وإذا الموؤودة سئلت..(2) / د. الياس عطا الله

وإذا الموؤودة سئلت..(2) / د. الياس عطا الله
علمتُ من مصدر رفيع المستوى- بلغة أهل الإعلام والسّاسة-، موثوق به، أنّ أهل «إبطن» يستعملون الفعل برواية أخرى: "يفتصل"، على أنّها من الفعل فصل المصوغ على «افتعل»، ولعلّهم يعنون بهذا أن يُترَك المخاطب وحده ليفصل في الأمور، قبولا أو رفضا، ورغم موثوقيّة المصدر، رأيت أن أكون أكاديميّا موثوقا به، فحاولت الرجوع غير مرّة إلى زميلة قرمانيّة إبطنيّة مسقط الرأس، حيفاويّة مدعس القدم، مقلّدا شيوخي الكبار كالخليل والكسائيّ وسيبويه في رحلتهم انتجاعا للمعرفة- كان العرب يرحلون لغير انتجاع الكلأ والمرعى، فهل سنخلص يوما من هيمنة هذا الكليشيه على كتب تاريخنا؟- من مصادرها الأوّليّة؛ الأعراب الفصحاء.
ومهما يكن من أمر، ولأنّني لم أصل إلى مضارب الأعراب، ولم يستقبلني إلاّ مِجواب آليّ على غير عادة العرب، وبعد أن تيقنت أنّ «القوم» غدوا وأبكروا، وأنّ موعد تسليم المقالة قد أزف، قرّرت الاعتماد على مصداقيّة مصدري، وهو ممّن ترضى عربيّته، موقنًا أنّ يصطفل التي أوردتُها أكثر إحكاما، وأوسع سيرورة، فهي من معجميّة الشام بمفهومه/ ا الجغرافيّ الواسع، لا السّياسيّ الراهن، ولنا أن نحمل الروايتين على الاشتقاق من جذرين مختلفين، أو على التّبادل المكاني في موضع الحروف، وهو أمر معروف على صعيد اللغة بمستوييها، وعلى صعيد اللهجات، وعلى ألسنة الأطفال.
لا شكّ في أنّ مبحث التبادل المكاني في الحروف ( metathesis)، من المباحث الشائقة على صعيد اللغة، وفي كلّ مستوياتها، فالتبديل الطفوليّ في لغة الأطفال محبّب، فـ « الْمُنُكْسِة» ترسم بسمة على الشفتين وتدغدغ القلب، وتظلّ أكثر غنجا ونقاء من «المكنسة» المختصّة بالكبار بما فيهم من جلافة وبعد عن البراءة... وفي كلّ عائلة، معجميّة خاصّة لهذه المقلوبات، يردّدها الأطفال، وينتشي لها الوالدون... وكالعادة يكبر الملائكة الشياطين، وتستقيم ألسنتهم، وترصف أحرفهم، وتزول المقلوبات، لتبقى العائلة مع مقلوبة الباذنجان، أو القُنَّبيط ( القرنبيط) أو الفول... أو مع الدنيا المقلوبة المشقلبة. وعلى صعيد اللهجات، ما زلنا نسمع عيّنات من هذا التبـديل: جضّة بدلا من ضـجّة، معـلقة بـدلا من ملعقة... وقد تنـدرج هذه المقلـوبات في ظاهرة ألسـنيّة يعرفـها الغـربـيّون من علمـاء اللغة باسـم السـبونريّة ( Spoonerism) نسبة إلى الأب الدكتور وليام أركيبولد سبونر ( Rev. William Archibald Spooner: 1844-1930 ) البريطانيّ الأنجليكانيّ الأبهق ( المصاب بالبُهاق، وهو مرض أو فشل عضويّ ناجم عن نقص في صبغيّات الجلد، ونعرفه «بالعربيّة الفصحى» باسم albino) المحاضر والعميد فيNew College - أوكسفورد، والّذي نُقِلت عنه مجموعة من الجمل التي حصل فيها تبادل أحرف بين كلماتها، لا في الكلمة الواحدة، كما هو الحال في المنكسة والمكنسة، وبعض هذه السبونريّات جاء تلقائيّا أثناء مواعظه ومحاضراته، نتيجة لسرعة في الكلام، وكمّ السبونريّات المنسوب إليه مختلف فيه، والظاهر أنّ بعضًا منه من الزائف المنسوب، خاصّة بعد أن فقدت الظاهرة براءة طفولتها، وانتقلت إلى لابراءة الكبار، حتى صارت نوعا من التلاعب المتعمّد في الألفاظ، وصارت « أخطاء» مقصودة، وحين يُتحدّث عن السبونريّة، والتي تنمّ عن ذكاء وقدرة لغويّة، يقصدون على الغالب هذه الظاهرة المتعمّدة، ومن سبونريّاته المردّدة في المعاجم الألسنيّة، والمصادر المختصّة:
