وإذا الموؤودة سئلت...(6)/د.إلياس عطا الله

_

وإذا الموؤودة سئلت...(6)/د.إلياس عطا الله
في المقهى، خارج أحد مباني جامعة حيفا، حيث يُسمحُ بالتدخين جلست. طلبت كؤيسَةً من الإسبرسّو، فقد تجشّمتُ أهوالَ (من عبارات الإنشاء المأثورة، ولا مكان لها في السّياق... ومتى كان السّياق مهمّا؟) النزولِ بالمصعد من الطّابق الخامس عشر حتى المقهى للوصول إليها، وارتشافها، ولو كان التدخين مُباحا في الطابق الخامس عشر من البرج المخترق سماء الكرمل، لكنتُ كَرَعْتُها (1) في ثانية، أمّا في المقهى فلك أن تتمزمز وتنفث دخان سجائرك نصف ساعة أو أكثر... مفهوم الزمن مختلف، كاختلافه عند غيري ممّن جلس إلى المائدة المجاورة منتظرا ساعة الامتحان، حشدٌ من الطالبات والطلاب، بين واقف وقاعد، وساعة الدخول إلى قاعة الامتحان قد أزِفَتْ، تململتْ إحداهنّ، وقالت لزميلتها وهي مهرولة:
- بخييخ (هكذا، مش بحييخ، ووالله بنقل حرفيّ)، تنسيش تصوريلي المَأمَارْ من الشّـمُوريمْ، أنا مســتعجلة.
- بسيدر، بهَتْسْلَخَا.
وتابع البقيّة دردشتهم- " تْشاتَهُم":
- حَطّوا العلامات على لُوَاحِ المُودَعُوتْ؟
- آه، الحمد لله!
- كيف، عـَڤَرْتَ؟
- شْمُونِيمْ فِأرْبَعْ، هَمّ وانزاح عن ضهري، ما عاد عليّ إلا السّمِنَرْيُونْ.
- صبابا (2). أنا بعد عندي العَـڤُودَاه وشْتِي بْخِينُوتْ بمُوعِدْ آلِفْ، وبضلّوا اثنين، التّحبير والمـَڤُو.
- وكنت أدّمهن إسّا! كنت إخلَصْ من المـَڤُو!
- هَلـْڤاي! في هِتْنَ?شُوتْ، امتحان السّفْرُوتْ وامتحان المـَڤُو في نفس الوقت، والسّفروت أهون عليّ، هذاك بدّو هِتْكُونِنُوتْ لألّه. (يعني شي زي الاستنفار القومي).
- ووينتا مُوعِدْ بِيتْ؟
- كمان شهر، بس عندي شغل، بدنا شويّة مصاري، إيـ?َاشْ لَمُوعِدْ مِيُوخَدْ، وبجيب إشُورْ رِفُوئِي.
- شو بدّك من هالشغله، الإشُورْ يمكن ما يقبلوه، في المَزْكِيرُوتْ عم بشدّدوا، خلّص وارتاح.
- يا زلمي بقوللك بدي مصاري، وفي شغلة منيحه، مش كلّ يوم مِزْدَمِنِتْ... بسّ شو أعمل؟ مُوخْراخْ.
ويرنّ الخلويّ. ينظر صاحبه في الشاشة الصغيرة، والظاهر أنّه ما تعرّف إلى الرقم.
- آلو، مِي مِدَبِرْ؟
...
- آه أحمد. ولك ما عرفت صوتك، يمكن لِكْلِيطَا عندي مش منيحة، أو عشان التَّحَنَاه... هَمُونْ رَاعَشْ.
...
- علّي صوتك شوي؟
...
- الإمتحان بعد نصّ سيعة، آلْ تِأَخِر... بستنّاك حدّ الْمُوزِيؤُونْ. باي. لِهِتْرَؤُوتْ.
وانتهت المكالمة.
- نُوْ شباب، نمشي؟
- يللا.
- لوين يللا؟ قالها رياض المقبل نحوهم ووجهه يقطر سمّا.
- مالك؟
- اولاد الستّين... صَنْدَلُولِي (5) السيّارة.
