لا تولد الأمّة المتنوّرة إلا من رحم الأنثى/الأم/ د.سمير خلايله-سخنين

-

لا تولد الأمّة المتنوّرة إلا من رحم الأنثى/الأم/ د.سمير خلايله-سخنين
ربما يتبادر لذهن القارئة او القارىء لأول وهلة من قراءة عنوان هذه المقالة بشقه الأول أنّ كاتب هذه السطور قد قصد عمدا بأن يوقعها في مطّبات الأحاجي المنطقية وهرطقات ذات بعد سفسطائي او أن يفتح الباب العبثي للسخرية السقراطية الحكيمة على مصراعيه (فعبارة مثل "شو قاعد هزّلمه يتهبّل؟" كرّد فعل أولي بريىء على العنوان بشقه الأول حتما متوقعة).

إطمأني, عزيزتي! ما أتواخه حقا في هذه المقالة هو إنارة مساحة في وعي غير العارفين لمجموعة حقائق لسانية (قد تكون قد كٌتب لها أن تكون غائبة او مُغيبَة الى زمن بعيد) من المجدي إمتلاكها بحكم أنّ مجرد الإستحواذ عليها يمكّن توطيد دعائم بنيان الوعي (اللغوي) ويضيف لمسة جمالية لماهيته وهويته. ف"العقل زينه" كما تُرَوحِن اللغات العربية.
إنّ توظيف ضمير المؤنث في الإشارة الى الجنس البشري الشامل من قبل الكاتب قي سياق المقالة ليس عبثا. فقد جاء ليمركز ويذوّت في الوعي الجمعي (الباطني) الحضور الإنساني والاخلاقي والحضاري للأنثى العربية, من جهة, والمساهمة في تفكيك و تقويض قوالب وأنمطة فكرية تُقصي ,تُهمّش وتُغيّب الأخرى او الآخر, شيّدها النهج الذكوري على مر العصور وكتب على نفسه قيما مسلوخة عن طبيعته الإنسانية ونزعته التآنسية مع الآخرى او الآخريات فعاقبته الطبيعة بإكتساب "عقدة الأنثى" "كثأر" للعدل الفيزيائي المُتمَثل في رّد الفعل .

حقا, يرشح وينضح من إناء اللغات العربية ماء الجمال الأخلاقي عندما تشتق هذه اللغات لفظة "إنسانة" (موجودة في اللغة العربية الفلسطينية) او"إنسان" من مفهوم ال "أنس" (وليس من مفهوم ال"نسيان" كما يعتقد البعض), من جهة أخرى. إنّ غَيْرِيَة الأخرى او الآخر معترف بها بقلب الذات الإنسانية وساكنة بسلام بحضن مفهوم ال"أنس". طبعا سيعتبر النحاة المعياريون هذا الإنزياح إستفزازا و"تطاولا" على قدسية اللغة, قدسية الذَكَر. تجدر الملاحظة هنا أنّ التصوّر الذكوري لمفهوم "ذكوري" يدور في حقل المعاني والدلالات كعلاقة الكلّ-الجزأ مع المفهوم الجنسي البيولوجي للفظة "ذَكَر", بينما التصوّر الفكر الذكوري لمفهوم ال "أنثوي" لا يعتمد على التلاحم الأيديو-بيولوجي لأنّ مفهوم ال "أنثوي" لا يدور في فلك مفهوم ال"عضو الأنثوي" بل يُغيّب ويُقصى كي يظل مستورا ومقبورا في باطن العالم التحتي الشيطاني حسب هذا المنظور.

لهولاء النحاة المعياريين, أقول سلفا إنّ اللغات الطبيعية مرنة ومنفتحة كفاية وتتجاوز كل تحجّر وإنغلاق الإ إذا كانت هذه اللغات قد ماتت وشَبعِت موتا واغتيالا. فقد تنقرض بعض اللغات الطبيعية كأي شيء في الطبيعة لأنها عنصر وجزء منها ولذا تخضع أيضا لمبدأ التطور الداروني (Darwin).