Is the bean dizzy?) هل الفاصوليا مصابة بالدّوار أو الغثيان) بدلا من : is the dean busy?) هل العميد/ الكاهن مشغول) و-:
It is kisstomary to cuss the bride( to cuss تعني يلعن أو يشتم، أمّا kisstomary فلا تحمل دلالة) بدلا من: it is customary to kiss the bride) من المعتاد أو المتّبع تقبيل العروس)... وتتراوح هذه المقولات السبونريّة عددا، متوزّعة بين التلقائيّة الصادقة، والتعمّد الموظّف، ولعلّه من باب التلقائيّة ما نسمعه من بعض المعارف المتّصفين بهذا القلب، نحو: « ... تنساش تجيب نِكْنِه وجَبْنِيكْ» بدلا من «جبنة ونكنيك»، أو «رْوَاقْتَكْ سَايْقَة» بدلا من « سواقتك رايقة». أمّا مقولة أحد الأصدقاء في التعقيب على دعوة للاجتماع في غرفة المعلّمين: «ضارٌّ وهُموميٌّ»، بدلا من «حضورك هامٌّ وضروريٌّ»، فإنّها من المتعمَّد الحامل للنقد الذكيّ الطريف، ناهيك عن أنّها أوسع من السبونريّة، حيث تغيّرت الكلمة برمّتها، مع حفاظ على البنية والإيقاع. غنيّ عن الذكر، أنّ السبونريّة ظاهرة نطقيّة، وحقيقة تحوّلها إلى مبحث كتابي مع سبق الإصرار، تعرّيها من براءتها، وتدمجها في موضوعة ما من مباحث البلاغة.

إعْمَص وبِتْجَعْمَصْ
هذه مقولة أهلنا في من كان قميئا لا قيمة له ويختال متكبّرا، أو في من عليه أن ينزوي من نقيصة ولكنّه ينافس في التصدّر. والعَمَسُ في اللغة كالعَمَش، وهو ضعف في البصر مصحوب بسيلان الدمع، والغَمَصُ قذًى في العين يسيل أو يجفّ( أنظر أوصاف العين وما يصيبها من أدواء وأقذاء في المخصّص لابن سيده: 1: 105- 11)، ومن عمس هذه، أخذ أهلنا عمص مفخّمين السين بقلبها صادا، فتولّدت الأعمص، أو أنّهم أخذوها من الغمص، معاقبين بين العين والغين، والأسلوبان كلاهما مأنوسان في العربيّة الفصيحة وفي اللهجات... وهذا الذي يسيل القذى من عينيه، نراه، بدلا من أن يخفيَ ما في عينيه من قبح، يبرز متكبّرا! والتجعمص بدلالة التكبّر والبروز والاختيال، إبداع عاميّ مموسق لا تعرفه الفصيحة، وظاهرة العمص، وحدها، مكروهة منفّرة، وكذا المتجعمصون، فكيف إذا اجتمعت النقيصتان معا؟ وما أصدق لغتنا المحكيّة وهي ترسم بالكلمات هذه الأنواع من المخلوقات شاملة في التصوير المسخيّ ردّة الفعل المتقزّزة، وعليه، ما وقفت إبداعاتها عند الاعمص اللي بتجعمص، بل رأيناها تتناول الأمر من زاوية تصوير أخرى: قِرِف وبتمقرَفْ، ملفوظة بقلب القاف همزة، أو كافا، وإن كانت هذه تتناغم من حيث البِنية مع سابقتها، فإنّ الإبداع المثقل بالبلاغة يتقافز من قولهم: " شَخّاخَة وِلْبَاسْها قُطُنْ"، أو " بِتَّرّسْ وْبِتْنَامْ بِالنُّصّْ"... ولو كان ابن رشيق والعسكريّ في عصرنا لأدرجا الصّورتين في العمدة وكتاب الصّناعتين! وعلى صعيد المفردة في هاتين «اللوحتين» فلا شيء من المبهم، وإن كان الشّخّ أصلا في البول يرسل بعيدا مع صوت، وفي بعض قرانا وسّعوا دلالته ليشمل البرازَ أيضا، وفي بعضها، خصّوه بالبراز فقط، أما ترّس بمعنى بالَ، والتي جعلوها خاصّة بالتبويل في الفراش، فلم أقف لها على أصل أو فصل، إذ لا علاقة لها بالأثل العربيّ ترس أو بصنوه طرس، ولا علاقة لها بكلمة تَرَس التي نستعملها نوعا من الشتيمة بمعنى الدّيّوث ( الدّيّوس) النّذل، وهو من لا كرامة عنده، ولا يحافظ على عرضه، فهذه من التركيّة.

