قضايا لغوية (2) /د.إلياس عطا الله

-

قضايا لغوية (2) /د.إلياس عطا الله

تَخْنِيثُ اللّغة، بين التّذكير والتّأنيث -2-


 


- ج -


كنّا أعطينا الألمانيّة، من باب المقارنة بالعربيّة، قسطا وافرا في الحلقة السّابقة، ولأنّ الألمانيّة ليست اللّغة الدّوليّة، على أهميّتها في البحث اللّغويّ العربيّ، سنقوم بتوضيح الأمور عن طريق المقارنة بين العربيّة والإنجليزيّة- اللّغة الدّوليّة-، لغاية علميّة من ناحية، ولتكون رسالة مجرّدة من الميول، منزّهة عن المواقف المسبقة، إلى الحركات النّسويّة العربيّة، للوقوف أمام تعقيدات اللاجَنْسَنَة في مضمار العربيّة.


أشرنا إلى أنّ الجنسين، المؤنّث والمذكّر، أخذا حظّهما على صعيد العربيّة، فانقسمت الأسماء بين هذين الجنسين قسمة عادلة، وأعترف بأن " العدل" هذا مبنيّ على الإحساس وبعض المعرفة بالعربيّة ومفرداتها وصيَغِها الصّرفيّة، ولكنّ الأمر يحتاج إلى دليل إحصائيّ يثبت بالعدد والنّسبة هذه التّوزيعة، وهذا ما لم أقم به، وما لم يقم به، يقينًا، أولئك الذين صنّفوا في المذكّر والمؤنّث من القدماء، ولم أسمع أو أقرأ عن دراسات لجدد في هذا المضمار، ولأنّنا جميعا ننهل من المصادر، فلا بأس في الإحالة إلى أهمّها:


الفرّاء، يحيى بن زياد ( 1989). المذكّر والمؤنّث. تح. رمضان عبد التوّاب، القاهرة.


المبرّد، محمّد بن يزيد( 1996). المذكّر والمؤنّث. تح. رمضان عبد التّوّاب، وصلاح الدّين الهادي، القاهرة.


ابن جنّي، أبو الفتح عثمان( 1985). المذكّر والمؤنّث. تح. طارق عبدالله، جدّة.


ابن التّستريّ، سعيد بن إبراهيم( 1983). المذكّر والمؤنّث. تح. أحمد هريدي، القاهرة.


ابن الأنباريّ، أبو البركات كمال الدّين بن محمّد( 1970). البلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث. تح. رمضان عبد التّوّاب، القاهرة.


الأنباري، أبو بكر محمّد بن القاسم ( 1978). كتاب المذكّر والمؤنّث. تح. طارق الجنّابي، بغداد.


ابن سيده، أبو الحسن عليّ ( ؟). المخصّص. المجلّد الخامس، السِّفران 16- 17، بيروت: دار الكتب العلميّة. (وهو أوسع ما كتب في هذا الباب).


 


