طائر الحكي يلتقط حبوب المشكلة، أنوار سرحان والازدواج الكرنفالي- 3\3/ حسام حسين عبد العزيز

أنوار سرحان والازدواج الكرنفالي- 3\3

طائر الحكي يلتقط حبوب المشكلة،  أنوار سرحان والازدواج الكرنفالي- 3\3/ حسام حسين عبد العزيز

لا أدّعي النجابة، لكن يقيني الشخصي، أنني إذا فكرت في تنحية هوية صاحبة الإبداع من حساباتي؛ فلسوف أذهب إما لكونها مهمومة بالقضية، أو منتمية لها بالكلية، وفي الحالتين ومن منظور علم الاجتماع، سوف أشهد لها بأن مقولة الوعي الاجتماعي حاضرة بشكل مخيف إذا جاز التعبير.

ودون التورط في مصطلحات ربما تعوق ما نريد قوله هنا، فالوعي الاجتماعي في أبسط  تعريفاته هو إيمان الفرد بدوره وأفكاره،  وطرق تحقيق هذا الدور وفقًا لطبيعة نظم المجتمع الذي ينتمي له، ومن خلال فهم طبيعته ونظمه على الدرجة نفسها.

 

مما لاشك فيه، أن إشكالية هذا الوعي الاجتماعي أنها الضد الحاسم لمعنى الاغتراب، الذي يتحقق نتيجة لغياب هذا الوعي المشار إليه، وللعديد من الأسباب، كانعدام القوة وفقدان المعيارية وغيرها من جملة الأسباب الكثيرة التي حددها"سيمان".

إذا أثبتنا من خلال قراءة مجمعة لقصص "أنوار سرحان" حضور هذا الوعي، واستندنا إلى العديد من المفاتيح التي تؤيد وجوده، والتي سنمرّ عليها على كل حال، فإن هذا لا يمنعنا، كوننا نقرأ أعمالا أدبية في الأساس أن نسأل. هل كانت كلّ القصص بعيدة كل البعد عن معنى الاغتراب؟ وفي صعود له ما يبرره طالما اتخذنا المنحى السوسيولوجي. فعلينا أن نسأل.. هل القصة القصيرة كفن منطوٍ على حقيقة جمالية يخاطب العصر أو المناخ الذي كُتبت فيه، أم أنها صالحة للحظيرة الخارجية التي لا تنتمي لخصوصية الحالة القصصية بشكل مكتمل؟

 

بطبيعة الحال عندما تحدثنا عن الزوال النسبي للذات الساردة في بعض النماذج لحساب الأفق الحكائي في قصص أنوار سرحان، فنحن حتمًا كنا نقصد بيئة القصة، على اعتبار أن مسألة الأفق هذه وثيقة الصلة بالرواية إلى حد كبير عند التماس معها نقديًا، وطالما كان الأمر على هذا النحو، فعلينا أن نعترف ضمنيًا ببيئة حافلة بكل آيات الازدواج، وربما الحيرة والغموض.

 مؤكد لا أستطيع استنطاق المشروع القصصي ذي النماذج المحدودة التي لمستها كي أصل للمرجعية الفكرية التي تقف خلف فعل الكتابة، اللهم إلا سلامة وجهة نظر القاصة في تقييم الصراع وآلياته وتداعياته وتأثيرها على شكل الحياة التي ينتمي لها شعبها، لكن تظل الرؤية الكلية لما تيسر من هذا المشروع تمنحنا إلى حد مقبول يقين الربط أو التماثل بين العقلية والمرجعية الثقافية للكاتبة، وبين بيئة قصصها.

 

إذن وبناءً على ما ذكرته، فنحن نلتمس هنا وعيًا اجتماعيًا عند مبدعتنا، من خلاله نقف على بعدين إشكاليين: الذات المبدعة؛ والقصة كموضوع، ولو سلمنا جدلا بأن بعض نماذج قصصها تصلح لأن تكون وثيقة ذات دلالة مرجعية للحادث على الأرض، فنحن حتمًا نؤسس قراءة النص القصصي على اعتباره رأيًا مسئولاً، يخضع لحسابات التحليل المرجعي لما ورد فيه من مناطق سردية تحمل قيمة الوثيقة المكتوبة، بالإضافة إلى تقييمنا له على محكّ الأدب.

