فارغاس يوسا و.. فلسطين!/ رشاد أبو شاور

-

فارغاس يوسا و.. فلسطين!/ رشاد أبو شاور
كما هو الشأن، فإنني أحرص كلّما زرت دمشق،على لقاء صديقي وجاري القديم صالح علماني، الذي أغنى المكتبة العربيّة بروائع الأدب الأمريكي اللاتيني، لكبار الروائيين، والقصاصين، والمسرحيين الأمريكيين اللاتينيين، مترجماً روائعهم عن اللغة الإسبانيّة مباشرة.

في لقائنا الأخير بمقهى الروضة، وكالعادة، أحضر لي بعض المترجمات، وكانت في هذه المرّة ترجمة جديدة لمائة عام من العزلة ـ الترجمة السابقة نقلها الأستاذان سامي وإنعام الجندي، عن الفرنسيّة ـ وطبعة جديدة من مذكرات ماركيز وتجربته الحياتيّة والكتابيّة (عشت لأروي)، ورواية بطلها لبناني وبعنوان (عبده بشّور) وهي لصديق ماركيز ألفارو موتيس، وبمقدمة طريفة وضعها ماركيز تكريماً لصديقه بمناسبة عيد ميلاده السبعين...

أخبرني صالح أن الروائي البيرواني ماريو فارغاس يوسا قد اصدر كتاباً عن زيارته للكيان الصهيوني، واطلاعه على أوضاع الفلسطينيين ومعاناتهم، وأنه عقد مؤتمراً صحافياً بمناسبة صدور كتابه، أعلن فيه أنه مع دولة للفلسطينيين، وهذا يعتبر تطوراً في موقفه حيث عرف عنه انحيازه (لإسرائيل)...

قرأت ليوسا بعض أعماله التي ترجمها الصديق صالح علماني: (في مديح الخالة) و(من قتل موليرو)، و(دفاتردون ريغوبيرتو)، وأعجبت كثيراً برائعته (حفلة التيس) وهي أهجية بالدكتاتوريّة، وتعرية لقبحها ووحشيتها، ولذا تكونت عندي فكرة عن هذا الروائي الكبير، وما يشغل فكره...

قبل سنوات رشّح يوسا نفسه لانتخابات الرئاسة في البيرو في مواجهة الياباني الأصل (فوجيموري)، وهو وإن فشل في الوصول إلى سدّة الرئاسة، فإنه حظي بتأييد واسع من جماهير البيرو، وهذا يدلل على مدى شعبيته في بلده، وعلى أنه روائي وأديب ينخرط في هموم بلده السياسيّة، والمعيشيّة ...

قرأت في الصحافة الأردنيّة اليوميّة خبراً يقول بأن الروائي البيرواني ماريو فارغاس يوسا، والذي يزور الأردن، بدعوة مشتركة من مركز ثربانتس، والسفارة الإسبانيّة، سيقدّم محاضرة في العاصمة (عمّان)، فوجدتها مناسبة استثنائيّة أن يتاح لنا اللقاء به، وسماعه يتحدث عن تجربته، وطرح أسئلة عليه إن أمكن...

يوم الاثنين 19 حزيران (يونيو)، الساعة السابعة في المركز الثقافي الملكي، فوجئت بعدد قليل من الحضور، بخّاصة من الكتّاب والكاتبات، وهذا ما دفع الأصدقاء : الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، والروائيّة سميحة خريس، والقّاص سعود قبيلات، للتندّر على الكتّاب الذين لا يحرصون على سماع كاتب عالمي والاستفادة من تجربته الغنيّة، ومحاورته ...

عنوان محاضرة يوسا هو (اعترافات أديب). في مدخل حديثه أعلن بأسف، أننا لا نعرف بعضنا، نحن في أميركا اللاتينيّة وأنتم هنا في بلاد العرب..

لم نسمع اعترافات من يوسا، فهو قدّم لمحة سريعة عن بدايات حياته، وتوقف عند إقامته في باريس لسبعة أعوام، اعتبرها صانعة حياته الأدبيّة، ثمّ ليسرد أسماء من أثّروا عليه، وفي مقدمتهم سارتر، كامو، فوكنر، مالرو (بجواري الصديق رسمي أبو علي يعلّق هامساً: نفس الذين أثّروا بنا، وأنا أضفت: نسي همنغوي، وتناسي جورج آمادو...).