- مْعوَّدْ، بدكاش توقّف إلا في خَنْيُونِ المَرْتسِيمْ، يللا، إنزل وادفع؟
- بحياة أبوك، مش ناقصني إلا برودة أعصابك، يعني وين بدّك أوقّف؟ عند عسفيا؟
تركتُ المكان، مشبعا حتّى التّخمة، عائدا إلى الطابق الخامس عشر في البرج الّذي هو المِـ?ْدَالْ، فقد حان موعد جلستي مع أحد الزملاء.
أنهيت عملي. نزلت إلى موقف السيّارات قبالة الطابق الرابع. راودتني نفسي، والنفس دنيّة، بكرع الإسبرسو من جديد... الطلاب والطالبات مكتظّون زرافاتٍ زرافات، وأزواجًا أزواجا- ما عاد هناك "أفرادًا أفرادا أو فرداتٍ فردات"-... ينتظرون عند محطّات الحافلات... تسمع نتفة من الألفاظ العربيّة، وسيلا مجتاحًا من العبريّة- ناقصْنا اجتياحات!؟-، واللّكنات متباينات، تسودها اللكنة العـبريّة الإشكنازيّة الغـربيّة، ولا يعنـي هـذا وجود يهـود من "الشِّكناز" بالضــرورة، هي لكـنة بعـض الطلـبة العـرب المتحدّثين بالعـربيّة الهجـين، تفضــحها اللثغات المغـالية في خائيّة الحاء، وهمزيّة العين، وغائيّة الرّاء... وبكلّ السّذاجة أو البراءة أو الظّلّيّة، انتصــرنا على الســفاراديم، أو تململ فينا ما دَبِقَ في الذّاكــرةِ من كـونهم رعايانا أيّام العـزّ... ونسـينا أنّنا الرعايا الآن.
تعمّدت ألا أسمع، ودخلت في حالة من الشرود... ومرّ قُدّامَ عينيّ ( = أمام ناظريّ، بلغتنا حين كتبنا الإنشاء) الشريط القبيح الهاجعُ فيّ؛ كم من الثياب ستعود لتغطي ما تعرّى من صدور وصرر بعضهنّ قُبيلَ وصولهنّ إلى مشارف القرى! أو حتّى، من باب الحيطة و"الاحتشام"، قبل أن تدعس(6) القدم على درجة "الباص"! وكم من التأتأة ستتسيّد على الألسنة المُفْصِحَة المُبلِغة المُبينَة بالعبرية! ولا أدري والله أيّ الظاهرتين أشدّ خطرا، هذه اللّقمطة؟ أم تلك التي تناولت جانبا منها في موضوعة اللّغمطة؟ (7) أوليست الظاهرتان زيفا؟ ولئن كانت المساحيق والتبرّج إفراطا في التّجمّل لغايات لا تعنيني، أو سترا لبعض العيوب الخَلْقيّة (ولا أدرجُ هذه الأخيرة في التبرّج، وما كنت لأعنى بالظاهرة أصلا لو كان التزيّن لمساتٍ من الجمال)، فإنّ هذه، أي اللغة، تزييف للخُلق والذّات والهويّة والانتماء، إنّها ببساطة، أن تخرج من جلدك وتصير الآخر أو تذوب فيه دونما عشق أو فناء صوفيّ... هي في معجميّة عشّاق المصطلحات الطنّانة الفاقعة ?وست ?وست ?وست تعدّدّيّة ثقافيّة، يعني ما بعد بعد بعد المالتيكلتشراليزم. ورحم الله أبا فهيم، أحد رجال قريتي الطيّبين، والّذي ما اكتفى بكلمة "دِين" واحدة أثناء التشقيع (8) لفلان أو فلانة، بل زخّت منه " الدّينات": " يحرق دين دين دين دين... "- ولك أن تكمل العدَّ، مقدورَك- إلى أن يصل إلى "محروق الدّين" الّذي أغاظــــه.
أأفعل فعلة أبي فهيم رحمه الله؟ حزنت، وأشفقت على نفسي وعلى لغتي... وعلى أجيال هي معقد الآمال... يُقال.