 

إن أبرز قيمة يمكن استنباطها عند التماس مع مقولة الوعي. هي إحساسنا أن الأزمة التي يشير لها صاحب الوعي هي أزمة حقيقية وليست مفتعلة، وعندما يتصدى لها بالحديث تبقى إرهاصته السردية آخذة معنى الشرح والتوضيح المُصاغ بلغة أدبية، ولكنها منبثقة من وجهة نظره المستقيمة في تقييم الأمور.

 

كان ضروريا أن أبدأ على هذا النحو، ولاسيما أن هذا المنعطف- وجهة نظري الخاصة-  هو أهم منعطفات هذا الحديث، والذي ربما سيجيء مجمعا لأهم ما يمكن الوقوف عليه في قصص أنوار سرحان التي شرفت بمطالعتها.

 

إن كل ما قرأته- على قلّته- يمثل احتفالاً من نوع غريب فعلاً، يرتكز على وعي الكاتبة من جهة، واغتراب الذات الساردة من جهة أخرى. وهذا للصدق ملمحٌ يحتاج إلى إبداء منطقة تنوير ونحن بصدد قراءتها، فشخصية الكاتب ومرجعياته تختلف إلى حدّ كبير عن شخصية القائم بفعل السرد، فإذا اعتبرنا الحكاية بمثابة تورّط، فإن شخصية الكاتب هي ذلك الطيف الذي يبدو في كثير من الأحيان كمرجعية خلف فعل السرد، بمعنى أن الكاتب وما تنطوي عليه شخصيته هو المحرض على حدوث تمفصلات سردية بعينها تخضع كليا لإرادة الخلق الفني والفكري معا، بالشكل الذي يمنحنا في أثناء القراءة اليقين بأنه هنا السارد باقتدار، وفي لحظة أخرى معتقداته وأفكاره هي التي تمارس تعليقا على السرد ومحتواه، وكأن القصة في أحداثها تتحرك وتتصاعد دراميا وفق مرجعية الكاتب الجالس في كواليس الكتابة.

لذا، فحين نقول: حضور وعي المرجعية وما يترتب عليها من فهم محيط لإشكاليات  المجتمع القائم عليه فعل الحكي، فهذا لا يعني بأي حال حدوث تناقض أو شرخ في القصة كمنتج نهائي إذا جاء الجانب السردي الحكائي كاشفا عن ملمح من اغتراب؛ لأن الأخير خاضع لسلطان السرد، وليس لصولجان شخصية الكاتبة الواعية بالضرورة.

من (الدخلة والقربان)

{ ربي!! هل يمكن ألا أبدو عذراء؟!! ماذا سيكون جزائي من أهلي؟ ماذا سيفعل بي أبي؟ ستغدو دعارات إخوتي وسقطاتهم كلها طهرا أمام جريمتي، أخي الكبير نزار سيجعل من خيانته لزوجته كل ليلة في أحضان العاهرة الروسية "مينا" حجا مبرورا أمام فعلتي، والنصاب ماهر أخي الأصغر رغم إدمانه الكحول وخروجه ثملا من خمارة "سهارى" سيبدو طاهرا نقيا أمام شناعة جريمتي }

 

ربما استوقفني هذا الجزء من القصة، كي أدلل على شيئين على درجة كبيرة من الاختلاف وربما التناقض، بين الكاتبة خالقة الحالة، وروح الساردة التي وهي تعبر عن مجموعة هواجسها، لم تمنحنا يقينا واحدا في براءة الشبكة الاجتماعية التي تنتمي لها، اللهم إلا الأب الذي لم تطوله آليات التشويه، والتي انسحبت كليا على مفردة في غاية القسوة(دعارات)، من هنا انطلق السرد للنموذجين(نزار/ ماهر) بكل مفردات اللغة الفاضحة والجارحة معا، ليقفز لنا السؤال.. إلى إي اتجاه يمكن ربط المسئولية عن هذا الوصف. الكاتبة أم الساردة؟

بطبيعة الحال هو ليس سؤالا إشكاليا كما يبدو من الوهلة الأولى، لكنه سطوة فعل السرد المُطعم بجلال الاحاطة لتخبط المجتمع في تقييم مصطلحاته وثوابته، ولاسيما مقولة( الشرف)، مقولات إذا فقدت الحد المقبول من المعيارية لا تستحق أن توصف بثوابت مطلقا، ورغم تماهي حالة الامتعاض بين الساردة والكاتبة المهيمنة على الحالة في إشارة لهذا الكم من الموازين المغلوطة، لكننا لم نستطع على فضاء التأويل أن نحاكم لحظة انفعالية في السرد تتسم بشيء من التهور المبرر، الذي قد يمنحنا رغبة في البحث عن سؤال مفترض ولماذا تبدو هذه العروس طاهرة مادامت الشبكة الاجتماعية المذكورة بعناصرها لا تمارس سوى ازدواجية لم توصف على لسان الساردة سوى بالدعارات؟