تتميّز العربيّة، واللّغات السّاميّة على الغالب، بأنّ قضيّة التّذكير والتّأنيث فيها، تتجاوز الأسماء، لتشمل الصّفاتِ( وهي ممّا يندرج في الأسماء في أقسام الكلام الثّلاثة)، والأفعالَ، ولتشمل كذلكَ جملة من المبنيّات( وهي أيضا من الأسماء)، نحو: الضّمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة، أمّا أسماء الشّرط وأسماء الاستفهام فقد جاءت بلفظ واحد للجنسين. لعلّ الضّمائر هي أكثر هذا النّوع أهميّة، وذلك لعلاقتها بالفعل في العربيّة، ولاتّصالها به تذييلا/ كسعا suffix، أو تصديرًا/ تتويجا prefix، وهو ما يعرف في النّحو الكلاسيكيّ بحروفِ المضارَعَةِ، والتي يراها عدد من الدّارسين ضمائر، وذلك اعتمادا على اجتهادات من ناحية، وعلى درس مقارن مع بعض اللّغات السّاميّة كالأكّديّة، ومع بعض اللّغات واللّهجات الحاميّة السّاميّة كلغة البربر ولغة التّماشِق Tamashek التّابعة لها-1-، وفي كلتا الحالتين، أي كون الزّوائد الأربع/ة حروفًا أو ضمائرَ، فإنّها تميّز بين المتكلّم والمخاطب والغائب، وتوضح العدد، في حالة التكلّم: " أكتبُ" للمتكلّم/ة، " نكتبُ"، لهما مع آخرين/ أخريات، " تكتبُ" للمخاطب الذّكَر وللغائبة الأنثى، و" يكتبُ" للغائب الذّكَر، هذا في حالة الإفراد، أمّا في حالتي التّثنية والجمع، فالأمر يقتضي زيادة علامات كسعيّة في آخر الفعل، كألف الاثنين، وواو الجماعة وياء المخاطبة ونون النّسوة، ولا بأس علينا إن لفتنا النّظر إلى صيغتي " يكتبنَ" و" تكتبنَ" للغائبات وللمخاطبات، و" تكتبين" للمخاطبة، فالأولى مصدّرة بالياء التي خُصَّ بها الغائب الذّكر في المفرد، مكسوعة بالنّون الخاصّة بالإناث، أمّا الثّالثة، فلحقتها التاء تصديرًا، وهي خاصّة بالمخاطب الذّكر، والغائبة الأنثى، وجاءت الياء فيها خاصّة بالمخاطبة الأنثى، وإن كان لنا أن نخلص إلى استنتاجات من هذا المزج بين العلامات غير المتطابقة، فإنّنا قد نؤكّد سمة الحياديّة اللغويّة، وقد نضعف فكرة مَن جعل أحرف المضارعة ضمائر. أمّا الضّمائر في حالة انفصالها، فهي منقسمة قسمة جنسيّة عدديّة، إلاّ " أنا" و" نحن"، فهما للجنسين معا، وكذا الأمر في شموليّة ضمائر التّثنية: " هما"، " أنتما". في حالة الضّمائر الملتصقة كسعا، لا نجد الشّموليّة الجنسيّة إلا في التّاء المتحركة للفاعل، فهي للذّكر والأنثى، وتلحق بها    " ي" و "ني" للمتكلّم/ة في حالتي الجرّ والنّصب، ومثلها الـ " نا" - للمتكلّم/ ة ومعه/ ا غيره/ ا - في وظائفها الإعرابيّة المختلفة-، وكذلك في ـ هُما، ـ تُما، ـ كُما، في تثنية الغيبة والخطاب، وألف الاثنين في صيغة الأمر، وفي المضارع- والمتغيّر هو حرف المضارعة-، أمّا في الماضي، فتأتي دليلا على الاثنين، وتقوم التاء السابقة لها بتحديد المؤنّث. وما عدا ذلك، يميز المذكّر عن المؤنّت ويبين عدده.


أمّا على صعيد أسماء الإشارة والأسماء الموصولة، فثمّة ما هو خاصّ بالمذكّر، وما هو خاصّ بالمؤنّث، عدا " أولا/ أولاء" في الإشارة للجنسين جمعًا، و "مَنْ" و  " ما" و" أيّ" الموصولات، و " ألْ" الموصولة عند مَن جعلها اسما.