اللغة العربية كذلك تُذَهنِن او تُفَهمِن ( (conceptualizes الذات الإلهية/الربوبية بمقولات او كلّيات (categories) من حقل المعنى الذكوري على الأغلب. فلفظة "الله" في (اللغات) العربية هي أسم مذكّر والإستعارات التي يدور في فلكها اسم الجلالة الجامع معظمها تجوهر أستعارات من تصور العربية او العربي لمفهوم الرجولية بإمتياز. فهو الرب (السيد) والأب والراعي والملك والجبّار, القوي, القهّار والمهيّمن والخ. لكنّ تصور اللغات العربية للذات الإلهية تشمل أيضا جانبا أنثويا (او أموميا) متمثلا بصفات الكمال المركزية الرحمن والرحيم ("كتب الله على نفسه الرحمة") لأنّ مفهوم الرحمة مشتق من مفهوم الرحم الأنثوي (الأصل الإسمي) الذي يشكّل فضاءا أخلاقيا ومقدسا (متمثلا بضيافة الجنين الغريب في جسد الأم والوطن الفردوسي للبراءة الإنسانية الطفولية الذي يعادل الفردوس السماوي لآدم وحوّاء في رحم الله).

أنّ تسمية الذات الإلهية ب"الله" ليس صدفة من وجهة نظر الدلالة: تحلية الاسم "إله" بلام التعريف تحدّد فرادة (uniqueness) الدلالة (referent) وتفترض (presuppose) وجود الدلالة وتحمل مفهوم الإلفة (familiarity) مع الدلالة على صعيد الخطاب (discourse).

الملفت للنظر هنا من وجهة نظر صوتية هو أنّ لام جذر الاسم "إله" تلفظ بشكل إستثنائي بعد تحليته بلام التعريف وتختلف لفظها عن أي سياق آخر في لسان العرب. هذا المستوى الإستشنائي لاسم الذات الإلهية يتجوهر أيضا في الصيغة النحوية. فعادة لا تظهر لام التعريف في أسماء العلم (على الأقل في المبنى السطحي للاسم المركب) بلسان العرب, مما يجعل من المركب الإسمي "الله" خرقا لقواعد اللغة. من تدّعي أنّ اللام الاولى في لفظة "الله" هي جزء من الجذر الإسمي حتما ستستصعب تفسير الحقيقة اللسانية التالية: لو كان الأسم "الله" صيغة بسيطة بدون تحلية "ال" التعريف, لكان ممكنا أن نقول في لسان العرب "اللهي" مثلما نقول "ربي" او "إلهي" او "سميري" (سمير كإسم علم). لكنّ هذا غير ممكن قطعيا. لا أستبعد أن التسمية المُذكرة للذات الإلهية في لسان العرب بلفظة "الله" هي في الواقع إسقاط للتسمية المؤنثة كذوات الآلهة ما قبل الإسلام (مثل اللات والعزّة ومنى), خاصة لفظة "اللات" كتحريف ومحو وإقصاء وتغييب للأنثى/الأم في الوعي العقائدي الديني والحضاري.

السلطة السياسية الايديولوجية والدينية عادة تسعى لقلب الواقع عن طريق قلب اللغة كي تتطابق مع مصالحها ومنافعها. الصراع الفكري الايديولوجي يتجوهر في مستوى اللغة لأنّ اللغة تخلق الواقع وتمارس تشويهه وتحريفه الى حد "فَبْرَكته" أو إلغائه من خلال سلاح التسمية للأشياء والأفكار كما حدث (وسيحدث) في التاريخ في بلادنا وأماكن أخرى.

هذا "العنف الرمزي" على اللغة يصل حده الى أنه يحذر على متكلمي لسان العرب (خاصة المسلمين) أن يسمّوا أبنائهم بهذا الاسم بسبب قدسية الذات الإلهية الآحادية. هذا العنف الرمزي ليس مقصورا على لسان العرب في سياق تسمية الذات الإلهية.

اللغة العبرية مثلا تشير الى الذات الإلهية بإسم جمع "إلوهيم/אלוהים" للفظة المفردة "ايل/אל" وفي بعض المذاهب اليهودية تمارس عنفا على اللغة العبرية بتغيير الهاء الى كاف (فيلفظ عندها"إلوكيم/אלוקים") لتوكيد قدسية الذات الإلهية لدرجة أنّ اليهودي المؤمن لا يجوز له النطق بأسمه مباشرة حتى لا تُدنس قدسيّته.

