فوازير الحرّيّة في الدّروب الحلزونيّة / أحمد زكارنة

فوازير الحرّيّة في الدّروب الحلزونيّة

فوازير الحرّيّة في الدّروب الحلزونيّة / أحمد زكارنة

   وُلدت فكرة فوازير رمضان علي يد " ملكةِ الكلام"،  صاحبةِ لقب " أمّ الإذاعيين " الإعلاميةِ المصريةِ الكبيرة آمال فهمي، منذ أكثر من خمسينَ عامًا. استعار التليفزيونُ حينذاك نجاحَها الإذاعيَّ ليقدّمَها بحلّةٍ جديدةٍ مستخدمًا رونقَ التأثيرِ البصريّ إلى جانب السمعيّ، لينجحَ بها ومعها نخبةٌ من كبار الفنانينَ المبدعين حقًّا، من أمثال سمير غانم ونيللي وشريهان وغيرهم، ولا أتفاجأ كثيراً لِمَ اختفى في العقد الأخيرِ من زمن الحنجلة ، بريقُ هذه الفوازير التي كنا ننتظرها كما ننتظر رمضانَ بكلّ طقوسِه الروحانيةِ والاجتماعية معًا.

 

ولا يساورُني أدنى شكٍّ أنكم مثلي لم تتفاجأوا باختفاء هذا البريق، خاصةً حينما نعلمُ، أنّ سيقانَ ميريام منعتها من تقديمِها هذا العام! أو أن نعلمَ كيف يحيكُ مراسلو الثقافة والإعلام في بلادنا الحيَلَ لتركيبِ بعض المتثاقفين والأبواقِ، ممّن لم يتعلموا الرّكوب من أسفلَ، ليصبحوا بقدرة قادرٍ، الآباءَ الشرعيين للإعلام والإعلاميين، وربّما "الأمهاتِ" الحقيقياتِ للثقافة والمثقفين في آن!

 

  من أين يأتينا الشكُّ، وبعضُ المتنفذين يأتون ببعض معلّقاتٍ لاعلاناتِ مسابقاتٍ داخليةٍ وهمية، وكأنها المعلقاتُ العشرُ في يومِ الحشر، والحشرُ هنا إنما لمحاولةِ تمرير اختيارٍ وقع مسبقاً، لبعض مسؤولي الدوائر ضمن شروطٍ ومقاييسَ شبهِ تقليديةٍ في مهنةٍ ليست تقليديةً بحسبِ المراسيم الرسميةِ التي تحدثت في العديد من موادها وخاصة ـــ المادة (10) البند الرابع ــ عن ضرورة إعداد نظامٍ ماليٍّ وإداريٍّ خاصّ يتفق وطبيعةَ هذه المهنة، دون التقيّد بالنظمِ والقواعدِ الخاصة بالعاملين المدنيين.

 

وبالتالي فهي شروطٌ ومقاييسُ إنما وُضعت فقط لتناسبَ بعضَ نفرٍ من بطانة السوء وأتباعها الذين لا ينظرون للمؤسسة إلا نظرةَ المستفيد إلى المفيد، ليقعَ عليهم دون غيرهم الاختيارُ كتحصيل حاصلٍ حتى قبل خسارة الحبر الذي كتبت به تلك " المعلقة " الإعلان الوهمي.

 

والحقيقة التي يتوجّب علينا مواجهتُها، تعلن بشكلٍ لا لبسَ فيه، أنّ حيَلَ هؤلاء التي لم تفاجئ أحداً، تكمن في الممارسات الحلزونية، كتلك التي يمارسها البعضُ في مهنة الإعلام بقوانين مهنةِ الإعلانِ، تمامًا كمن يمارسُ لعبةَ كرة القدم بقوانين كرةِ اليد، تأكيداً منهم أننا لا نحمل من العلم إلا قشورَه، على اعتبار أنّ معيارَ المثقفِ والإعلاميّ، يقدَّرُ بكمّ الشهادات العلمية، التي يعلم الجميعُ أنها في مواضعَ ومواقعَ كثيرةٍ تُشترى وتباعُ بطرقٍ عّدةٍ بلا أيّ عناءٍ أو ثقافة يمكن البناءُ عليهما، لا على أسسٍ ترتكز على الخبرة المطعَّمة بالموهبة المهنية قبل الشهادة العلمية، كي نحصلَ على حالةٍ من حالات الإبداعِ والتفوّقِ والتميّز.

