رنا بشارة.. فنٌ في وجه الاحتلال!

أما آخر الأعمال لرنا فهي «زرد السلاسل»، وهو مصنوعٌ من خبزٍ، وهو صرخة الأسيرات والأسرى، رمزًا لمعركة الأمعاء الخاوية، وفي الوقت ذاته، يكشف ضرورة مساواة الأسيرة المناضلة بالرجل الأسير، فبدلاً من القلق عليها، يجب التعاطف معها في مواجهة الاحتلال الذي أهان المرأة والرجل، بل أهان كلُ فلسطيني أينما كان.

رنا بشارة.. فنٌ في وجه الاحتلال!

اختارت الفنانة رنا بشارة، ابنة ترشيحا أن تنقل عبر لوحاتها فلسفتها الخاصة، فهي تنقل الرواية الفلسطينية، بكل أوجاعها من خلال اعمالها الفنية التي تطورها باستمرار، فمنذ رسمت لوحتها الأولى في سن الخامسة عشرة اختارت مجزرتي صبرا وشاتيلا وكفر قاسم، لتكون عنوانا للوحةٍ تجسد معاناة الشعب الفلسطيني.

وظلّت بشارة تطور أدواتها الفنية، منتقلة مِن الرسم العادي إلى الفن الأدائي التعبيري، فصارت تمزج الأشياء مِن حولها لتحولها إلى صرخاتٍ تخترق المشاعر.

والفن بالنسبة لرنا أبعد من مجرد لوحةٍ تعلّق على جدارٍ في معرضٍ أو متحف، صارَ الفضاءُ الواسع هو الحيز الخاص بها، واتخذت من الفن الأدائي الإنشائي هوية جديدة، تنطلق من خلالها بلا حدود

وتنظر الفنانة رنا إلى الأعمال على أنها رسالة تحمل مضامين وفلسفة خاصة، يستطيعُ كُلُ مُتابعٍ لهذه الأعمال أن يفهمها بطريقته الخاصة، هو  الذي يختار المعاني وهو  الذي يحددها.

وتعتقد رنا أنّ الفن الأدائي أصبح سلاحًا في مواجهة الاحتلال، وهي تذكر مثالاً مِن مظاهرة صفورية، والتي تعاملت فيها السلطات الإسرائيلية بمنتهى الفظاظة مع المتظاهرين، وتحاول من خلال أساليبها الهمجية تطهير الفلسطيني عرقيًا، أينما كان، سواء في الداخل أو في الضفة والقطاع أو حتى في أماكن لجوئه القسري، وتذكُر تمامًا كيفَ غطت وجهها في مظاهرة صفورية باللون الأسود، ليتفاجئ العسكر بالرد، الفني على همجيته، فالفن هو أسلوبٌ حضاريٌ وثقافيٌ في مواجهة سياسة البطش والترهيب، وهي بالتأكيد لا تتمتع بالحد الأدنى من الديمقراطية «التي تدعيها» الدولة المحتلة.

رنا لا يهمها أن تتصدر لوحاتها المتاحف، ما يهمها أن توصل رسالتها، وأن تخترق العالم بأجمعه حاملةً همًا فلسطينيًا كبيرًا، أكبر مِن متحفٍ مغلقٍ أو معرضٍ سيُغلق متى يشاء.

المرأة.. حاضرة في أعمال رنا

وتؤكد رنا أنّ بصمة المرأة موجودة في أعمالها، سواء ظهرت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فلوحاتها الأدائية، أو الإنشائية الفنية التعبيرية، تسيرُ بخطٍ متوازٍ مع الرسمة، وهي بمسارٍ دائم نحو البحث، وتعتبر مرسمها مطبخًا لأعمالها، وتستعين بالتصوير لتكتمل اللوحة الفنية لديها، إنها تقوم بدراسة المكان والعمل بتخطيطٍ دقيق، وتقرأ كثيرًا وبتعمق، وتبحث في محيطها، حتى تصل إلى حالةٍ شخصية، تجد فيها أنّ «الطبخة» جاهزة.

رنا ترى أنّ الفن ليس فقط عملاً وينتهي، بل هو نهجُ حياة، تشغّل خلاله كل حواسها، ومشاعرها وتفكيرها وتمارس طقوسًا خاصة، تختار هي مَن يدخل مرسمها، وتبحث في الأفق عن كُلِ جديد، حتى يكتمل العمل، الذي قد يستغرق يومًا أو يومين، أو شهرًا أو حتى سنة أو سنوات.

