لماذا لا يكون شفيق الحوت "قائدًا رمزًا"؟!../ جوان ريناوي

-

لماذا لا يكون  شفيق الحوت
* كان بهي الطلعة بغير أيقونة و متأنقا بغير زي خاص،لا مدني ولا عسكري، لا ثوري ولا برجوازي، لا متقشف ولا مبهرج، لا قبعة ولا سترة ولا كوفية ولا أي شيء تحتفظ به الذاكرة المقطعة و المعلبة.. كان اللباس عنده مجرد لباس، لا يحمل أي معنىً في ذاته ومجرد عادة اجتماعية وحاجة يومية وممارسة جمالية، دون تكلف شعائري أو تعبير إيديولوجي!

** لم يعرف له الناس اسما حركيا، ولم يناده أحد بأبي فلان، إلا ما كان عليه "حقيقة" وجريا على عادة الناس في ريف فلسطين ومدنها، والشام وسائر جوارها ومجتمعاتها الأبوية، وحيث اعتاد الناس أن يسموا الرجل اشتقاقا من اسم ابنه البكر في الواقع، أو للدقة، اشتقاقا من أبوته لهذا الإبن حتى لو كان متخيلا أو بنتا أولى، وما تسمّى شفيق الحوت أبا "هادر" إلا بهذا المعنى، ولأن نجله البكر كان اسمه هكذا فعلا ولأنه استحسن التسمية!

ورغم "اتساع" حركة التحرر الوطني حتى الترهل، وتمددها في كل اتجاه، وقبولها للتعدد. "التوافقي" أو "التنوع" الرمزي وبالرغم من نزعة"المحاصصة" فيما سمي بـ "الثورة"(داخل المؤسسات وخارجها) ورغم النقدية المبدئية عند الراحل، ورغم تأسيسه لأحد الأطر الحركية، فلم يكترث بجمع فريق معارض حوله من المريدين العقائديين، يكنّونه بروح "الثورة" أو قلبها، أو عقلها، أو صقرها! ولا ما يشبه ذلك من ألقاب وطقوس وتقاليع، في نزعة شعائرية ألقت بظلالها على كل مجال، وكانت كفيلة بتحييد فاعلية أكبر المبدئيين في فترات الانحطاط العربي والتحول العالمي، وكرست قبول بعض الفئات الإيديولوجية الراديكالية العريقة، برمزيتها المجردة لاحقا، أو بدورها الرمزي فعلا على الأرض فور تغير الموازين، وتآكلت قدرتها حتى على المساهمة النقدية والتحليلية وشقت عليها مسألة الأخذ بموقف!

*** نأى بنفسه عن ثقافة الجماهير دون أن يقطع مع الناس، وابتعد عن تلك الثقافة وعن انتهازية تملقها وتملق مزاجها ومحاباة التخلف والجهل، من دون أن يتكبر عليها أو يدير ظهره لها، ومن دون أن يبني صورته الذاتية على ذلك الانقطاع والكبر أو يستمد منها شعوره بالأهمية.

**** كان بعض أكثر ما نهوى انتقاءه وتخيله عن"فلسطين"، كما كنا نريد لنخبتها ان تكون، والنقيض التام لكل ما أزعجنا وجوده في حركة التحرر الوطني وأحرجنا حضوره، وكل ما لم نفهم سلوكه،كان ابن يافا المدينة المتحفزة والمنارة واستمرارا لتلك "النخبة"المستنيرة، بمثقفيها وهواجسهم، أولئك المتورطين في قضايا شعبهم وفي السياسة ورطة لا رجعة فيها، وفي همومه وبما يعتبرونه موقفا صحيحا وقيمة جديرة، أو المتورطين مع ذواتهم الصعبة في النهاية، أو ذلك النوع من البشر الذين لو استعرنا من مفردات غرامشي المفكر الإيطالي، لأسميناهم "المثقفين العضويين"!