من المستحيل أن نمنطق حديثنا عن هذا المقطع من القصة لنبرر مقولة التناقض المرجعي بين الكاتب والسارد مطلقا، أو غياب الوعي الذي يبرر سؤالنا الأخير، ولكننا فقط نلتمس عنصرا من عناصر الاغتراب المدعوم بالرغبة في محاكمة معسكر الآخر الذي يهين عناصر الممارسات التي يجوز توصيفها حدًّا أدنى أخلاقيّاً بهذا الشكل المجحف، دون أن نتهم السرد هنا بالتلميح بأن المسألة حتى ولو لم تكن الفتاة عذراء مسألة إذا قيست على تعاطي هذه الأسرة لممارساتها الأخلاقية قد تبدو مسألة اعتيادية.    

 

ربما إذا حاولت إقامة دليل على سلامة ما طرحناه هنا؛ لأدركنا أن كل قصة بدت واقفة بين منطقة الانفعال الذي فجرته فكرة القصة، وبين الذات الساردة، والتي بدت أقرب بشكل أو بآخر إلى طبيعة الكاتب المنفعل، بمعنى أن مفجر الانفعال، عندما وصل كمثير لأنوار التي ارتدت ثوب الساردة؛ حين قامت  لتسجيله قصصيًا قد بدا مع القصة أكبر بكثير من قيمته حال الاستثارة، تم ترجمته في صورة أكبر منه تقريبا، وهذا للصدق لا يغرينا بأن نتهم مبدعتنا بالمبالغة في سرد أفكار قصصها، أو غياب وعيها حال تسجيل القصة، إنما يدل على الاعتقاد الراسخ بضغوط المشكلة التي ينتمي لها الطرح الفكري للقصة، بالإضافة إلى تشعب الحالة القصصية حال التماس معها، نظرا للإحساس بها وبمدى تعقيدها على الأقل في يقين القاصة، لكن تكمن عبقرية القصة أنها تنتهي نهايات قدرية، تقترب لأن تكون نهايات صامتة لمشاهد خاضعة لرؤية محيطة للفكرة من جهة، وللجزء المراد طرحه قصصيًا من واقع حياة صاحبة الإبداع بشكل محدّد من جهة أخرى، ومكمن بهاء هذه النهايات أنّها وضعت حدًّا لهذا الانفعال، ولهذا الضغط الذي مورس من قبل أفكار القصص، وعلى الجانب الآخر من النهر حافظت على أفقية الحكاية المسرودة، كون ما نطالعه قصةً قصيرة تعتمد على الاختزال المشهدي. دون أن  نعتقد أن القصة حالة من حالات التسجيل، لأن هذا بلا شكّ مصادرة على الجانب الإبداعي في صياغة الأطروحة القصصية. ودفوعي التي يمكنني أن أسوقها هنا ترتكز على محاور ثلاثة:

 

الأول: تشعير اللغة التي انطوى عليها فعل السرد، بالشكل الذي يستطيع أن يخفف من حدة الجانب الذهني الذي يغلف القصة، وما تحتوي عليه من عرض لمشكلات المجتمع الذي يقف كمظلة مرجعية خلف عملية الخلق الفني للقصة كمنتج نهائي. والغريب أن شاعرية هذه اللغة متى ظهرت قد اتجهت إلى قيمة وظيفية مغايرة على هامش قصص أنوار، فاللغة الشاعرية في الخطاب السردي من أبرز أهدافها أنها تسمح للقاص أن يتحرك من منطقة اللاشعور والعودة إلى واقعية السرد بانسيابية ويسر، لكن عند مبدعتنا كان لتكثيف معنى دلالي معين يكشف عن عمق مأساة صاحبة الحالة أو الواقع القائم عليه فعل الحكي.