1- وأيش ناقصها؟ لازم جَرَعَ؟
2- هذه بلفظها وإملائها عبريّة، وليس لها علاقة بالصّبّ وليله وغده، أو الصّبابة العربيّتين، أخذناها عن أبناء عمّنا اليهود يوم صَادَرْنَا تراثهم الحضاري كالمجدّرة والفلافل والخُمُصْ الأخلى واللبنة والكباب والكبّة والزعتر والأفَرْسِكْ (3)... ويوم سَطَوْنا على أحْفَاضِهِم (4)، كالمنـ?ل والطابون والطاولة والجرّة والزّفت... ولكم أن تقحموا هذه الأسلوبيّة في جنس جديد من السبونريّة.
3- الأفَرْسِكْ: نوع من الخوخ. نستعمل الصيغة العبريّة هذه، ونترك الصيغة العربيّة »الفِرْسِك«، والصّيغتان مقترضتان من اليونانيّة، وهي بمعنى الإجاصِ أيضا. وأوردت المعجمات وبعض كتب اللغة نوعا آخر من الخوخ هو الدُّراقِن، نستعمله بصيغة الدُّرَّاق. والدّراقن من أصل يونانيّ كما يرى بعضهم.
4- الأحْفَاضُ: متاعُ البيت. ومفردها حَفَضٌ. استعملها عمرو بن كلثوم في معلّقته الشهيرة:
ونحـــنُ، إذا عمادُ الحيِّ خَرَّتْ على الأحْفـَاضِ، نمنعُ مَن يلـينا
وتندرج الكلمة في الموؤودات على ألسنتنا وفي كتابتنا، فهي من الغريب الصعب، أمّا חפצים-חפץ العبريّتان، فدورانهما على اللسان أو على الأوراق أسهل وأسلس، رغم التقائهما معنا في كوننا جميعا חשודים!
5- الصِّندول/ السِّندول، هو تقييد أحد أطر/ عجلات السيّارة بقيد حديديّ، وكنت اقترحت لها مقابلا عربيّا هو »الشّكال«، وهي فصيحة معروفة، مستمدّة من شَكْل الدّابّة أي تقييدها بحبل يربط بين اثنتين من قوائمها لتمنع حركتها وهربها. ومنها ما أورده المتنبي في مدحيّته لبدر بن عمّار، حين وصف الأسد، قال:
قصــرَتْ مخافتُه الخُطى فكأنّما ركبَ الكميُّ جوادَهُ مشــــكولا
ومنها سمّى النحويّون وضع الحركات والسّكنات والضّوابط على الكلمات شكلا أو تشكيلا.
6- فصيحة والله!
7- توليد عاميّ منحوت من جذرين فصيحين: لغط+ غمط، وفي الأولى معنى الاختلاط والجلبة، وفي الثانية معنى الستر والترقيع.
8- وهو أن تسيل الشتيمة نازلة من فمك على المشتوم، كما يشقع الماء بغزارة ويتحدّر في الأرض، وإن كان الأثل/ الجذر العربيّ »شقع« مُمَاتًا في هذه الدّلالة، إذ لم يرد إلا بمعنى شرب الماء أو كرعه، وربطها بالدّلالة التي نحن بصددها يحتاج إلى تأويل وتخريج غير مردودين، فمقابلُهُ السّريانيّ والعبريّ ما زال حيّا، قارن بـ: שקע.
أوَلا يعدّ هذا » (إ)شِي بطَيّرْ ضَبَانِ العَقِل«، أو » بمَخْولْ«؟
أمّا كيف أصبح العقل حذاءً، وكيف صرنا بحاجة إلى التّسرير ( = אשפוז)، فسنوضح في لقاء آتٍ.
وللقرّاء الأعزاء، ولحنّا النّور، وحنّا أبو حنّا، وحنّا جبران- ما شاء الله كلّهم حنّات، وأجمعها قياسا، مبتعدا عمدا عن جمع المذكر السّالم ذي الدّلالة غير المرادة- أن » تِتْنَيّعِ فْلاخْهُم« من الضّحك، بالسبونريّة... أو من القنوط... تبّا! لمن نعلّم العربيّة واللسانيّات؟ شيء ما معطوب... أم أنّ لكم رأيا آخر؟

التعليقات