وقبل أن ننتقل إلى كلمةٍ عجلى عن الإنجليزيّة، نذكّر بقضيّة المطابقة المعمول بها في العربيّة، فالحديث عن المذكّر أو عن المؤنّث يفترض استعمال الصِّيَغ الفعليّة، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة والضّمائر الملائمة، ولعلّ هذا هو الفرق الجوهريّ، أو موطن الصّعوبة، الذي يميّز العربيّة وعددا من السّاميّات، من الإنجليزيّة، في قضيّة تخنيث العربيّة، أو نزع الجنسنة منها، كما سنرى في الفقرة التّطبيقيّة لاحقا. ولئلاّ يُظنَّ أنّ التّطابق قضيّة ساميّة أو عربيّة، نشير إلى أنّ الإنجليزيّة أيضا تفرض تطابقا بين الفعل والاسم، ولكن على صعيد المفرد والجمع، لا على صعيد الجنس، فالمفرد الغائب للمذكر أو للمؤنّث أو لغير العاقل، يتطلب فعلَ حال متّصلا ب s، وتحذف هذه في صيغة الجمع، كما أنّ المطابقة مطلوبة في استعمال أفعال الكون ( to be) وأفعال الملكيّة( to have)، وفقا للضمائر بكلّ تقسيماتها، إلا التّوزيعة الجنسيّة.


- د -


تخلّصت الإنجليزيّة الحديثة من المميّزات الإعرابيّة التي اتّسمت بها أمّها اللاتينيّة، وظلّت ظاهرة الذّكورة والإناثة واردة في بعض الضّمائر، والضّمائر في الإنجليزيّة منفصلة دائما، ولا يظهر الفرق الجنسيّ إلا في ضميرَي الغيبة المفردَين: he- she، وفيهما، في حالة الملكيّة والمفعوليّةhis- him- her ، أمّا في المتكلّم المفرد وفي المخاطب المفرد، وفي حالة الجمع، فالضّمائر تحضن الجنسين: ...I- you- we- they- their- them- our- my- mine- your، وكذلك ضمير غير العاقل it. أمّا الأفعال والصّفات، وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة، فتبقى على حالها شاملةً الجنسين، دون علامة فارقة، وعليه، تعتمد جميعا على الاسم- والأسماء في الإنجليزيّة لها على الغالب صيغة واحدة للجنسين- الذي ينقسم معنويّا بين المذكر والمؤنّث، وندر أن تكون هنالك علامة لاحقة أو سابقة للدّلالة على المؤنّث أو المذكّر، وبعض الأسماء المذكّرة تقابلها أسماء مؤنّثة مستقلّة، أو قريبة منها لفظا بتغيير طفيف، فإن كانت كلمة husband تدلّ على الزّوج الذّكر، فللزّوج الأنثى كلمة أخرى wife، وكذا الأمر في boy = صبيّ، ولد، و girl= صبيّة، بنت، و man= رجل، و woman= امرأة،         و brother= أخ، و sister= أخت، و son= ابن، و daughter= ابنة،         و father= أب، و mother= أمّ، و masculine= مذكّر، و feminine       = مؤنّث، و uncle= عمّ، خال، و aunt= عمّة، خالة، و  nephew= ابن الأخ  / ت، و niece= بنت الأخ/ ت... وما إلى هذا من كلمات خاصّة بكلّ جنسٍ. والظّاهر- ولا نستطيع إثبات هذا- أنّ هذه القسمة المستقلّة، سابقة لعلامات التّأنيث والتّذكير في الهندوأوروبيّات وفي السّاميّات أيض؛ ففي العربيّة نجد من الألفاظ ما يشير إلى استقلاليّتها، نحو: أب- أمّ، مذكّر- مؤنّث، جمل- ناقة( مع وجود جَمَلَة)، حمار- أتان( مع وجود حمارة، والأتان قد تعني الذّكر والأنثى، ولذا وردت أتانة في اللّغة أيضا)، أسد- لبؤة( مع وجود أسَدَة، أمّا لبؤ العربيّة فمُماتة، ومقابلها العبريّ حيّ في الاستعمال- לביא )، كبش- نعجة( كلمة كبشة واردة في اللّغة، ولقد أشار اللّغويّون إلى أنّها ليست مؤنّثَ كبش، وإنّما هي اسم مرتجل، ويظهر أنّها معرّبة وأصلها كفجة بمعنى مغرفة)، ثور- بقرة، تيس – عنز، وما إلى هذا، إضافة إلى بعض الأوزان الاسميّة الوصفيّة التي يستوي فيها الجنسان- بوجود قرينة- ولا حاجة إلى إضافة علامة تأنيث، ومنها: فَعِيل بمعنى اسم المفعول( امرأة جريح ورجل جريح)، فَعُول بمعنى اسم الفاعل( امرأة صبور ورجل صبور)، مِفْعَل( رجل مِغْشَم وامرأة مِغْشَم)، مِفْعِيل( امرأة مِعطير ورجل معطير)، مِفْعَال ( امرأة معطاء ورجل معطاء)، فَعَلٌ( أمرأةٌ عَزَبٌ ورجلُ عَزَبٌ).