 

الثاني: إحكام السيطرة على تقنيات السرد إلا قليلاً، وبشكل قد يبدو لي عفويُّا إلى درجة كبيرة، فالحكاية المسرودة سيدة الموقف، انسيابية في فعل الحكي، ومتى توقف، تدخلت بروح الكاتبة المهيمنة على الفكرة لإبداء تعليق على الكتلة السردية، أو التمهيد لكتلة سردية قادمة، تستطيع التخديم على مفصل سردي له قيمة وظيفية ما في بلورة فكرة القصة، وعند التناول الشعري للغة السرد، تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من نسيج العمل وليست نتوءًا لعارض التلميح بامتلاك ناصية لغة على درجة من شاعرية، لكنها على كل الأحوال لا تغتال فنيات القصة، ولا تطغى على الوجع الأساسي الذي حرض على السرد.

 

الثالث:  إن القصة وإن بدت كاحتفالية بالانفعال الذي يمثل منطقة ضغط تدفع بها لأن تكتب كتابة جاءت على هذا النحو، لم تنجح في دفعنا لاتهام أنوار أنها قامت ولو للحظة بأي شكل من أشكال الإلحاح على الانفعال كي تستمر القصة أو تكتسب مشروعية استمرارها، مؤكد من مصداقية الأطروحة كلها، وشكل التعاطي الخاص من قبل القاصة، ولعلنا نلاحظ- على سبيل المثال-  الأسماء التي وردت لشخوص قصصها مجتمعة، أسماء دلالية ( زاهي/ إسماعيل/ فاطمة/ وسام) وابتعدت عن تلك الأسماء الفلسطينية المألوفة التي صارت كموضة سنوات معاناة هذا الشعب كنضال أو جهاد أو غيرها.

وعلى الدرجة نفسها ورغم عميق المأساة التي يعيشها شعبها، كانت تكتفي بجمل فسفورية بعينها تلخص أبشع ما تنطوي عليه هذه المأساة( ما أبشع الموت في بلد عزَّت فيه حتى القبور!)

 

في حقيقة الأمر يتمثل التحدي الأكبر لمشروع أنوار القصصي وتبعا لما طالعته من قصصها، فلا يمكنني المصادرة على نماذج هي حتما لم تقع تحت ذائقتي، تحدي التأثير الفني للقصة، وهنا أعني ماذا سيتبقى لي بعد أن أغادر القصة لشئون الدنيا.

ربما يُدهش من يطالع هذه السطور، لكن بتجريد القصة من تداعيات المأساة أو المشكلة التي ينتمي لها السرد، ولاسيما أن المشكلة الرئيسية قد صارت كلاسيكية إلى درجة، وهنا أعني المجتمع الفلسطيني، يمكن الرهان على أثر قد يبدو مغايرًا إلى حد كبير مع ما تنتويه أنوار سرحان ربما، فأعمق التأثيرات التي ستظل في ذاكرتي بعد الانتهاء من القراءة معاناة الذات التي تكتب في هذه الأجواء، وهنا أعني معاناة أنوار سرحان نفسها، أو ذاك النموذج النسائي التي تسرد من خلاله، على اعتبار أن السمة البارزة في قصصها السرد من الداخل عمومًا.

 

في واقع الأمر لا أقول هذا الحديث عبثًا، فالرصد المشهدي لوقائع حياة مجتمع معين، حتى على ظلال قصة قصيرة في الأساس، وعلى ذلك النحو الذي انتهجته مبدعتنا، لم يقدم حالة قصصية تتسم بالمباغتة، هي في كل الأحوال منحتنا زاوية رؤية مختلفة وعميقة باقتدار، ولكنها لم تباغتنا، ووضعت بلا قصدية منها مقولة التأثير الباقي للقصة على المحك، ولا أريد تحليل فعل الإبداع عندها أو نواياه، وإن كنت أرجح أنها تتحرك في القصة تحرّك امرأة يداهمها الوقت، بمعنى أريد أن أقول كل شيء في مساحة أتمناها قصيرة. ربما عبرت عنه سياقات سردية بعينها، تشعر معها باللهاث، تقرأ وكأنك تركض كي لا ينفلت منك طزاجة المتابعة للقصة المسرودة، لكننا كنا نركض لمتابعة زاوية الرؤية، ولم نتعرض لصدمات تغرينا بالتأمل في كتلة سردية بعينها تنتمي لمزاج المباغتة والإدهاش إلا قليلا جدا، ولم يكن هناك ثمة صمت معبر داخل الحكي، اللهم إلا من جمل بعينها تقتحم الحكاية كي تؤكد من خلالها وعيها الكامل بالحالة وتمفصلاتها وبيئتها "مجدرة فلسطينية" (نوع من الأطعمة الفلسطينية)، أو " قلائد البامية اليابسة" أو شمس شباطية( فبراير).