1 - لماذا لا يكون شفيق الحوت "قائدًا رمزًا"؟!
لأنه مناضل مستقيم حقًا، لكن بعيد عن التكلس، عقلاني في فهم الواقع بعيد عن الميتافيزيقية، رومانسي في الانتماء والالتزام المبدئي والشعور الأخلاقي بالواجب، نقدي حاد بعيد عن السجالية والديماغوغية وممتعض منها، خطيب مفوه بغير خطابية، ولأنه لم يؤسس جماعة طقوس ولا مصالح أو الاثنتين معا، ولأنه عاش ومات إنسانا حسيا ولم يختلق لنفسه صورة أسطورية ولم يعرف له أحد لقبا حركيا، ولأنه كان كبير النفس ذكيا وصاحب موقف، مثقفا مرهفا، مهذبا جريئا وابن شعبه وقضيته وعروبته، وابن جيل حركة التحرر العالمي المتفتح على الإنسانية من هذا الموقع، وعلى الناس بثقافتهم الجماهيرية، متمايزا جذريا عنها وذهنياً، واعيا لهذا الاختلاف لكن دون مجرد انقطاع شكلي أو نفسي أو تعصب شعائري، كبيرا بلا استعلاء، نخبويا من دون غرور النخب وعقدها وأمراضها وجوانبها المعتمة، لكن أيضا من دون خطاب شعبوي أو تملق انتهازي للجهل ومزاجه و بناء رصيد عليه؟؟!!

2 - لسنا طبعا في معرض البحث عن "حلول"فارغة من "ذاك النوع" واستبدال "رموز" برموز وشعائر بشعائر وليس هذا هو هدف السؤال، لكنها مجرد لفتة.. إحالة نحو الجوانب الصنمية في ثقافتنا "الحديثة"و الغيبية وعادتنا البليدة والبعيدة عن العقلانية والتي لا تستوقفنا لحظة كي نتفحصها مجددا !!

3 - فانتازيا/جنون:

لكن حتى لو كان السياسي إنسانًا في سمات شفيق الحوت، ومناقبه، لما كان هذا عند "اللزوم" سيعفيه من انحطاط بعض الانتهازيين وقت تحين اللحظة ويعفينا من شر سماع صوتهم ومن "جرأة" بعض الجبناء بمعنى تجرئهم، ومدى استعدادهم للتطاول وقطع أبعد الحدود!

ومع أن المناسبة مربكة والساعة ساعة فقدان، فسألتمس من القارئ عذرا واسمح لنفسي بتخيل حالة خارجة عن النص وخارجة عن الواقع، حيث لن يتورع فيها بعض الأفاقين عن تلفيق صورة مشوهة للرجل (وأي شخص سواه) ولو همسا وبالغمز واللمز، مجَمِّعين ما يزعمون أنها "تناقضات" من هنا وهناك وبعض "الوقائع" المجتزأة ومقطوعة السياق، فور إحساسهم بتهديده لأوضاعهم القائمة (أو القاعدة على الصدور)، فهذا خط احمر في عرفهم.. لكنه سيناريو لن يقع غالبا بعد اليوم، فالرجل لن يهدد مواقعهم، ولن يشعروا بأنه يزاحم، مثلما لم يفعل ذلك في السابق أصلا... وعلى العكس، فلا تستغربوا لو وجدتم بعض المنافقين إذا تمكنوا، لا يترددون في توظيف ذكراه المتمردة والمختلفة لصالح واقعهم البائس، أو يحاولون القيام بذلك ما استطاعوا إليه سبيلا، ومن حسن حظنا أنهم في حالة شفيق الحوت لن يفلحوا!

كبيرا رحل شفيق الحوت، كبيرا حقيقيا في زمان الصغار المتكبرين والمستكبرين، ومتواضعا عميقا في زمن الوضيعين المزهوين، المستفيدين من الحداثة زيادة عمن سبقوهم، بدلا من أن تحدّهم مثلما كان بعض المعولين عيها وحدها يرجو أن يكون، أو قل، رحل في أيام المزدهرين بتشوهات الحداثة وآفاتها أكثر من أي وقت مضى.

التعليقات