هاكم بؤساً فنياً فلسطينياً ثرثاراً / سليم البيك

هاكم بؤساً فنياً فلسطينياً ثرثاراً

هاكم بؤساً فنياً فلسطينياً ثرثاراً / سليم البيك

لو أكملتْ بهذا الكلام، لقلبتُ على ناشونال جيوغرافيك، ثمّ إنّي فعلاً قلبت على ناشونال.. الخ، ثمّ أطفأت التلفزيون عن بكرة أبيه لأني لم أعد أطيق أي فنان (خاصة) يرهق ما بقى معافى، من اسم فلسطين، "ليتعربش: يتسلّق" عليه ويبث للعالم فناً كل ما يميزه أنه آتٍ من فلسطين، وفقط.

ليست المسألة جديدة، وقد طرحتُها، هنا، مسبقاً في مقالة عن أحد الفنانين العرب "المتعربشين" على اسم فلسطين لينزل به، وبثقله الغليظ فنياً، إلى تنميط مقزّز. لكني الآن أتكلم عن فنانين فلسطينيين نجحوا مرة، مرتين، ثلاثاً.. في "التعربش" على اسم قضيتهم ليغنّوا "أياً يكن"، لن يهمهم طالما أنه غناء وطني أو/و تراثي (سآتي على أمر هذه الـ"تراثي")، وبالتالي يصيرون بغنائهم الـ "أياً يكن" هذا سفراء للفن الفلسطيني، محترفين تنميط الصورة أكثر وأكثر في كل ما يخص هذا الفن الذي تحُول مركزية القضية ("هيك وهيك" لهيك مركزية) التي "يتعربش" عليها هذا الفن، تحول دون أي تقييم حقيقي نقدي فنّي له، وهو ما يسيء بشدة للتجارب الفنية الجادة بحق، لأبناء هذا البلد.

سأبقى أنادي (العربَ مثلاً)، من أجل الذي خلقكم وخلق العالمين لا يحبّنّ أحدكم النتاج الإبداعي الفلسطيني لكونه فلسطينياً: تعاطفاً، تقديراً، تضامناً، تشحيراً. بشرفي لن يُخدش انتماءكم الوطني/القومي/الأممي لو أنكم تقيّمون عملاً فنياً فلسطينياً كعمل فني، وفقط، و"اتركولي" صفة "الفلسطيني" على جنب. "الفلسطيني" يا جماعة ليست من معايير جودة العمل الفنّي، آسف لكنها الحقيقة! هنالك بعض "الخبثاء" من الفلسطينيين يختبؤون بفنّهم خلف مزايدات وطنيّة صدئة، ثم يلخّصون هذه الوطنيّة في شخوصهم بشكل محفّز للتقيؤ، ويبثّون أعمالهم الـ "أياً يكن" دون مستوى فني أو جمالي مرضٍ، و(طبعاً) دون أي تردد لأنهم، كفنانين آتين من فلسطين، لن يتلقوا من (مراهقين عرب مثلاً) إلا التعليقات السطحية والمسطّحة (بالتالي) للصورة الإجمالية للفن الفلسطيني، والنابع من إصرارهم على ألا "يرحمونا من هذا الحب القاسي"، وهم بذلك يخلطون الغثّ من الفن الفلسطيني بسمينه.

أما بخصوص الغناء التراثي الفلسطيني، وهذا ملعب هؤلاء الفنانين. بربّكم، من سيقيّم فنياً (فعلياً: من سينتبه إلى أنه لم يحدث وأن قيّم فنياً) أغنية/تهليلة/موالاً سيكون أولاً فلسطينياً، وثانياً تراثياً؟ من سيجرؤ على ارتكاب ذلك والهوية والتراث وحفظهما من أكثر معاركنا حساسية مع إسرائيل؟ هل أنّ النقد الجاد لن يخدم المصلحة القومية في الصراع مع العدو؟ وبالتالي ليس الآن وقت التقييم الفني لأنه من الأمور الثانوية التي لن تخدم الاشتباك الجبهوي مع الاحتلال! وهل من ضرورة وطنية أكبر من التصفيق (الساذج) لكل من يغنّي التراث من منطلق وطنيّ (وثرثار أيضاً) بغض النظر عن القيمة الفنية الجمالية لأن ذلك سيعدّ ترفاً؟ (ألفاً من هذه: !!!!!!)