كذلك اللغة الإنجليزية تستثني كتابة الإسم المفرد الذي يدل على الذات الإلهية بحرف كبير(Capital letter) بدل حرف صغير. لذا يكتب God بدلا من god ويُصّنف كإسم علم (proper name) لغويا رغم صورته كنكرة (indefinite) على السطح لانها تخلو من أداة التعريف "the"التي تقيّد عادة دلالة الإسم المفرد الى فرد او شيىء واحد. كل هذه الآليات اللغوية هي تعبير لتَرْميز التابو (Taboo encoding) في المبنى الذهني (conceptual scheme) للأنسانة او الإنسان.

اللغة العربية الفلسطينية تقدّم دعما واضحا للطرح بأنّ مفهوم المؤنث (او الأمومي) يكوّن مركبا أساسيا في عملية تصوير مفاهيم الحب والتماهي الوجداني والذات الإلهية. إنّ تركيب النداء الممثل في (1( وظاهرة تصغير المؤنث لأسماء العلم المذكرة والمؤنثة (كما هومُبيّن في (2)) وظاهرة تصغير المؤنث لاسماء العلم المذكرة والمؤنثة تُظهران بأنّ المحمول (predicate) "المؤنث" هو مركب أساسي في عملية تكوين الموقف الشعوري الإيجابي الذي يشمل العطف والحميمة والتماهي الوجداني.

(1) يمّه سمير تعال كلّ!

(2) بسّولة/باسل, كمّولة/كمال, سمّوره/سمير, صبّوره/صبري, عيّوده/عايده, فتّونه/فاتن, هدّول/هديل
حقيقة منادة الأم لإبنها بلفظة "يمّه" (أي منادة ذاتها) تعكس تماهيا كاملا مع الإبن وتجسّد مفهوم الإحتواء الذي يتمفصل مع مفهوم الحب. توجد هناك سياقات لسانية أخرى باللغة العربية الفلسطينية تُعزّز هذا الطرح. فكلمة "الله" وكلمة "يمّه" تعطي نفس الدلالة ساعة التلفظ بها في حالات التعجب والخوف والنشوة, كما هو مُمثّل في (3).

(3) ا. يا الله شو ما أحسنها
ب. يا يمّه شو ما أحسنها!
ج. يا الله د. يمّه
ه. اللاااااااااااااه
و. يمّااااااااااه

إنّ ظاهرة التأنيث والتذكير في اللغات العربية تمتد حتى الى ضمير المتكلمة او المتكلم المفرد "أنا". معظم لغات العالم لا يتصّرف فيها ضمير المتكلمة المفرد تذكيرا وتأنيثا. فاللغات العربية تُعبّر عن هذا الضمير بصيغة واحدة لأنّ سياق الحال يرفع اللبس عن دلالة الضمير عادة. ولكن بشكل غير متوقع اللغات العربية تُكوكِب الفاظا مثل "محسوبتَك و"محسوبَك" التي ترادف ضمير المتكلمة او المتكلم "أنا". تتجلّى بهذه الحقيقة اللغوية عمق التعالق المتبادل لعلاقة الأنا والأخرى ( أو الآخر أو الأخريان أو الآخرين) وبيان الإعتراف المتبادل الأخلاقي المتساوي. ففي الجملة
(4) محسوبتِك جابت ميّه بلِحساب
تشير المتكلمة الى ذاتها باستخدام اللفظة التي تحتم حضور ضمير المخاطبة المفرد المتصل (-ِكْ): الإشارة الى الذات تتواجد وتتجاور مع الإشارة الى الذات المخاطبة. هذه الحقيقة اللسانية في اللغات العربية كانت "ستحرج" الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت في تأملاته الفلسفية للبرهنة على الموقف الوجودي للفرداني ((The Solipsist ومنهجية الشّك في إشكالية وجود عالم خارجه في مقولته المشهورة (باللغة اللاتينية التي تجيز إضمار الفاعل المرفوع مثل اللغات العربية):
(6) cogito ergo sum ) أنا أفكر,إذا أنا موجود)
لإنّ نظير هذه الجملة لمقولة ديكارت يمكن ان تكون بالعربية الفلسطينية:
(7) محسوبتِك بتفكّر, إذا محسوبتِك موجوده
فمجرد الإشارة الى ذات المتكلمة تفرض وجود وحضور الذات المُخاطَبة بهذا السياق: نفي الذات المخاطبة (وقتلها رمزيا) معناه نفي مضاعف لذات المتكلمة (إنتحارا رمزيا إختياريا). ال"أنانية" وال"أنتانية" توأمان في رحم الوجود أبديا, بينما ال"هوانية" بعيدة كالمسافة بين الهو المطلق السماوي( لا اله إلا هو) والأنا والأنت الأرضيين النسبيين. هذا ما يفسّر عدم وجود الصيغة "مَحْسوبُه" او "مَحْسوبْها" في اللغة الفلسطينية بمعنى "أنا".

