منى الظاهر، سليلة المشهد الموغل بأقبية اللغة في"يوميات شفق الزغلول" / ناصر الرّيماوي

تواصل منى الظاهر، باستدعاء مشاهد اكثر كثافة للنكبة من خلال وقائع حاضرة لحرب اكثر سخونة وربما غرابة ايضاً، تنضح بماء الصلوات المرتفعة جبهتها الفضية لترتق فجوة فراغية في الذاكرة... حطت على قرميد الصباح في ذلك اليوم البعيد، حين استعادت تطاير خصلة لشعرطفلة يتيمة عبرت على حاجز النكبة، أملاً بعودة قريبة، لكنها لم تَعُد... تأخرتْ لترجع مع اندياح الصبا على هودج عرس، وأوراق ثبوتيه.

منى الظاهر، سليلة المشهد الموغل بأقبية اللغة في

طالعكَ العنوان كلافتة على انعطافة سريعة، تخلّفُ أثر الأرجوان المعرّق في أفق لا أرادي على امتداد بصرك "يوميات شفق الزغلول"، وغبش يثيرك، كبرقع يلثم خلف الجدار ثلثي وجه الصبية، تتوسم في شبوب تَهَدُلِ جفنيها، حُسن ما توارى من ثلثي تلك الملامح، وليس بمقدورك الا ان تواصل، وقبل أن تميط اللثام، ستأخذك الحكايا بعيدا، إلى الطرقات في الناصرة وشعاب سِترِها العتيق، ستنحدر مصحوباً بلغة بصرية عبر أزقتها النافرة نحو تلك البيوت، تتعرج بنفور حجارتها الغافية على لوّم عميق لزمن ستظنه رجع الصدى، وانت تغذّ في السير نحو بيت تعرفه ولا يعرفك، وحين تلمح اعتابه المستلقية على درج الحجارة وتقرُّ بعربشات نباتاته الصباحيه، سوف توقن بأن بينك وبين "زهية" مفتاح ملفع بخيوط حاكته يد صبية بقطبة صنّارة، تخاله لإمرأة مهجّرة من غزة الى الفوّار في الخليل، ، وحدها "زهية" ستدنو من باب بيتها الخشبي وأنت تقبض على الظن حول مصراعه العتيق، على طرف الزقاق.

ليوميات، هي لنا خطتها حفيدة، اودعتها قلب كتيّب أصفر، ورحلتْ، ستفز "زهية" عن أريكتها العائمة فوق مصطبة الدار، لتحاذي أصص الياسمين المتراصة بأنف يعبّ الشذى، لتلقانا... على موعد تسقي به حوض نبات السجادة البنيّة في كل الصباح.

منى الظاهر، سليلة المشهد الموغل بأقبية اللغة في هذه اليوميات ، على انعتاقه يلوح لنا مطرزاً ببياض الياسمين لوهلة، ثم يرمينا بدهشة اقترابه من المرئي، إذ كيف ينطوي يراعات طرية تحت قبضة يدٍ حنونة، وفيه من حدة الصّبار شوك الدلالة! بل كيف نقنع إذ يشفّ بلذعة المرار وهو يخرج الينا معتقا على هيئة النبيذ، وما بينها وبين ازدحام المروج في الجليل، سوى ذاكرة قصيرة بعمر وردة، وحلوى صغار لم تزل يانعة على أرفف الدكاكين، لكن المشاهد تنفلت ضمن إطاراتها التأملية كنمنمات اسطورية رائقة ، تعرّج نحو غيمات طازجة لتبتلّ، قبل ان تندلق بلغة مروّية، تغشانا بماء عطر الفروع السامقة لشتلة ورد نهضت خلف سور حجري على صدر بيت في الناصرة، وعبق مبعثر لشراذم الطيّون على ضفة طبريا هناك، وسط دهشتنا المتنامية تقيم حوارية المشهد على نسق انشطارات متتالية، تلاحقها تحت طائلة الخضوع لجذب يبثك اقصى طاقاته، كي تدرك مدى تورطك القادم، وهي تشن انشطاراتها كزوابع الصهيل في أصص لها اتساع البراري وفسحة السماء، لكنها لا تخرج عن طوع يديك، كي تبقى رهينة حسّك الجمعي، في تطويع ذاكرة فردية، فيومياتها، تكتبنا جميعا، تتحدى ركاكة اليومي في تكلّس همّنا بومضات على جناح برق خاطف، لتضيء فينا سواحل بعيدة، معتمة...، ما الذي جرى في حرب تموز، على جبهة اليومي لإنسانية الإنسان؟ ولم تدركه بصيرة القنابل، حتى تفقد أم فلذتيّ كبدها، وتوزع التمرعن روحيهما في الناصرة، هل لنَعِيْ بالفجيعة كم نحن قريبون من مصاب الضفة والقطاع وقانا، أم لنتشظى ولينفرد كل منّا بما كسبت يداه؟ 

حتى ما بين السطور، فهي تجتثهُ على لسان "زهية"، لتبقى ضمن سياق السرد القريب من واقع اللحظة المرئية، تقلّب أمامنا ورقة صفراء بين يديها لتنتقي من مخطوطة اليوميات، شيئاً عن حرب غزّة، ورحنا نصغي على انحاءات الذبول لأوراق زهر اصفر، أطلّ بيننا لوهلة على وقع مؤثرات سمعية، للكاتبة... ثم تلاشى، كدنا نجزم بأننا نرى ونستمع...، ولسنا نقرأ : "ذلك الطبيب الغزاوي، والذي يعمل في مشفى تل هوشمير بتل ابيب، يفقد ثلاثا من بناته هناك في حرب غزة، واللبلاب يصدح بذبول زهراته الصفراء، من على أغصانه اللّينة" ...

تواصل منى الظاهر، باستدعاء مشاهد اكثر كثافة للنكبة من خلال وقائع حاضرة لحرب اكثر سخونة وربما غرابة ايضاً، تنضح بماء الصلوات المرتفعة جبهتها الفضية لترتق فجوة فراغية في الذاكرة... حطت على قرميد الصباح في ذلك اليوم البعيد، حين استعادت تطاير خصلة لشعرطفلة يتيمة عبرت على حاجز النكبة، أملاً بعودة قريبة، لكنها لم تَعُد... تأخرتْ لترجع مع اندياح الصبا على هودج عرس، وأوراق ثبوتيه.

على مشارف الظهيرة، تطوي "زهية" صفحتها الأخيرة، نشاطرها النظر نحو عريشة العنب، هواء الناصرة يتخلل جلستنا، مترفقاً في تداخله المعتاد، بهبوب عبق روائح مشبعة بندى الحشائش الراسخة لشقوق بيوت عتيقة، ومروج تطوق الجليل، نرى على امتداد النظر أفقا صافيا، تغيب زهية في الردهة الطويلة، قبل وداعنا، تمر العقود وزهية لا تأبه لغيابها، ولم تعد "زهية"... تسمّرنا حتى المساء، نرقب الحمام وأفراخ الحجل على الأكمة، حتى اطل زغلول بنصف جناح من عليّة فوق الردهة، توغل بدم ارجواني في برتقال بيارات وضعتها لنا "زهية" على طبق الضيافة، تناثر الدم على ملوحة المغيب، تبقع الأفق وتمدد فوق سحابة البحر... حتى اطل الشفق، لنفرّ بيوميات الكتاب، بلا وداع يليق.

 

* منى ظاهر: كاتبة فلسطينية تقيم في الناصرة، ولها إصدارات أدبية عديدة، كان آخرها كتاب "يوميات شفق الزغلول".

 

التعليقات