إلماحته عن أدب أمريكا اللاتينيّة لم تضف الكثير لما نعرفه، ولكنه طرح سؤالاً هّاماً هو: ما سّر الانحطاط السياسي، والعظمة الأدبيّة في أمريكا اللاتينيّة؟ وأجاب: الشعور الوطني المحلّي هو سبب الانحطاط، بينما الانفتاح هو الذي أوصل كتّاب أمريكا اللاتينيّة علي العالميّة...

ماركيز تحدّث عن هذا الأمر، وشدد على أن أدب أمريكا اللاتينيّة يعبر عن وحدة مواطني القّارة، ورغبتهم في الوحدة، وتجاوز هذا الكم من الدول، وتحقيق ما ثار من أجله أبطال القّارة، ودعاة وحدتها الذين يتقدمهم (سيمون بوليفار)...

في ختام المحاضرة أعلن ممثّل مركز ثربانتس أن باب النقاش مفتوح مع الضيف الكبير لمدّة ربع ساعة فقط !
هنا نهض أحد الحضور وانهمك يحكي بالإسبانيّة طيلة ربع ساعة، هذا مع عدم حساب وقت الترجمة من وإلى بين يوسا والجمهور...

لا أخفي أنني توجهت إلى المحاضرة لسماع يوسا، وأيضاً لسؤاله عن موقفه السياسي، وتأثير زيارته لفلسطين، وانطباعاته ومشاهداته الميدانيّة...

بعد الترحيب به، أخبرته أننا هنا نعرف أدب أمريكا اللاتينيّة جيّداً، ولكنهم هناك لا يعرفوننا، وأننا تابعنا معركته الانتخابيّة في مواجهة (فوجوموري) ـ وهو ياباني الأصل، وصل إلى الرئاسة ثمّ اتهم بالفساد، وهرب إلى بلده الأصلي اليابان ـ وأحسب أن العالم ربحه كاتباً كبيراً، في حين أن البيرو ستجد من يترأسها، فمن غير الصعب أن تنجب البيرو رئيساً، ولكن من الصعب أن تنجب فارغاس يوسا بسهولة...

كان سؤالي ليوسا: عرف عنك مساندتك ودعمك (لإسرائيل)، ولكن صديقي صالح علماني، وهو مترجمك للعربيّة، أخبرني عن زيارتك لفلسطين، وعن تأليفك كتاباً هّاماً عن زيارتك ، وفي الكتاب تعديلك لوجهة نظرك حول حقوق الشعب الفلسطيني...

استقبل يوسا مداخلتي ـ فهي أكثر من سؤال ـ بودّ، وأجاب بأنه مع دولتين دولة للفلسطينيين، ودولة (إسرائيل)، وأنه يرفض العمليات التي تودي بحياة المدنيين، ويرى أنها إرهابيّة، وأن كتابه الذي ألّفه إثر زيارته تلك كبير، ومن الصعب تلخيصه...

انفتح باب النقاش، وانفتحت شهية بعض الحضور، ولكن الرجل السبعيني، ومضيفه الإسباني، رأيا أن ينهي الحوار بعد ساعتين تقريباً...

لم اكن أطلب من يوسا الكاتب الأمريكي اللاتيني المرشح القوي لجائزة نوبل للآداب أن يعطينا أكثر من ذلك، فبعض العرب باتوا يطلبون لنا أقّل بكثير من هذا، يتبعهم محترفو سياسة فلسطينيون بالتنظيرعلى الفضائيّات...

ختم فارغاس يوسا أمسيته بحكاية من سطر واحد تلخّص برأيه الواقعيّة السحريّة: عندما استيقظ الديناصور من نومه وجد أنه كان ما يزال في مكانه !..

هنا استذكرت اقصر قصّة في العالم: أخرج فار رأسه من جحره، وقال: العالم واسع.. فالتقمه قّط...

لم أسأل يوسا إن كان قرأ (الف ليلة وليلة) المليئة بالسحر، وإن كانت (الليالي العربيّة) قد أثّرت به كما أثّرت في ماركيز، وبورخيس...

في الخارج، في أضواء المدينة، وصخب سياراّتها، واصلنا التأمّل، أنا ورسمي أبو علي...
هناك في هذه الدنيا من يطوّرون مواقفهم تجاه فلسطين وشعبها، وهنا يوجد عرب وفلسطينيون لا همّ لهم سوى تقديم التنازلات حتى بلغنا الحضيض...

التعليقات