 

لا أستطيع تبرير ما أقوله هنا تبريًرا لا أريده أن يفقد معناه، ولاسيما أن المشروع القصصي عندها ينم عن شخصية مبدعة في الأساس، ويناسب بطبيعة الحال معنى الإرهاصات الأولى، لكن قيمة أنوار الكاتبة كانت تعلو في كثير من الأحيان على قيمتها كسارد، أجندة أفكارها وإحساسها بيئتها الاجتماعية كانا هما المهيمنانِ على كيمياء خلق القصة. كنا نحتاج مراوغة حميدة تجعل من آثار القصة آثارا ممتدة ومحرضة.

 

فلقد كنت ألاحظ مع القراءة ولاسيما أن يقين التجريب ليس هذا موعده إذا صدق حدسي في أن هذه القصص إرهاصات أولى، ولقد قلت وبدون أن أتجاوز العديد من إيجابيات الطرح القصصي عندها: إن سطوة الحالة التي تبدع من خلالها لن تمنحنا إبداعًا نوعيًا إلى الآن على الأقل.

لأن الواضح أن المسافة المقطوعة فيما بين التحريض وفعل الكتابة تكاد تكون منعدمة، فالبادي للذائقة أن هذه القصص تنبع من مسمى كتابة الحالة. فلا اعتقد جدلا أن كاتب قصة قصيرة مهما بلغت مقدراته  مولع بذكر تواريخ مفصلة لأحداث وردت في قصته بهذا الشكل ( أواخر حزيران 2002/ أحداث أكتوبر 2000/ صاروخ المقاومة اللبنانية يوم 26 تموز 2006)، ولست أدري هل كان من دواعي الاختزال أن يُكتب أكتوبر بهذا النحو على اعتبار أنه تشرين الأول؟؟

 

في حقيقة الأمر عندما تحدثنا عن الوعي الاجتماعي الموجود بقوة في شخصية أنوار المبدعة، كرافد مهم ومؤثر في إنتاج قصصها، لم نكن نقول سوى حقيقة ملموسة ولها من الشواهد الكثيرة التي تؤيدها، ولكنه كان ينتصر في قليل من الأحيان ولكن بشكل مؤثر على الوعي الفني عندها.

أمتلك حسن ظن مبدئي أن أنوار سرحان؛ ولأنها حقيقية ليست من أولئك الذين يريدون سماع ما يحبون سماعه، لذا إذا صادف حديثنا هنا امتعاضًا منها، فلسوف أردّ عليه من خلال ما كتبته هي في الكثير من مفاصل السرد التي وردت في قصصها، وليس من لدن قناعاتي الشخصية، فهذا حتمًا سيكون أوقع وأكثر أقناعًا.

 

إننا حين نشير لبعض الأشياء التي تداعت قليلاً في سياقات السرد، لا نقصد بأي حال من الأحوال إحصاء مثالب القصة، فالقصة في مجملها لا تخلو من بصمة الشخصية المبدعة التي تقف خلفها، ولكن نريد أن نوجه سؤالاً لا يخلو من خبث القراءة. لماذا لا نشعر بقيمة المسودة ونحن نطالع القصة؟

بمعنى هل بانتهاء القصة قامت أنوار لشؤون دنياها أم جلست مجددًا مع النص؟

 