من بين أعمالها:

تاريخٌ معصوب العينين – وهو عبارة عن 55 لوح زجاج، كل لوح يحمل صورة عن النكبة، وهو عملٌ بدأ منذ العام 2003، ومستمرٌ حتى اليوم، وتعمل حاليًا  على إنجاز اللوحة الـ 63، بعدد سنين النكبة، وهي تستخدم في عملها الإنشائي هذا الشيكولاطة المُرة، حاملةً بذلك تفاصيل مِن الماضي بِما في ذلك النكبة وحكايات الجدات، وقصصهن عن الحزن والندب حين الفُراق، وكيف كانت النساء تندبن عند الوفاة، وتصبغن وجوههن بـ «الشحار»، وكذلك فَعل الاحتلال بالفلسطينيين، حولهم إلى ضحايا تلك النكبة.

وقفة مع المفكر ابراهيم أبو لغد

ولا تنسى رنا علاقتها الشخصية بالمفكّر إبراهيم أبو لغد الذي كان مشجعاً لأعمالها وأباً روحياً لها، وحين توفي ودفن في ارض يافاً شعرت بالرضا لعودته لمدينته والحزن لكونه عاد ميتاً في نعش، فأكرمته برسم عدة لوحات عرضتها في مدينة نيويورك، وعبرت من خلالها عن دفنه في مقبرة يافا لحظة غروب الشمس

ومن طحالب الأرض صنعت رنا  لوجهها  بورتريه أسمته «من عبق الأرض» عام 2008  تعبيراً عن شوقها للوطن بأدق تفاصيله، وذلك بعد اغترابها عنه بسبب منحة دراسية في الولايات المتحدة دامت خمس سنوات.

ومن بين الأعمال الحديثة التي تعمل رنا على تحضيرها كل ما يتعلق بالعائلات الفلسطينية التي يمسُها  قانون «لم الشمل»، وهو القانون الأسوأ في تاريخ الدولة، إذ لا يمكن أن يكون هناك احتلالٌ سيءٌ وغير انساني كالاحتلال الاسرائيلي، الذي يقوم بفصل العائلات الفلسطينية بمن فيهم أهل الضفة والقطاع والقدس وعرب الـ 48، ليقطّع أوصالهم، ويحاول تطهيرهم تطهيرًا عرقيًا.

- بشارة تضيئ شجرة الميلاد بطريقتها الخاصة -

ويشغلُ بالَ رنا معاناة أهالي الشيخ جراح، الذي هُجروا من بيوتهم، ورموا خارج البيت، وعنهم أقامت رنا معرض «المخدات»، وهو عملٌ مضمونه يترجم الفلسطينيين بجميع شرائحهم في الداخل وفي الضفة والقطاع وفي المهجر، والمخدة لها رقبة ورأس، تنام على نفسها، وقد استخدمت رنا 40 مخدة كل مخدة بلون، وبشكلٍ مختلف، وكل مخدة عبارة عن لاجئ، في أرضه، تمامًا كما يعيش أهل الشيخ جراح.

والفكرة ذاتها استعملتها رنا في مسيرة العودة الأخيرة، حيثُ حمل الصبايا والشباب المخدات رمزًا للعودة القريبة. وزينت المخدات بالكوفية الفلسطينية.

وتحاول رنا أن تترك مساحة كبيرة للمتلقي كي يحلل العمل، وهي في جميع أعمالها تقريبًا تتطرق أيضًا للمرأة بكل ملامحها الفلسطينية.

بينما ترى رنا أنّ هناك قضايا هامة جدًا على الفلسطينيين أن يطرحوها، وأن يعالجوها، فلا يحقُ للرجل كتب صوت المرأة وحضورها، وكذلك المرأة.

وتذكر رنا من بين الأعمال التي تطرقت فيها للنساء وتهميشهن «كلبشات السجناء البيض»، حيثُ نسجت منهم فستان على جسمها، وفيه أرغفة خبز، تحكي عن المرأة، كأساس ومصدر للثقافة والحضارة لكنها مهمّشة، بينما كانت في الانتفاضة الأولى لها دورٌ بارز في النضال.

أما آخر الأعمال لرنا فهي «زرد السلاسل»، وهو مصنوعٌ من خبزٍ، وهو صرخة الأسيرات والأسرى، رمزًا لمعركة الأمعاء الخاوية، وفي الوقت ذاته، يكشف ضرورة مساواة الأسيرة المناضلة بالرجل الأسير، فبدلاً من القلق عليها، يجب التعاطف معها في مواجهة الاحتلال الذي أهان المرأة والرجل، بل أهان كلُ فلسطيني أينما كان.

المرأة رمز العطاء

وترى رنا أنّ هي المرأة هي رمز الحب والعطاء، وهي التي تُربي الأجيال، وفي لوحاتها تحاول أن تظهر مقدرة المرأة على أداء دور العطاء، لكنها في نفس الوقت تُلام لأنها هي نفسها التي ربت ابنائها على التقليل مِن شأن المرأة، بتمييزها في التعامل بين الفتاة والشاب، وهذه أيضًا، مِن حياتنا السلبية التي يجب أن نعالجها قبل أن تستفحل، سواء بلوحة، أو بعملٍ تعبيري، أو بتثقيفٍ جدي تجاه أبناء شعبنا.

التعليقات