لا أبالغ كثيرا عندما أقول أنّ عددا هائلا من مُتكلمي اللغة العربية الفلسطينية في الجليل (اذا لم أقل في المحيط العربي كله) لا يدرك حقيقة أولية أزلية أنّ اللغة الطبيعية /الاصلية الاولى لاي إنسانة تتكلم بها وتفهم عباراتها هي بالضرورة تأتي من رحم المحيط الذي قذفت اليه بلا خيار ألا وهي لغة الأم-لغة البيت/الوطن. وهذا يعود الى موقف التسييس الايديولوجي لمفهوم اللغة الذي يطرّز أساطير الآلهة للحقيقة والمعنى الوجودي المُطمأنة بالخلاص والخلود. فلغة الأم عند كاتب هذه السطور مثلا هي اللغة العربية الفلسطينية الشمالية (في سخنين) وليست اللغة الكلاسيكية الميّتة, بمعنى أنّه لا يوجد في سخنين أي أنسانة تتكلم (او تعرف) هذه اللغة حتى فطاحلات اللغة العربية اللواتي إكتسبنها لا تُجدن التكلم بها تماما بشكل تلقائي/عفوي ومتواصل وحتى الاستاذات بينهن بامتياز (وهذا ينطبق على كل إنسانة على وجه الكرة الأرضية تعرف اللغة العربية). لا يمكن أن تفحص عالمة لسانية معطيات في لسان العرب لأنه لا يوجد هناك عرب كمتكلمين لهذه اللغة كلغة الأم ولذا لا يملكون الحدس اللساني (linguistic intuition). فامّي (رحمها اللة) لم تتكلم ولم تعرف اللغة العربية الفصحى على الإطلاق لانّها كانت أميّة وأجزم أنني لم أسمعها تنطق بحرف"الضاد" على الإطلاق على سبيل المثال (وأمثال أمي قد يكونون بالملايين في المحيط العربي). لكنها كانت تتكلم وتفهم اللغة العربية الفلسطينية الشمالية تماما. فمثلا اعتادت أن تناديني "يمّه تعال كلّ!" فهي عبارة حسنة السَبك والتأليف, بينما ما اعتادت ان تنادني بعبارة "يابا تعال كلّ!" فهي عبارة فاسدة كما كان الاب الروحي للنحو العربي القديم سيبويه سيطلق التوصيف عليها, لأنّ التماهي الأمومي العاطفي يُعبَر بلفظة "يمّه" في اللغة السخنينية في هذا السياق(بالعبرية الحديثة يُعبّر عن هذا الموقف بلفظة "مامي/ מאמי"(.

من المفارقات الكبرى هي أنّ أمي لا تُعتبَر عربية حسب منظور المنظّريين الايديولوجيين للأمّة والوطن الكبير. إنّ العرب هم الناطقون بحرف "الضاد". أي أنّ النطق ب"الضاد" كمعطى أوّلي يكوّن الشرط الضروري (مفهوميا او منطقيا او انطولوجيا) لهوية العربية القومية (, فكرة مستقاة من الفكر الماركسي للقومية). فمجرد التأمل بالسؤال "من هي عربيّة أو العربيّة بهذ الزمن؟" سيجلب حتما صداعا فكريا ليس بقليل. لذا أستغرب أنّ حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي يتزعمه الدكتور عزمي بشاره اختار الحرف "ض" كعلامة او ايقونة مميزة لعمق الانتماء القومي للعروبة والعرب من جهة, والوعي العمودي لكُنه الهوية الجمعية, من جهة أخرى. وإذا كان حرف "الضاد" يأطر مفهوم "ارض" فالسخاننة يقولون "أرِظ" وليس "أرض" بلغتهم الأم. حسب نظرية اللسانيات الحديثة, توجد مجموعة نهائية من الأصوات(phoneme) ولها تمثيل ذهني مجرد في العقل البشري واللغات الطبيعية تختار عددا محددا منها بشكل إعتباطي. فاللغة العربية الفلسطينية الشمالية لم تختار حرف الضاد في منظومتها الصوتية. إنّ مجرد إقصاء أمي (والملايين معها) من فضاء العرب (والعروبة) لهي واقعة او حقيقة تُخرِج المنظور السياسي الأخير من دائرة النظرية العلمية الحقّة لتّصور اللغوي (المعاصر). يكفي أن يكون هناك معطى واحد مضاد كي تفنّد او تُدحَض نظرية علمية على حد تعبير فيلسوف العِلم كارل بوبر (Popper).