إن قضية الشرف –مثلاً- التي تم التماس معها في (الدخلة والقربان) وسيناريو لجريمة محتملة  (وينطفئ ذاك النور) 6، كانت تتحرك على محاور معاناة الذات الساردة بطريقة قد تبدو إشكالية إلى درجة، أطروحتان جريئتان في حقيقة الأمر، لم تكن تتحرك بلاوعي مقصود كما يظن أصحاب القراءات البريئة للأدب، يرتكز على وجهة نظر خالقة الحالة في مسألة الشرف ذاتها، بالشكل الذي يؤيد عدم اكتراثها بالمسألة، فتأسيس صوت السرد على منطقة المخاوف في حد ذاته دليل حاسم على الإيمان بأن مسألة العذرية مسألة مؤرّقة للذات الساردة أصلاً، لكنها وبمقدرة غريبة قامت بالتلويح بنسبية الرؤية للمتعاملين مع القضية في جوهرها، ولاسيما أن القصتين من مزاج قد يبدو متحدًا في شكل رؤيتها الخاصة للمسألة، لكنها قامت بتوجيه كل طاقتها للحديث عنها، مرة من منطلق كونها عذراء، ومرة كونها أرملة. وفي الحالتين كان وعيها الفني حاضرًا بقوة ، فهي عذراء بالضرورة، إذن فالقصة تعالج بعبقرية مركبات الخوف والتوتر الذي يصاحب مرحلة الوصول لهذه النتيجة، وفي ذات الوقت تحاكم الأنماط البشرية التي تتعامل مع معنى الشرف بهذه الازدواجية الغريبة( زير نساء/ نصاب وسكير)، حتى في شكل التماس مع هذه الأرملة على منحى الشرف، كان هناك تلميحٌ ذكيٌّ بأن موت الرجل( الشيخ قاسم) هو من وضع المسألة على المحك، وهنا آية أخرى من آيات هذا السرد، فقضية الشرف كانت معطلة وهو حي يُرزق، لم تكن مثار بحث لأن تجتمع الأسرة كلها لبحث مصير الأرملة، في حين أن هذه الشبكة الاجتماعية التي تنتمي لها الذات الساردة كان عليها أن تضعها على المحك والشيخ على قيد الحياة، لأن الوعي الحاضر بقوة هنا والذي أصر على وضع لقب(الشيخ) كان يعطي تلميحًا بأنّ هذا النموذج النسائي( الزوجة صغيرة السن) القائم عليها فعل السرد، كانت معرضة للفتنة أصلاً، والواضح إنها لم تنزلق في مهاوي الرذيلة، ربما هذا المعنى قد يبدو بريئًا إلى درجة ولكنه محرض للبحث في فضاء التأويل عن الكثير من تداعيات حالة اجتماعية تعاني الكثير من التردي( الزواج المبكر/ الفراغ العاطفي المنضبط/ التعاطي المؤسف مع من تحمل لقب أرملة).. وهنا وللصدق أقول : كل شيء قد قيل وبعيدًا عن الوقوع في فخ المباشرة ؛ وإذا عرضت سببا واحدا لذلك لن يكون إلا لغياب القضية المرجعية التي تغلف السمات العامة لكل القصص.

 

إنني لا أنكر بأي حال أن الانتفاضة من الطبيعي أن تدخل في سرديات أنوار سرحان، أو التعاطي الذكي واللمّاح في الدوران حول هذه المسميات المعبرة المفعمة بالدلالة( اليهود/ إسرائيليون/ الصهاينة) ففي كل مرة ورد تعبير منهم كان موجودا في سياق يتحمله ومنسجم معه، رغم أجواء المباشرة في السياقات السردية التي احتفلت بوجوده. ولن يقبل من يقرأ أنوار سرحان على المدى المنظور أن يتم تغييب ظرف المكان من إبداعها، لكننا فقط نريد زاوية معالجة أكثر إدهاشًا وغرائبية للرؤية. ربّما أرى من طرف خفي وجه أنوار ممتعضًا، وقبل أن تتورط في ظلمي سأردّ مجددا ومن قصصها كي تعرف أنها نجحت في أن تمنحنا يقين الإدهاش ولو أنه كان قليلاً.                

فالقصص كلها رغم قلة العدد الذي تم التماس معه، لم تقل تصريحًا إن الحياة في جوار مجتمع إسرائيلي يُشكل أي معنى للجنة الموعودة، أو أرض للأحلام، وأن كم المشكلات التي طرحتها القصص كان يقف على الأغلب في حدود المنطقة الآمنة التي تريد الانفلات من معنى التقريرية والإخبار وعلى أي مستوى من مستويات المعالجة المباشرة.

 

مؤكد هناك موار وغليان سياسي يعيشه هذا المجتمع فرضته طبيعة البلاد المحتلة والتي لم تتفق على كلمة سواء منذ فترة طويلة؛ مع ظرف تاريخي يدعو الجميع للتعايش مع الأخذ بعين الاعتبار علاقة النفي القائمة بين المعسكرين.

أنوار سرحان تحمل صكوك الانتماء لهذا الوضع المعقد فعلاً، ولأنها أديبة اتخذت منه معطى تتحرك منه في سبيل سرديات منتمية إذا جاز التعبير، لذا كي أبلور مرمى حديثي سأورد نموذجين على الترتيب من سيناريو 8و9،..

