"لا خير في الكرامة إذا لم تنبع من أعماق النفس"/ جريس بولس

-

"لا يكفي ان نُعْطي الكرامة من سلبتهم ظروف الحياة الكرامة .... وانما الكرامة شعورٌ عميق يجب ان تشعر به النفس في اعماقها".

يروي الشاعر المتنبي انه وقف يوماً على بائع البطيخ، وراحَ يساومه في الثمن، والبائع لا يكادُ يتزحزح عما أرادَ من ثمن بطيخهِ. والمتنبي يُمَنِّيه بانه سيشتري كمية كبيرة، وليس من يأخذ بالكبير كَمَنْ يأخذ بالصغير، وهو سيدفع الثمن نقداً، لا وعْداً. والبائع ثابت على طلبه، لا يعطيه من نفسه ولا منْ وجهه، بل يكاد يهش عليه بعصاه، لو ان له عصا!

وفي هذا الاثناء أقبل وجيه من وجهاء الحي، تتقطر الوجاهه من خديْه النضرين، ويلمع الجاهُ في عينيه الثاقبتين، فقام له البائع هاشَّا، باشَّاً، يتنقل من حركة الى حركة، علَّه يوفق في الحركة البليغة التي يعبر بها عن مدى أحترامه وخضوعه لهذا الوجيه.

سأله هذا الوجيه عن سعر البطيخ، فأعطاه السعر الذي يبيع به، فأستكثره الوجيه وقال له بصفة الآمر: اشتريت بكذا ... أرسِل الى البيت كذا! ويمضي الوجيه دون ان يختلج له جفن، والبائع لا يزال غارقاً في سكرات هذه الوجاهه، ثم يُعد له مطلبه، والمتنبي لا يزال حيث يستطيع ان يرى وان يسمع. فَحَزَّ في نفسه ان تخضع نفس البائع سعر ادنى مما هو أعطاه، وأباه عليه ... وهو، بعد ذلك، لم يقبض منه إلا الاماني.

حدَّث نفسه ان يمضي لسبيله وهو لا يدري: أيتالم لنَفسه، ام يتالم لهذا البائع الذي نزلت عليه الكارثه من حيث لا يحتسب، فعادَ اليه يحاول ان يغريه، فقال له:

ويحك، يا هذا كيف رضيت بما اعطاك؟

ومنعتني مع ما اعطيتك من زياده عليه؟

فأجابه البائع وفي عينيه ضحكة الاحتقار:

هل انت مثله؟ انه من الوجاهه والغنى فَوْق ما تتوهم!

فقال المتنبي:

ولكن، هل اصابك من غناه شيء؟ وهل أضْفَتْ عليك وجاهته حظّاً من الجاه والمال؟ ألم تكن صفقتك معي أربح لك منه؟

ومضى المتنبي يسْخر من هذه النفس التي لا تميز خيرها من شرّها، والبائع لا يزال يتمتم وراءه: - ومن انت حتى تضع نفسك موضع الشرفاء؟

انتهى المتنبي من هذا الموقف المؤلم إلى موقف للهزء والسخريه من هذه النفوس الضعيفة، والشخصيات الصغيرة، كيف يغلب عليها الوهم والضعف امام غيرها، لمجرد إنبهارها بالمظاهر، واعتقادها بضعف نفسها وقوة غيرها.

ولكن المتنبي – بهذه السخرية – قتل قصته مرتين، لان الامر لا يعالج بالسخريه، وانما ينظر الى جذوره الاجتماعية الفاسدة التي جعلت الناس منهم الاقوياء، ومنهم الضعفاء الذين لا حظَّ لهم من دنياهم إلا خدمة الاقوياء وتأمين مصالحهم، وليس الذنب عندي بذنب البائع الضعيف، لان اوهاماً اجتماعية موروثة استولت على قلبه، تمثل له انه وسواه من سواد الشعب مدينون بحياتهم وبقائهم ورزقهم لهذا الوجيه الكبير وامثاله. ولو كان يدري لادرك ان هذا الوجيه هو المدين لهذا العامل الحقير بما يملكه وما يكنزه. ولكن اوضاع المجتمع الفاسده هي التي خلقت هذه الطبقات الفاسدة.

ومن الطبيعي ان تبقى هذه الصورة التي لبثت في مدى العصور الصورة المثالية لمجتمعنا الذي حلَّل كل شيء لإرواء نهم النفوس التي لا تشبع، واشباع المطامع التي ليس لها حدود.

ولم يكن بالامكان ان تزول ملامح هذه الصورة التي تمثل الخضوع القانع، والاستسلام الذليل لمن نتوهم انهم من طينة اشرف من طينتنا في ظل تلك الاوضاع التي وَرثناها عن آبائنا وأجدادنا الذين عاشوا تحت نيرها عصوراً متطاوله.

ولا يمكن ان تزول هذه الصورة الراسخة إلا إذا هبَّت اعاصير شديدة تقتلع الجذور، قبل ان تهصر الاغصان اليابسة، وتقضي على عهد الوجاهات الزائفة، والامتيازات المتوارثة.

وهكذا نخلق مجتمعاً جديداً يعتز افراده بكيانهم وكرامتهم، مهما كانت منزلتهم الاجتماعيه، ومهما كانت مهنتهم المعاشيه، ويزهون بانهم افراد عاملون في هذا الوطن الذي هو وطن الجميع، لهم كرامتهم وشخصيتهم الابيَّة، لا يحنون رؤوسهم لاحد، ولا يستصغرون نفوسهم، ولا يستطيع احد ان يفرض عليهم عبودية من أي نوع، ولا يقدر احد ان يسلبهم اي حق من حقوق الحياة.

ولكن هنالك شيئاً لا يستطيع ان ينقذه قانون المساواة يعود الى طبيعة هذه النفوس التي لا يزال الخوف الموروث يغلب عليها، والضعف القديم يسيطر على نفسيتها ... ان عليها ان تشعر بشخصيتها، وتحترم من يبادلها الاحترام، وتحطم تلك الاسطورة التي جعلت من المجتمع مجتمع اسياد ومجتمع عبيد، وتؤمن بان عهد الوثنية قد ولَّى، حيث كان الجاه والغنى كالوثنية.


المحامي: جريس بولس
كفرياسيف



التعليقات