من منظور علم اللسانيات الحديث, الذي يفترض وجود لغة واحدة, كل إنسانة هي بالضرورة مبدعة وتتميّز عن غير الكائنات الأخرى (في الطبيعة). اللغة الطبيعية هي فطرية ولها تمثيل مجرّد في دماغ/عقل الإنسانة وهي عضو جوّاني بيولوجي داخل دماغها كباقي الاعضاء في الجهاز البشري كاليد او كالِرجْل حسب هذا المنظور(نوعم تشومسكي). عندما تعرف إنسانة لغة طبيعية ما فهي تعرف حقائق لسانية كثيرة: حقائق صوتية, مقطعية, دلالية, صرفية ونظمية. ولكن هذه المعرفة مضمرة وباطنية ويتوجب على عالمة اللغات أن تستكشف وتفسر هذه المعارف. الطفلة السخنينية مثلا تعرف نحواللغة العربية الفلسطينية الشمالية دون أن تتعلمه من أحد. لا تتعلم الطفلة السخنينية نحو لغتها الأم في المدرسة ولا حتى في البيت. ففي جيل مبكر, تكوّن الطفلة وتبني نحو لغتها الام (كعالمة أصيلة) باطنيا ,متاثرة طبعا بالمعطيات اللغوية الأوّلية الفقيرة المُعرَضة اليها من محيطها المجاور. المَلكة اللغوية المتطوّرة عند الطفلة تجعلها مبدعة للعبارات اللغوية (بما في ذلك الإستعارية) لانّ المَلكة اللسانية المُولِدّّة موجودة فطريا بدماغها او عقلها; لذا نسمع الأطفال تنطق بعبارات لم تسمعها من قبل.

من "الف" أبجدية تراجيديا العقل هو أن الطفلة الفلسطينية السخنينية لا يمكنها أن تتعلّم بلغتها الأم لأنّه لا يوجد وعي عند مهندسي التربية والثقافة بأنّ هناك كائنا غريبا اسمه اللغة العربية الفلسطينية ولا يوجد أخصّائيون يمكن أن يأدوا هذا الدور السامي لسوء الحظ. فكم يا ترى تستطيع أو يستطيع أن تعلّم او يعلّم الطفلة الفلسطينية خصائص تركيب الافعال المتسلسة المذكرورة في (9) بلغتها الأم في المحيط العربي كله؟ وأذا كان هناك قلة قليلة, فستسأل الطفلة باستغراب لماذا.
(9) اُلِتْ لديانا ما تضربش أخوها, أجت قامت راحت ضربته
باعتقادي أنّ الحقيقة البديهية للعربية الفلسطينية التي يجب تذويتها هي أن تعرف أنّها تعرف أنّ لغة الام هي اللغة العربية الفلسطينية الاصيلة( معرفة من رتبة ثانية بلغة المنطق, second-order knowledge) لانها تمثل حرف "الالف" الاول للسير على درب أبجديات الوعي اللغوي المُمَفصَل بالفكر والمعرفة قبل الوعي المعرفي السقراطي الساخر لعدم معرفته للتعطّر في نزهة العارفات والعارفين يوما ما. فالوعي والإدراك اللغوي الحقيقي للغة الأم يجب ان يسبق الوعي للتوظيف السياسي الايديولوجي النفعي والانتهازي للغة الكلاسيكية البديلة (بإدعاء ضمان الوحدة للأمّة والعروبة والتصدّي للأجنبي المُستعمِر) لتحصيل مثاليات الهوية الجمعية وتحقيق "المقدّس" في ظلال العقل. اللجوء والتوجه الى القطرية (العربية الكلاسيكية) عقائديا وأيديولوجيا لا يجب أن يمر عبر إضطهاد وتهمييش المحلي (لغة الوطن).