ما إلُه لا شَبَقْ ولا عَبَقْ
« ما إلُه لا شبقْ ولا عبقْ»، أي «لا ناقة له في الأمر ولا جمل»، كما تروي لغتنا صحراويّة المولد، ولست بصدد المفاضلة بين القولين، ورغم أنّ الجِمال والنّياق أصبحت من الحيوانات النادرة في بلدنا، إلا أنّني ومن كبرني سنًّا، ومن ولد بعدي، أدركنا الجمال والجمّالين في قرانا، أمّا اليوم، وقد تغيّرت الأحوال، فما عدنا نلتقي بناقة أو بجمل أو جمّال إلاّ في أغانينا الشعبيّة، أو في مواطن مَعْلَمِيَّة شرقيّة يتصّور معها السيّاح في منطقة الأهرام، أو غيرها من العواصم العربيّة، التي نسمع عنها دون أن نراها... ومسكينة هي النّاقة، عروس شعر العربيّ لقرون طويلة، ومسكين هو الجمل، رفيقه وسنده في صحرائه... أوَلا تقول أمّهاتنا حتى اليوم» يا جملي»! ويظلّ التأثيل الشعبيّ ساحرا في هذا المقام، على مجانبته للأصول الأكاديميّة، حيث قيلَ إنّ العرب اشتقّت الأناقةَ منَ النّاقةِ والجَمالَ منَ الجــَمَلِ!
ومن لا ناقة له في الأمر ولا جمل، ومن لا شبق له ولا عبق، هو من لا علاقة له بالأمر من قريب أو بعيد، أو هو بريء منه، لا شأنَ له به، أو أنّه ليس ممّا يعنى به أو يثيره أو يشدّ اهتمامه. لا تسعفنا الشّبق ولا العبق الفصيحتان في الوصول بيسرٍ إلى ما وراء المقولة، فالأمر يحتاج إلى الكثير من التأويل واستخدام الحسّ البلاغيّ، فإن كان العبق هو رائحة الشيء التي تفيح/ تفوح وتنتشر وتلصق بالأجسام،كرائحة الطيوب ( وليست وقفا على الرائحة الزكيّة)، فإنّنا نقول في محكيّتنا: "فلان ما فيه ريحة الأدمنة"، مستعملين الرائحة هذه بمعنى الأثر أو العلاقة أو الصّلة، وعلى هذا قد يتّضح استعمال أهلنا لـ «ولا عبق» بعـدم وجود العلاقة أو الصلة، ونظلّ في إطار الاجتهاد محاولين الربط بين العبقِ الرائحةِ العلاقةِ الطِّيبِ، وبين الشّبق، وهو ما لسنا بحاجة إلى شرحه لعلاقته باشتداد الشهوة إلى النكاح والغلمة والجنس، وهي من الغريزيّات البدهيّات المعروفات، فهل العبق يثير الشبق؟ لا أشكّ في الأمر، ومع العبق تُستفَزُّ العناية والاهتمام والعلاقة، فتصبح ذا علاقة «لك شبق وعبق» في الأمر، وكــم كان الزّمخشريّ ذوّاقة وهو يورد في أساس البلاغة في مادّة «عبق»، أنّه عبق الطيبِ، والمرأة العبِقة من تطيّبت بأدنى طيبٍ فلم تذهب عنها ريحه أيّامًا، أمّا في مادّة «شـــبق»، فلا يذكر إلا الكلـــمات التالية: « تخرجُ المرأة تَفــِلَةً( أي متطيّبة)، فإنّ العبَقَ يهيّجُ الشّبقَ»... وعلى ما يتّسم به هذا المعجم من إيجاز، فإنّه يعتمد الدّلالات المجازيّة البلاغيّة، ولعلّه بهذا يزيح الكثير من الغبار عن قولنا» ما إله لا شبق ولا عبق»... ولَكَمْ كان الزمخشريّ صاحـب القول الفصل، لا على صعيد المعجميّة فحسب، بل على صعيد قواعد العربيّة وبخـاصّة في المفصّل.

التعليقات