فيما وراء اقتصاد الحروب: لماذا أرعبتهم "رام الله الشقراء"؟/ هاني عواد

لا يحاول هذا النصّ مناقشة هذا العمل الروائي بقدر ما يتوخى مناقشة سياقها، ولا مناص من العودة إلى الرواية لقراءة ما هو برأيي تشخيصٌ دقيق لظواهر تصاحب ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الحروب"، حين تتسلق فئاتٌ اجتماعية محليّة وعالميّة شتّى، وتعيش على هامش فائض الإنتاج الماديّ والرمزيّ الناتج من التدفّقات المالية الدولية الهادفة لتسوية الصراع أو تأجيجه، ورام الله في هذه الحالة ليست استثناءً، وربما برزت في العام الماضي الثورة السوريّة كحالة مشابهة للحالة الفلسطينية من حيث الاستفادة من توزيعِ ريوع المعونة الدولية: الآلاف من "الناشطين" ينفخون في أبواق "حقوق الإنسان"، والمئات من "المناقصات" التي تعرض "التضامن" مع الشعوب طمعًا في نفخِ جيوبهم الخاصة.

فيما وراء اقتصاد الحروب: لماذا أرعبتهم

 

نشر أحد الكتّاب الفلسطينيين في أحد الصحف الفلسطينية "الحكومية" مقالًا جاء تحت عنوان: "أرعبتني رام الله الشقراء". ولمن لم يسعفه الوقت لمتابعة المحاولات الأدبية الفلسطينيّة المحليّة، فإن "رام الله الشقراء" هي عملٌ روائيٌ لكاتبٍ فلسطينيٍّ شاب يُدعى عبّاد يحيى حاول من خلالها التركيز على الوجود الأجنبي في الضفة الغربية وما وراء كواليس "التضامن مع الشعب الفلسطينيّ"، وهي زاوية يحاول الكثيرون إخفاءها، ليس لأنّها تكشف جانبًا مما يُرتكب باسم فلسطين في حياة رام الله الليلية، بل لأنّها تفضح أيضًا أحد مراكز القوى المتحكمة في المسار السياسي والاجتماعي الفلسطيني والتي لم يُكشف النقاب عنها بعد.

لا يحاول هذا النصّ مناقشة هذا العمل الروائي بقدر ما يتوخى مناقشة سياقها، ولا مناص من العودة إلى الرواية لقراءة ما هو برأيي تشخيصٌ دقيق لظواهر تصاحب ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الحروب"، حين تتسلق فئاتٌ اجتماعية محليّة وعالميّة شتّى، وتعيش على هامش فائض الإنتاج الماديّ والرمزيّ الناتج من التدفّقات المالية الدولية الهادفة لتسوية الصراع أو تأجيجه، ورام الله في هذه الحالة ليست استثناءً، وربما برزت في العام الماضي الثورة السوريّة كحالة مشابهة للحالة الفلسطينية من حيث الاستفادة من توزيعِ ريوع المعونة الدولية: الآلاف من "الناشطين" ينفخون في أبواق "حقوق الإنسان"، والمئات من "المناقصات" التي تعرض "التضامن" مع الشعوب طمعًا في نفخِ جيوبهم الخاصة.

ما يحدث في رام الله إذًا منذ عقدين من الزمن ليس استثناءً، ولكن الاستثنائيّ الذي تشخصه الرواية بشكلٍ فذَ هو حالة الاغتراب العميقة التي يعيشها الإنسان الفلسطيني في المدينةِ الفلسطينية جرّاء انكماش أيديولوجية "الثوابت الفلسطينية"، وغزو المظاهر الاستهلاكية التي تعتاش على فائض "المساعدة الدولية"، فعبّاد يحيى في "رام الله الشقراء" هلعٌ من مشهد صعودِ فندق الـ"الموفنبيك" على تخوم مخيّم الأمعريّ للاجئين الفلسطينيين، وهو متحسسٌ في الآن نفسه من غزوة "الزجاج" التي تغطي المباني الفلسطينيّة الجديدة، فعمران رام الله يعيش حالة استعراضٍ كرنفاليّة دائمة ويستبعد أيّ مواجهةٍ مستقبليّة مع الاحتلال محتذيًا حذو المقولة الشعبية: "من كان بيته من زجاج، لا يرمي أعداءه بالحجارة".