سيظل عنف وإرهاب الذات الذكورية ضد الذات الأنثوية متجذّرا بنيويا, ينسف كلّ إمكان أرضيّ يؤدي الى أفق نور الإتحاد والوحدة مع الآخريات والآخرين من رحم مثال وحلم الأمّة السماوي الربوبي ما دام القتل الرمزي للأنثوي/والأمومي مُهيمنا في الفكر الذكوري وينزف فانتازيا ورومنسيات على القضيب المصلوب, إيروسيا الموت (الرمزي) الإختياري.

لقد إخترت الصيغة النحوية للعنوان الرئيسي للمقالة باسلوب يوحي مفهوم "التناقض" المنطقي لكي أزفّ للقارئة بعضا من جمالية التحليل اللساني. الملاحظة الأولى تتمثل باستعمال ضمير المتكلمة الجمع المضمر "نحن" في الجملة (10) يدل هذا الضمير على كل متكلمة تعرف اللغة العربية الفصحى تنطق بها ومجموعة بشرية أخرى ذات صلة في السياق المُحدّد (طبعا ,ممكن ان تحتوي المجموعة عضوة او عضوا آخر أذا كان القيد النعتي "الإثنان" يتلو الضمير, "نحن الإثنان").
(10) لا نعرف ما نعرف
ولكن إذا أنا سمير تلفظت بالجملة (10) وانا أقصد بالضمير"نحن" المضمر "نحن السخاننة" في كلتا الجملتين (الرئيسية والفرعية) مثلا فأنا أنسب الموقف اللامعرفي لمجموعة السخنينين التي تشملني كنائب عنها بصفتي المتكلم والقيمة الدلالية للجملة (11)
(11) ما نعرف
أي, معرفة أنّ لغة الام للسخنينيين هي اللغة العربية الفلسطينية الشمالية مثلا. السؤال المثير الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو :كيف يُعقل أن أنسب أنا لنفسي وللآخرين السخنينيين عدم معرفتا لمعرفتنا أنّ لغتنا الام في سخنين هي اللغة الفلسطينية بالرغم من أني اعرف أني أعرف أنّ القضية (proposition) هي حقيقية (true)؟ لا شك أنّ هذا الوضع يبدو مُحرجا بعض الشيىء على السطح وينبغي ان يُوّضَح أكثر. إنّ ضمير المتكلمة (او المتكلم) الجمع "نحن" (البارز او المضمر) باللغة يمكن أن يشير الى مجموعة بشرية دون أن يشمل دلالة المتكلمة او المتكلم الذي ينطق به. فقد أنطق بالجملة (12) امام طالباتي في صفّ أعلمه في الكلية وتكون قيمتها الدلالية عندها مجموعة الطالبات (والطلاب) في سياق مناسب بعد إمتحان ما دون أن تشملني أنا كدلالة على هذه المجموعة من الطالبات لأني لم أكن أحدى المُمتَحنات (او أحد الممتحنين) بل المُمتِحن (أنظري كذالك جملة "فوّتنا جول" تَنطق بها مشجّعة سخنينية لا تلعب بمباراة فريق كرة القدم لإتحاد أبناء سخنين, Palma 2004:58-60, Iyyun53))).
(12) كِيفْ عملنا بلِمتحان؟ (باللغة العربية الفلسطينية)
هذا التوضيح غير كافي إذا أقحمنا استعمال ضمير المتكلم الجمع "نحن" في السياق القرآني. ففي القرآن الكريم, يشير الله الى ذاته المتعالية تارة بعبارة "نحن" وتارة بعبارة "أنا" البارزة او المضمرة (والعبارات المرادفة في موضع النصب "إياي" و"-ني" "-ي" وموضع الجرّ "-ي" في مبنى الجملة النحوي ). بعد مسح السياقات المتعددة لهذا التنوع في إستعمال الإشارة الذاتية بالقرآن, توصل الكاتب الى أنّه