أسئلة الصّانع / غسّان زقطان

بين حظّ النّبيّ وحظّ المسافر.. حظوظٌ كثيرةٌ هي عربات المرور، من المصادفة إلى العيش وتكثيرها هناك، والبناء عليها، وبناء الهواء عليها لتتنفّس، وهناك تتمدّد المسافة بين يقين النّبيّ ويقين الشّاعر، بين "حظّ النّبيّ" ودأب الشّاعر.

أسئلة الصّانع / غسّان زقطان

دفاتر الأيام في مطلع تموز من 2008، قبل توجّه محمود درويش إلى حيفا ثم فرنسا ثم هيوستن في تكساس، شهد قصر رام الله الثقافي آخر أمسيةٍ للشاعر في بلده. كانت تلك الأمسية أشبه بتلويحة وداع. كنتُ قد قرأت القصيدة قبل ذلك، واشترطَ محمود نشرها في "الأيام" بعد الأمسية وليس قبلها، كان معنيًّا، على نحوٍ غريب، أن يعرفها النّاس منه وليس من خلال الصّحافة، كما حدث مع نصوص كثيرة. في تلك الليلة، استطعت كتابة شيء حول "لاعب النّرد." 

نصٌّ موازٍ قصير، اكتمل بالإصغاء إلى قراءة الشّاعر، أخذني انشغالي في قراءة درويش وتتبّعه في الأسابيع الأخيرة إلى هذه القصيدة وإلى نصٍّ متحمّسٍ بقي ناقصًا، حتّى قرأ الشاعر قصيدته بصوته وجسده، أُعيد نشره هنا كتحيّةٍ إلى تلك الـ 90 دقيقة من التّحليق ليلة الأوّل من تمّوز من صيف 2008.

لاعب النّرد: أسئلة الصّانع شكّلت قصيدة "لاعب النرّد"، الّتي احتلّت الجزء الثّاني من قراءة محمود درويش، مركزَ الأمسية ومفاجأتها، وهي مطوّلةٌ تُذكّر من زاوية بعيدة بـ"الجدارية"، دون الوقوع في الإعادة، والتّكرار، كأنّه يرجع إلى المنطقة نفسها سيرًا على قدميه، وبمشية المتمهّل الّذي يتفقد "حادثة الحياة"، ثمّة زاوية جديدة تمامًا للنّظر والتّأمّل والهدوء، شيءٌ يشبه التّفاهم مع قدريّةٍ تصل حافّة اللّعب وهاويته، عندما يبدأ تفكيك السّيرة، سيرة السّارد وسيرة المكان وسيرة المعرفة، السّيرُ الّتي تبدو متماسكةً تتفكّك إلى سلسلةٍ لا نهائيةٍ من العشوائيّة والهشاشة.

في القصيدة أصواتٌ كثيرةٌ تتواصل، وطبقاتٌ وأمكنةٌ تتعدّد، وثمّة شعاعٌ عميقٌ متماسكٌ من السّخريّة، سخريةٌ جانبيّةٌ متخفّفةٌ من الفجائعيّة ولا تشي بالنّدم بقدر ما تشي بتفاهمٍ ما سيؤدّي بعد قليلٍ إلى الحكمة.

السّخرية هي الصّوت الآخر، هنا، العميق الّذي يحفر تحت الأرضيّات والعتبات والممرّات وأفكار الرّضا واليقين، مثل إيقاعٍ من دفوفٍ بعيدةٍ وملتبسة، ليس المقصود إدراك غاياتها وتبيّن مقاصدها، بقدر ما هي دعوةٌ إلى الإصغاء والصّمت وانتظار المكان الّذي على وشك الظّهور.

ليس من السّهل دفع قصيدةٍ كهذه، كاملةٍ وجديدةٍ ومختلفة، إلى جمهورٍ متعطّشٍ يحمل مرجعيّاته الخاصّة والمدروسة عن الشّاعر، ثمّة مغامرة هنا استطاع درويش خلالها، وهو بهذا المعنى مغامرٌ كبير، أن يقود جمهوره وقصيدته معًا، في عربةٍ واحدةٍ بسلامة، من الإصغاء إلى الدّهشة.

لقد أُنجزت أشغالٌ كثيرة، وتمّ قطع مسافاتٍ طويلة، وتمّ تقليب الأرض جيّدًا قبل وصول الشّاعر إلى المطلع أو مدخل القصيدة الّذي سيبدو هنا استكمالاً لهاجسٍ أكثر منه الشّروع في كتابة قصيدةٍ طويلةٍ عن "حادثة الحياة"، وعلى تماسّ خفيفٍ وموجعٍ مع "حادث الموت".. بين تكثير التّأنيث في الحياة وتكثير التّذكير في الموت، اعتراضٌ يطلق وصاياه ويكسبها في آن، لذا سيبدو المطلع والعنوان "تدخّلاً" وليس دخولاً، سيبدو اعتراضًا نضَج ببطءٍ اعتراضًا على اليقين والمتوقّع والمنجز!

"الصّانع" الّذي تخفّى طويلاً يكشف عن قناعه، وتتشكّل هيئته في الضّباب، بينما يتقدّم من التّخوم والمطارح المنعزلة ليتفقّد أفعاله وكائناته، الصّانع بتواضعه وحيرته وتوجّسه، وهو يحمل نواة العمل أو اليقين الوحيد الّذي سيكون دليله في برج بابل الّذي يواصل صناعته، صناعة السّؤال والإصغاء الطّويل للأشياء، للنّوم والمرض والبهجة، للعائلة، للنّجاة.

الإصغاء إلى الإشارات الّتي تأتي من كلّ صوب، ثمّ إعادة ترتيبها ودفعها من سكونها البارد، لتتحوّل إلى خليّةٍ كاملةٍ في الحياة.

بين حظّ النّبيّ وحظّ المسافر.. حظوظٌ كثيرةٌ هي عربات المرور، من المصادفة إلى العيش وتكثيرها هناك، والبناء عليها، وبناء الهواء عليها لتتنفّس، وهناك تتمدّد المسافة بين يقين النّبيّ ويقين الشّاعر، بين "حظّ النّبيّ" ودأب الشّاعر.

نجحت رام الله في الإصغاء إلى محمود درويش الّذي أصبح دون أن يقصد معلَمًا من معالمها الجميلة، وأحد أولادها الأكثر قربًا من القلب.

التعليقات