ولكنَّ التناقض لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل يتعداه إلى إشكال التمثيل الأيديولوجي، فمنذ اتفاقية أوسلو حرصت الأيديولوجيا الثقافية الفلسطينية المهيمنة على إعادة تمثيل الواقع الفلسطيني بالضفة الغربية وقطاع غزة، وكان هذا الاتجاه السائد مفهومًا آنذاك. لكن ما هو غير مفهومٍ اليوم هو تسويق رام الله على أنّها نموذج المدينة الفلسطينية، وتسويق الورم الاستهلاكي فيها على أنّه المعيشة الفلسطينية المبتغاة، ضدًا للنموذج الغزاوي: المدينة الفلسطينية المقاومة التي يكتفي إنسانها بنصف المسكن ونصف العيش وبكلِّ الموقف الوطنيّ ضد الاستعمار.

وعودٌ منّا إلى عنوان المقال؛ ما السبب الذي يجعل كاتبًا في صحيفةٍ حكوميةٍ فلسطينية مرعوبًا من عملٍ روائيّ مثل "رام الله الشقراء"؟ يعلل الكاتب ذلك بأنَّ الرواية  "ليست رواية"، وأنّها "بلا أسلوب يسبب متعةً جماليةً"، وأخيرًا بأنَّ "الكاتب ليس روائيًا بل هو صحافيّ"، لأنَّ "الروائي لا يكره ولا يشتم ولا يسخر بكل هذا الكمِّ من الوضوح والمباشرة، الصحافي يفعل ذلك".

حسنًا؛ سنفترض جدلًا أن كاتب المقالة لا يعرف شيئًا عن المدرسة السارترية، حيث الوظيفة المركزية للفنّ هي التعريّة والاتهام. وسنفترض أيضًا أنّه من أنصار مدرسة التلذذ بخرابيش ما بعد الحداثة. سنفترض أيضًا أن الكاتب غير مهتمٍّ بأحدِ أهم الكشوف السوسيولوجية حول "الذوق"، حيث الذوق بحسب بيار بورديو مبنى اجتماعي تشكّله القوى الاجتماعية المهيمنة، فالجمال بحدّ ذاته لا يخلو من نزعاتٍ سياسية مطمورة. سنفترض كلّ ذلك جدلًا وسنستنتج بعد ذلك: هذا ليس سببًا كافيًا للرعب!

ما هو مرعبٌ برأينا لهذا الكاتب ولغيره من مثقفي الأيديولوجيا السائدة، هو خروج شكلٍ من أشكال الكتابة تتجاوز التنميط السائد، ولمن لا يعرف؛ فقد بدأت هذه المسيرة على هامش المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية (وأخصّ بالذكر بعض أساتذة جامعة بيرزيت)، ليصبح عملُ عبّاد يحيى أحدُ تجليّات هذه النقاشات المرعبة، والتي رغم هامشيتها، فإنّها تحاول المُضيّ قُدمًا في فضحِ ما وراء حملة النمذجة لرام الله المستعمرة. وسياسة "توزيع المواقع" التي يمارسها مثقفو السلطة، هكذا بدلًا من أن يناقش الكاتب مضمون العمل الروائي وتجلياته، يتبرع بإلصاق شبهة الأيديولوجية بالمؤلف لأنّه حسب رأيه "تورّط في جملة مخيفة استغربت وجودها أيّما استغراب: قال بما معناه رداً على مديرة أجنبية لمؤسسة تتفاخر بأنها تبني لفلسطين: هي لا تعرف أن (حماس) بنت في الثمانينيات عشرات المستشفيات". هذا هو أقصى ما يستطيعه النقد الأدبي الفلسطينيّ المعاصر الذي تفزعه "حماس" أكثر من أن تفزعه مديرة أجنبية تعيد استعمار فلسطين.

من سوء حظ الثقافة الفلسطينية أنّها دائمة التبعية إلى المؤسسة السياسية، وهذا هو سبب عدم قدرتها على إنتاج جماعة أدبية، ومن حسنِ حظّ "رام الله الشقراء" عدم وجود جماعة أدبية تملك مقصلة التمييز ما بين "الأدبيّ" و"غير الأدبيّ"، فغياب المقصلة يكفل لها التحليق عاليًا بلا اكتراث.

 

التعليقات