 

{ فالحاجة منذورة في هذه الحياة اللعوب، لا ترسو على بر ولا تستقر على حال، ستثور من جديد وهي تحدثكم عن الأخبار والسياسة بعد أن تنتبه لصوت مذيع متكرر في الذاكرة المتآكلة، يبدو أنه يعاني من ضيق رابطة العنق الحمراء منذ ستين سنة} (من نصّ تلك العجوز الصبية ) .

 

{ أذهلني تصفيق الجميع ينتظرون كلمتي...... أردت أن أصرخ فيهم الأرض أرضي يا أولاد الــ .........} (في نصّ هذه أغنيتي) 

 

في حقيقة الأمر في أجواء الموت لا تستحق الحياة سوى أن توصف باللعوب فعلا، عندما تتحول الحياة ونقيضها إلى جدلية تشبه حركة الراقصات التي تنفلت من معنى القدر إلى معنى الاختيار والتصميم، ودلالات الأحمر الدموي هي موروث ثقافة هذا الصراع الممتد لهذه السنوات الستين. ربما جدير بي أن أعلن عن سبب ورود النموذجين، لكن سنؤجل هذا حتى العبور من هذا السياق في نص "انتفاض" { والخطاب يزداد تشنجاً وتطرفًا، إنه يشتم إسرائيل بأقذع الشتائم.. يتهمهم بأنهم أولاد عاهرة، ووجودهم سر بلاء الكون}.

 

من العقل ألا أقوم بالتعليق على  حالتين يوضحان إلى درجة مبهرة الخلقَ الفني المؤطر والمدعوم بقدرات صاحبة السرد، ونموذج آخر يوضح سطوة الانفعال على الذات المبدعة بشكل جعل السياق السردي إن لم يكن مباشرا فإنه اعتياديّ جدًا. والغريب وكي أنفلت من غضب مبدعتنا هنا، أن كل النماذج ولاشك منتمية لها بالكلية.

 

ولأنني من المؤمنين بإبداعات أنوار سرحان سأسأل مثلاً:  هل تم ذكر مسألة"بطالة"- مثلا-  بطول القصص وعرضها على اعتبارها واحدة من مشاكل هذا المجتمع؟

هل تم التماس مع مقولة الهاجس الأمني في يقين المجتمع الإسرائيلي بشيء من التصريح المباشر؟  

بالضرورة لم تُذكر كلمة بطالة، لكن الحديث على الانتقال في ثنايا الإقليم الجغرافي وبالإشارة إلى مدينة صارت يهودية للنخاع{ غادرنا للعمل في حيفا} هي ارتكاز على معنى ضيق سوق العمل وقلة الفرص كإشارة مبدئية للدلالة الأولى للبطالة، لكن الأشد عنفًا وإيلامًا فعلا أن آليات سوق العمل التي تحكم مجتمع الفلسطينيين العاملين فعلاً، تحكمها معايير قد تكون سياسية أو أمنية أو للتأكيد على معنى الحصار الاقتصادي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فلا أظن ورود هذا السياق السردي بشكل عشوائي{ تساعدني في الحصول على عمل بعدما أغلقت أبواب الشركة التي كنت أعمل بها}، وأزعم من منطلق معلومة قديمة مستقرة في الذاكرة- ربما صحيحة- أن بناء الفعل للمجهول يدل على أقدار فاعلة غير معلومة المصدر.

 

 

 لست أدري تحديدا إلى أي مدى نجح عبثي الصبياني في قراءة إبداع أنوار سرحان، إبداع أمتعني بالفعل، منحني زاوية رؤية لوطن كنت اعتقد أننا محيطون بكل ظروفه، لكن ثبت أن هذا لم يكن صحيحًا كليًا، وليتها تغفر لي، أن قمت بالتهام قصصها مستمتعًا، لكن إذا جاءت كلماتي تحمل إشارة بأن( ملح الطعام) في حالات نادرة جدا كانت تنقصه لمسة الطاهي الخبير، فحسبي أنني كتبت وأنا أحمل في يقيني أنني أهديها وردة، فإن لم تأخذ كلماتي سمت الورود، فلسوف أقول لها عذرًا وباللهجة الفلسطينية التي أحبها كثيرا( الحبل على الجرار) ومؤكد سأعود للحديث عنكِ ذات يوم بشيء من التركيز.

  

 

                                                              ــ مصرــ

 

 

 

   

 

 

التعليقات