمها للأجيال الجديدة. و الخطر محدق خصوصا باللغات التي يتم التكلم بها من دون كتابتها. فالإحصائيات تشير إلي أن هناك مائتا لغة من هذه اللغات يتكلم بها اليوم اقل من خمسمائة شخص فقط. ولا أدل علي ذلك من اللغات الموجودة في القري النائية و المناطق المعزولة في آسيا و افريقياو التي تواجه الانقراض لان الأجيال الجديدة تترك تلك المناطق و تغادر في اتجاه العواصم و المدن الكبيرة. فبلد مثل موزامبيق، حيث عدد اللغات المحلية يفوق العشرين، اعتمد اللغة البرتغالية لغة رسمية للبلاد.

إن الأخطار التي تهدد التنوع اللغوي و الثقافي هي نفسها التي تهدد التنوع البيئي والتنوع الهوي. .الخ. لكن التقرير أبرز حقيقة يحتاجها العرب اليوم لإعادة النظر في خصوصيتهم و وجودهم و ألسن هويتهم، فالعربية تحتل المرتبة السادسة في سلم الانتشار بعد الروسية و قبل البرتغالية و الفرنسية..إضافة إلي أن السلطات الأمريكية صنفت مؤخرا العربية لغة إستراتيجية في التعليم،" وسارع عدد كبير من الأمريكيين إلي تعلم العربية باعتبارها مكونا لغويا و ثقافيا عربوفونيا ناجعا في التكوين. وقد حسمت السلطات التربوية الفرنسية لصالح اختيار تبني تعليم عربي ازدواجي يراعي الأبعاد الكتابية و الشفهية للمتصل اللغوي العربي بين فصيحه و عاميه. وفي إسرائيل ، تم ترسيم اللغة العربية إلي جانب العبرية، وتحمل اللوحات الاشهارية إعلانات بالعبرية و العربية."( د.الفاسي الفهري،التعريب،العدد السابع عشر، ديسمبر2004).

لكن بعض الجامعيين الفرنسيين، ممن يحملون تصورا اختزاليا للغة العربية، بدؤوا يتحركون بهدف فرض بديل لهجي " مغاربي" لتحقيق هدف تلافي اللاامن اللغوي" الذي كان رائجا في عهد الجنرال ليوطي. هكذا باسم الحوار والتواصل و معالجة إشكال الازدواجية و التعدد اللغوي يتم السعي إلي مطاردة لغة أقوي و أكثر انتشارا من الفرنسية التي أصبحت هي نفسها خائفة من الإنجليزية سواء داخل فرنسا أو خارجها، مثلما نجد في التشريع الكندي في الكيبيك الذي وضع ميثاقا لحماية الفرنسية بالدرجة الأولي. كما أن هناك لغات نعتبرها مهيمنة كالانجليزية مثلا في ولاية كاليفورنيا في الجنوب الأمريكي، ونجدها تضع قوانين لحماية الانجليزية من هيمنة الاسبانية.
إن إحلال عربية لهجية محل العربية التي يصفها الفرنسيون قدحيا ب " الكلاسيكية" هو منطق يقوده العمي و التعصب و الخداع و سوء القصد. إننا لا نحتاج أن نكون خبراء لسانيين أو لغويين مقارنين حتي نثبت التعدد الطبقي والجهوي والاثني للدارجة المغربية الحاملة للعديد من العناصر الثقافية المتنوعة، الشيء الذي يجعلها صعبة ووعرة في التركيب والنطق وبناء الدلالة، أكثر مما تتسم به العربية الفصيحة العصرية. وأحد المؤشرات علي هذه الصعوبة" أن الدراسات الوصفية لهذا النظام اللهجي، واللهجات العربية الأخري كذلك، أقل تفصيلا و دقة و تطورا، مقارنة مع وصفيات اللغة العربية المعيرة( حتي لا نقول إنها ضعيفة و غير ملائمة).لتتحول الدارجة إلي لغة للمدرسة، تحتاج إلي جهود كبري في التقعيد و التعيير، تؤدي إلي تأخير المغرب عدة عقود."( الفاسي الفهري، نفسه). لقد بدأت الدارجة تكتب علي اللوحات الاشهارية بشكل مضحك. كما أنها حاضرة في الإعلام السمعي البصري بصورة لا تليق بها. بل إن هناك جديدة هي الرابعة تبث كلها بالدارجة بمبرر التواصل مع الناس. و هؤلاء الناس يريدون شيئا واحدا، لغة عربية حيوية، جذابة وحاملة لمعرفة التقدم والتحديث و التنمية. فما الذي قدمته مجامع اللغة العربية و اللسانيين و المربون العرب الذي انشغلوا مطولا بمسالة تدبير الفجوات الناتجة عن الازدواجية والتعدد اللسني. إننا لحد اليم نفتقد إلي عمل لساني عميق وإلي مخطط شمولي يعير المفردات اللهجية و تفك عقدة الألسن وتكف تلك الاقلية من الجامعيين الفرنسيين عن الاصطياد في مياهنا العميقة.