 

  إطراءُ بعض المنتفعين المضطربين الجهلةِ - ثقافةً وليس علماً- من مواكبِ المنافقين وحمَلة المباخر، أوقع بعضَ المسؤولين في بلادنا في فخّ التوزين لا التقييم، حيث ذهب البعضُ منهم، يزِنُ بعضَ الوجوه بكمّ الجوائزِ الوهمية التي نالتها من هنا أو هناك ببعض حركاتٍ بهلوانيةٍ، تعتمدُ في الأساس على سلسلة العلاقاتِ العامة المرتبطةِ بعدد المسؤولين أو المؤسساتِ أو الشخوص التي تدعم هذه الجوائزَ لهذا الشخص أو ذاك، ليس لأنه مبدعٌ ماهر، بل لأّنه ربّما من حُواة الموالد.  

 

كيف يساورُنا الشكُّ ونحن ندركُ كم نالت الفوازيرُ شهرةً كبيرةً حينما قدّمتها هيفاء وهبى، جراء ما نالها من هجاءٍ بما تستحقّ، فقط لكونِ جيلنا الإعلاميّ الثائرِ على ثوابتِ زمن الشقلبة، لم ينضمَّ بأكمله إلى جوقة المصلّين المنافقين خلف الحاكمِ بأمره، العادلِ النّاهي عن كل الموبقات، أو لكونه فقط رفض أن يصبحَ الوطنُ مجرّدَ لحنٍ فاشلٍ على وترٍ رخوٍ لا ولن يقدّمَ جديداً في عوالمِ النقد البنّاء.

 

  الإشكالُ لم يتوقّف عند هذا الحدّ، وإنّما تخطّاه إلى بعضِ العناوينِ التي ذهبت تذكّرُنا بأنّ الحريةَ كلٌ لا يتجزأ، وحينما مورسَ شئٌ من الحريّةِ عبرَ النظُم والقوانينِ التي تحكمُنا، رأته قمعاً لأصل الحريّات، وكأنّهم يريدون إقناعَنا أنّ علاقةَ الخيارِ بالفقّوس، تعودُ في الأصلِ إلى علاقة الأرضِ بالبذور، وليس نوعَ البذور، علماً بأنّ فكرةَ علاقةِ الخيارِ بالفقّوس ليست مجرّدَ فكرةٍ تافهةٍ فقط بل وسفيهةٍ أيضًا، خاصّةً حينما تتعدّى الحريّةُ الخاصّةُ، حدودَ الحريّاتِ العامّةِ في مؤسساتٍ من المفترضِ أنّها مؤسساتٌ عامّةٌ وليست خاصّةً، يحقّ لأصحابِها فعلَ ما يرَونه مناسباً بوجهةِ نظرِهم، وحريٌّ بنا في هذا السياقِ التذكيرُ بالقاعدةِ القانونيّةِ التي تقولُ: يبقى الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرّر اللجوءُ إلى القضاء.

 

  المذهلُ واللا معقولُ في رؤيةِ هؤلاء، أنّهم يريدوننا أن نكتبَ بأيدينا روزنامةَ تقويمِنا الجديد، لتداعياتِ مشهدِنا الثقافيّ المشوَّهِ، الذي اكتشفنا بعد أعوامٍ متّصلةٍ من الفحوصِ الروتينيةِ، أنّ شرايينَ حياتِه، انفجرَت ولم تتوقف فقط، وأنّ القلبَ الذي تعرّضَ للموتِ المفاجئ وتمّ إنقاذُه في اللحظاتِ ما قبل الأخيرةِ ــ بحسب بعضِ الاختصاصيين ــــ لربّما تعرّض لحالة اغتصابٍ فكريّ، أودى بغشاءِ بكارته، ما يعني أنّ الصمتَ بِرسمِ العجزِ عن الفعلِ، قد يجعل مشهدَنا جسدًا بلا حياةٍ، وربّما تفاصيلَ حياةٍ بلا معنى.

 

أخيراً ونحنُ في حضرة جهابذةِ فوازيرِ الحريّاتِ، جديرٌ بنا ألا ننسى أن الثقافةَ والإعلامَ لا يقومان على حِيَلِ الأقزام، فانتبهوا يا أولي الألباب، فلكلّ أجلٍ كتاب؛ ولكلّ مسؤولٍ حاضرٍ غياب ، كما لكلّ فزورةٍ جواب، فيا أصحابَ المقاماتِ العليا، لا تضيعوا معانيَ الحرية في الدروب الحلزونية.

التعليقات