لا يوجد مبدأ سببي يفسّر هذه الثنائية لغويا. يلجأ الله لاستعمال ضمير المتكلمة ام المتكلم "أنا" بحالات "حميمة ودية" مثل تكليم النبي موسى او النبي عيسى المسيح ابن مريم أو النبي محمد او الملائكة او آدم أو إبليس/الشيطان بدل إستعمال ضمير المتكلمة او المتكلم الجمع "نحن" (في حالة الرفع) المهيمن في القرآن عن الإشارة الى الذات الإلهية بعد أستعمال الضمير الثالث الغائب الأكثر شيوعا. أعتبر حقيقة أنّ الله يشير الى ذاته بالضمير الثالث الغائب "هو" بالقرآن غريبة جدا لدرجة أنّه لو تلفظ الله بالجملة (13) لما كانت دلالة الإسم "الله" في الجملة الرئيسية و دلالة ضمير المتكلمة او المتكلم المفرد "انا" في الجملة الفرعية هي نفسها لأنّ أسم العلم في أي لغة طبيعية يستحيل ان يحتل موضعا في مبنى الجملة النحوي أعلى من موضع ضمير المتكلم المفرد كما هو واضح في الجملة (14), حيث أنّ دلالة الأسم "سمير" لا يمكن أن تكون هي نفسها دلالة ضمير المتكلمة او المتكلم "أنا" حتى عندما أنا سمير أتلفظ بهذه الجملة. أسم العلم يمكن أن يقع في حيز ضمير المتكلمة او المتكلم المفرد "انا" وتكون دلالتهما مماثلة وليس العكس كما هو واضح مثلا في (15), حيث الإشارة "*" تعبر عن عدم إستقامة البناء في اللغة.
(13) يعتقد الله أنّه لا اله إلا أنا
(14) يعتقد سمير أنّه لا أحد إلا أنا يحب اللسانيات
(15) ا. أنا سمير أحّب اللسانيات ب.* سمير أنا أحب/يحّب اللسانيات
ب. أنا افكّر أنّ سميرا ليس شريرا د.* سمير يفكر أنّني أنا ليس شريرا
ربّ سائل يطرح السؤال (بفضول لا يقاوم): الى أي مجموعة يشير الله بنطقه لفظة "نحن" بالإضافة الى ذاته؟ كنت أتوقع أن تكون هذه المجموعة إما المؤمنين, وإما الملائكة او الإثنين او كل بني آدم والملائكة معا. لكن السياقات القرآنية التي يظهر هذا الضمير فيها لا تثبت ذالك بشكل قاطع. لا أستطيع أن أفترض أنّ لفظة "نحن" يمكن أن تشير الى الله ومجموعة ألهة أخرى لسبب بسيط وهو أنّه لا إله إلا الله حسب التصور القرآني للذات الإلهية. ربّ مجيب يرّد" يحق لله أن يتجاوز قواعد اللسان العربي لأنّه قادر على كل شيء او أنّ ألإنسان غير قادر على تحصيل معرفة وعلم حقائق كلام الله وأسراره (وهذا يشمل إستعمال ضمائر المتكلم) بسبب ماهية العقل الإنساني الذي يتميّز بمحدودية إمكان الفضاء المعرفي والعلمي." ردّ كهذا بالطبع لا يقنع أصحاب العقول ذات الطابع العلمي. أولا, ليس واضحا أنّ الذات الإلهية قادرة على كل شي. فمثلا, لا يقدر الله أن يخلق إلها آخرا يستطيع أن يقتله وأن يجلس على العرش مكانه ( اليس هو القائل "... وما كان معه من إله إذا لذهب كلُ اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحن الله عمّا يصفون" في سورة المؤمنون و"قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا" في صورة الإسراء و"إذا قضى أمرا فإنمّا يقول له, كن فيكون" في سورة مريم؟)