لعل هذه الفنانة التي لم تُفلِت أية لحظة مُنحت لها على تلك الشاشة العربية –قبل أن قلبتُ على ناشونال.. الخ حيث كان برنامجاً عن التماسيح- دون أن تبث علينا التنميطات والمزايدات المختلقة والمكشوفة (كي لا أقول مفضوحة) والمملة، وأحاديث ممزوجة بالدموع بين تنميط وآخر. لعلّها حين تغنّي التراث الفلسطيني، ستبدو بأنها التشخيص الحي لهذه القضية العادلة والتي، لعدالتها، لا يمكن أن تكون المغنية هذه إلا أولاً: صادقة في كل حديثها عن نضالاتها (الافتراضية)، وناقلة للتراث الفلسطيني بأجمل صوره -ذلك كان ثانياً- خاصة وإن عرفنا بأنها لا تطلّ إلا بالثوب والاكسسوارات الفلسطينية!

لكن فلنسأل بجد: طالما أن هنالك شبه إجماع على أن إحياء التراث الغنائي الفلسطيني لابدّ أن يكون من الهموم الأساسية للمغنيين الفلسطيين، ولحساسيته بشكل خاص، لماذا يستسهل البعض ليس غناءه وتسجيل ذلك على اسطوانات فحسب، بل وإدخال آلات غريبة في تسجيله، وهو ما يحتاج مهارة فنية وموسيقية وغنائية وتقنية عالية، ليس ثرثرات "وطنيّة" و"إدراجات فيسبوكيّة"؟

بعد الكتابة عن استسهال صناعة الموسيقى الفلسطينية، التراثية منها تحديداً، كون التقييم مضموناً مسبقاً لفلسطينية هذه الأعمال وليس لمستواها الجمالي، ليس هنالك من داعٍ -أو: هنالك داعٍ، بل ومُلح- للكتابة عن المزايدات الوطنية وانتهاز العاطفة الكبيرة والصادقة لدى كثير من الشباب العرب تجاه القضية وكل ما يصدر عنها من فنون، ثم -في الصحافة والإعلام و(كان ناقصنا) هالفيسبوك- المبالغة الدعائية المثيرة للشفقة في نقل هذه المعاناة واستدرار (وإعادة تدوير) العطف الرتيب، وكل ما ذُكر سوف "يُحسَن" توظيفه، وهذا "خير" ما ينمّط الفنان الفلسطيني، و"خير" ما يُحبط الفن الفلسطيني، و"خير" ما يبعث على الرضى الذاتي واستسهاله (هو الآخر) عند من، حقاً، يحب هذه القضية وكل ما يصدر عنها، لكنه لا يعرف، فعلاً، كيف يحبّها، لأنه ببساطة يحبّ كل ما يصدر عنها، ولأن (هاكم بؤساً مضاعفاً) "مركزية وعدالة" هذا الحب يحول دون أي نقد/تقييم فنّي.

***

ليست الصورة بهذه القتامة، هنالك الكثير من الأسماء التي تشكّل الوجه الغنائي الفلسطيني النقيض لما كُتب أعلاه: كاميليا جبران وريم كيلاني وسناء موسى ومروان عبادو وفِرق كالفنون وتراب وولعت ودام وآخرين، وأمل مرقس (والفرقة الموسيقية، وعلى رأسها نسيم دَكْور) والتي ستقرأون قريباً على هذه الصفحات حواراً معها يتناول أموراً عدّة. عند مرقس أستطيع حقاً أن أسمع غناءً فلسطينياً، وأضمن ارتقاءً فنّياً/جمالياً في الصوت والأداء والموسيقى والكلمة، بل والموقف الوطني (بحق ودون ثرثرة) والأخلاقي والثقافي خلف كل ذلك، ثم أخبركم: وأمل فلسطينية بالمناسبة.

 

www.horria.org

التعليقات