توخّيا للدّقّة، نضيف نماذج من الإنجليزيّة لأسماء تستعمل للمذكّر والمؤنّث دون تغيير، وهي كثيرة جدّا، نحو: author- partner- driver- parent- friend colleague( وتعني على التّوالي: صديق- للمذكّر وللمؤنّث، وقد تؤنّث: صديقة، والد/ ة، سائق/ ة، شريك/ ة، مؤلِّف/ ة، زميل/ ة) وما إليها، ونشير إلى أنّ الإنجليزيّة تلجأ أحيانا إلى علامات لتميّز بين المذكّر والمؤنّث، وهي قليلة، وفي عدد قليل من الأسماء، منها:


prince أمير               princess أميرة


manager مدير            manageress مديرة


actor ممثّل                actress ممثّلة


hero بطل                 heroine بطلة


widower أرمل           widow أرملة


وعلى ندرة، قد نجد الضّمير she سابقا للاسم من الإنسان أو الحيوان للدّلالة على التّأنيث، نحو: she- cousin- she- devil و she- goat، وفي مثل هذه الحالة تحمل she معنى: أنثى، أو تؤدّي وظيفة علامة التّأنيث في العربيّة.


 


-1- لغة التماشق: لغة أحد بطون البربر في شمال إفريقيا وفي منطقة الصحارى، وهي لغة بربريّة، اعتنق أهلها الإسلام، يتحدّث بها أكثر من مليونين في أنحاء الجزائر وبوركينا فاسو وموريتانيا وليبيا ومالي والنّيجر، ومتحدّثوها يجيدون العربيّة أيضا. ولعلّ أهم لغات بطون هذه العائلة البربريّة هي الأمازيغيّة، والتي هي لغة الحضارة لزهاء عشرين مليونا من سكّان المناطق المذكورة، أي أنّها اللّغة شبه الشّاملة للبربر، وخاصّة لسكّان الجنوب منهم، ولها جذور تمتدّ في تاريخ حضارة المكان إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، ومتحدّثوها نشطون اجتماعيّا وسياسيّا في الجزائر والمغرب، وعملوا على إحيائها. يشار إلى أنّ الخطّ الفينيقيّ الذي هيمن على الشّمال الإفريقيّ، هو من خطوط كتابتها الأساسيّة، ولا ننسى دور الفينيقيّين في المنطقة، بما أبقوه من معالم حضاريّة، وما زالت قرطاج وغيرها شاهدا على تلك الفترة.


ثمّة علاقة اشتقاقيّة بين التماشق أو التماجق، والتمازغ والطوارق( الملثّمون)، ولهؤلاء علاقة تاريخيّة بالفتوحات الإسلاميّة، وبطارق بن زياد المتحدّر منهم، والاسم " الطّوارق" ليس مشتقّا من طارق بن زياد، بل هو من " تماشق" أو        " تمازج" التي تعني عندهم: الرجال الأحرار، أو لعلّه مشتقٌّ من منطقة تارقة/ فزّان الليبيّة، حيث كانوا، ومنها انطلقوا لشؤون حياتهم، أو لحروبهم ونشر الدّعوة الإسلاميّة، وأصل الكثيرين منهم من اليمن، من الذين جاءوا في عهد الفتح الإسلاميّ في شمال إفريقيّا، واختلطوا مع السّكّان الأصليين وتزوّجوا منهم.


-يتبع- 


 

التعليقات