ثانيا, لا يقدر الله أن يكون غير قادر على كل شيىء. ثالثا, لا يقدر الله ان يكون إلا الله . رابعا, لا يقدر الله أن يخاطبني باللغة العربية الفلسطينية بالجملة المذكورة في (16) لأنّه سيدخل عندها بعلاقة حميمة على المستوى الإنساني معي وستسقط مقولة "ليس كمثله شيىء" القرآنية و تكسر الضدية المطلقة الله/الأنسان أو عدم الندّية مع أي شيىء في الأكوان جميعها حسب المنظور القرآني. اللفظة "محسوبك" تتطلب من المتكلمة او المتكلم أن تكون هي او هو بعلاقة غير رسمية و حميمة مع المخاطبة او المخاطب حتى يُحسن إستعمالها بالسياق المناسب. فأنا لا أستطيع مخاطبة الله بالجملة في (17) دون خرق هذا القيد للإستعمال.
(16) محسوبك أقرب إليه من حبل الوريد (..."ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" سورة ق)
(17) محسوبك بسافر برّه كل سنه
علاوة على ذلك, لو سمح الله لنفسه أن يتجاوز قواعد لسان العرب كما يشاء لكان هذا رهانا خاسرا من قبله لأن العرب عندها ستتشكك بعدم معرفته للسان العرب بشكل كافي. يمكن أن نتغلب على هذه "الإنسدادية" إذا إُفتُرِضَ أنّ القرآن هو كتاب بشري يصّور مفهوم الذات الإلهيه الممكنة في العقل (بالرغم أنّ حضور المفهوم المجرد الذهني بالعقل لا يضمن وجود دلالة ملموسة خارجة مثل التعبير الإسمي "جبل ذهبي") ولذا يوجد إحتمال (ولو بسيط) أن يكون بعض الإختراقات لمبدأ الإتساقConsistency) ) في عملية تأليفه لعجز الإنسانة الى تجنب الغلط بكل السياقات الممكنة بشكل مطلق .

أمّا بالنسبة لإستعمال الضمير "نحن" في الكتابة العلمية او الصحافية من قبل الكاتبة او الكاتب, فإنّه بالضرورة يشمل القارئات والقرّاء بشكل ضمني بالإضافة للإشارة لذات الكاتبة او الكاتب كتعبير عن تحييد مركزية التمحوّر حول الذات وعلى التواضع (, الوضع الذي لا يمكن تحقيقه إنسانيا, لأنّ المتواضعة تخفض من منزلتها حتى ترفعها الآخريات و الآخرون الى منزلة أكثر من الوضعية التي هي عليها في الحقيقة قيميّا), من جهة, وتجلي موقف حضور العقول الأخرى في عقل الكاتبة أو الكاتب كتعبير عن تقمص الأخريات والآخرين ( empathy attitude) أو لأن أي كاتبة لا تعقل الأمور على جزيرة بعيدة تحت شمس العلم الذاتي المحض, بل تسكن فكريا في بيت تتقاسمه مع عدد هائل من العقول الماضية والحاضرة, من جهة أخرى. منطقيا, إنّ مجرد مفهوم التضخيم والتفخيم والتعظيم والتعالي للذات المتكلمة باستعمال الضمير "نحن" يُفترَض ترفيع الفرد الواحد الى كلّ يشمل بالضرورة على "أنا مضخّمة" أكثر من واحد (ولو على الصعيد الباطني/اللاواعي).

فمفهوم "وحدة الوجود" عند بعض المتصوّفين العرب المسلمين كابن عربي (وشبينوزا) مثلا يُدخلون الكثرة اوالتعددية من الباب المنطقي الخلفي لوحدة الوجود (الإلهي). فأن يقول كذا متصوّف "أنا الله او الحق" بشكل صادق هو بالحقيقة تجّلى حالة الفناء والإستغراق المطلق في الله من وجهة نظره (لا أدري أذا كانت المتصوّفة رابعة العدوّية ستقول ذلك لأنّها كانت تعتبر الله عريس الكون).
خلاصة القول, لقد تجرأت في هذه المقالة أن أبدا بتفكيك بعض أصنام الآلهة الكثيرة لبناء فضاء بديل معقول لا يتحجّر ولا يتجمّد, لأنّ نيران الحقيقة تذوّب باستمرار جبال الثلج في القطب الشمالي للعقل التي تتراكم بكل شتاء اليقين العقائدي وتفتّت كل صلابة في صخور المعرفة والعلم الآني في باطن العقل. ها أنا أفتح كل الأبواب للنقاش والمحاورة على مصراعيها. فأمي وأمهات الوطن نفخن من أرواحهن فيّ بعض حروف المعقول اللطيفة والرحيمة وبلّغتها الأنثى الخلاّقة عند الظهيرة.


حيفا

التعليقات