يري الفاسي الفهري إننا عدنا إلي عهد ليوطي الذي كان يختلق صراعا وجوديا بين العربية و الامازيغية، وبذلك فالعربية مهددة في وقت من أصعب الأوقات. أما الشاعر محمد بنيس فيري أن اللغة العربية في المغرب هي سؤال مؤجل. فتحديث الثقافة يتم عبر التحديث اللغوي من طرف النخبة المثقفة و من طرف الدولة. ويستغرب الشاعر، الذي لا يحوز شيئا غير لغته، وجود العربية في الميزان إلي جانب اللهجات المحلية ، في غياب أي ضابط لغوي. فالضابط المختار هوالمصلحة السياسية.

فسؤال اللغة، حسب الشاعر، هو اسبق الأسئلة المقصاة في تاريخنا الثقافي الحديث. (الحداثة المعطوبة، دار توبقال ، ص.101-102). وما معني الكلام يوميا عن الحضارة المغربية و الانقسام اليوم بلغ مداه بين أغلبية تعيش في محيطها المغربي العربي الإسلامي الشرقي و أقلية مرتبطة بالغرب ، بفرنسا تحديدا، والتي تعيش في نطاق الاقتصاد العصري؟ يتساءل المفكر عبد الله العروي بقلق ظاهر. إننا لا نظن أن انقساما كهذا يمكن أن يوجد في بلد نظن انه موحد و متجانس و مستقل بعد ثلاثين سنة من الجهد و التضحيات. انه وضع يعود إلي عهد الحماية الذي كان محل نقد ممثلي الوطنيين في المجالس الاستشارية ( عبد الله العروي، خواطر الصباح، حجرة في العنق، ص.251).

ويسخر العروي من بعض المثقفين الذين لا يعتمدون إلا علي الإصدارات الفرنسية أثناء حديثهم عن الإسلام و السياسة، و لا يعلمون شيئا عما صدر بالعربية في المغرب..وكما كان الفرنسيون أيام الحماية يحكمون علي الإسلام ، دينا و ثقافة، من خلال أقوال و أفعال خادماتهم. وهي القضايا التي تساءل حولها الروائي و المفكر بنسالم حميش في كتابيه" الفرانكفونية، 2000) و" نقد بداوة الفكر،2004).

إن انقاد الوضع اللغوي والثقافي المغربي من الاختلاط هو مهمة من مهام الدولة و النخبة المثقفة. فتصديرات كل دساتير المملكة المغربية( 1996 .1992 .1972 .1970. 1962.) تؤكد أن اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة العربية، وهذا ما جاء في آخر دستور صادر بتاريخ 07/10/1996 " المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة لغتها الرسمية هي اللغة العربية، و هي جزء من المغرب العربي الكبير". كما إن الدعامة التاسعة من " الميثاق الوطني للتربية و التكوين 1999" تؤكد" تحسين تدريس اللغة العربية و استعمالها ". إضافة إلي ظهير أكاديمية محمد السادس للغة العربية ( 19 يوليو 2003) الذي يثمن نفس الأهمية للغة العربية. لأنه لا يمكن فصل حماية اللغة عن حماية الحقوق الأخري. فالأنظمة الديمقراطية تحمي وجودها من خلال حماية لغتها. و الأنظمة التي لا تحمي لغتها هي أنظمة التمييز والانفصام الحضاري.


شاعر وكاتب من المغرب

التعليقات