كأنهم الشعراء / وليد أبو بكر

في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، الذي عقد في أبو ظبي مؤخرا، والذي يمكن اعتباره واحدا من أبرز الاجتماعات التي شاهدت كثيرا منها، على مستوى الحوار الإيجابيّ، والإنجاز النهائيّ، كانت هناك نقطة بارزة شعر بها كثيرون ممن تابعوا، وهي ضعف المشاركات الشعرية، رغم كثرة عددها الذي يكون في العادة أكثر مما يفوق اللازم.

كأنهم الشعراء / وليد أبو بكر

في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، الذي عقد في أبو ظبي مؤخرا، والذي يمكن اعتباره واحدا من أبرز الاجتماعات التي شاهدت كثيرا منها، على مستوى الحوار الإيجابيّ، والإنجاز النهائيّ، كانت هناك نقطة بارزة شعر بها كثيرون ممن تابعوا، وهي ضعف المشاركات الشعرية، رغم كثرة عددها الذي يكون في العادة أكثر مما يفوق اللازم.

مع ذلك، لا يمكن القول إن الضعف جاء بسبب كثرة العدد، لأن الإحساس كان ينطبق على الغالبية العظمى، ولا يكاد يستثني منه إلا من حفظه ربه، وربما ما لم يسمع، بسبب عدم قدرة القلب على الاستمرار.

ومع أن الحديث عن انحسار دولة الشعر، وصعود دور السرد، يدور منذ سنين عددا، إلا أنه كان عاما في الواقع، وربما يستند إلى توزيع ما ينشر في الأنواع الأدبية، مع ملاحظة لا تغيب، هي أن الشعر ظلّ يحتل مكانته في المخاطبة المباشرة لمتلقيه، متحولا إلى نوع من المسرح، يستجلب التصفيق في بعض الأوقات انفعالا به، ويظنه الشعراء فعل إعجاب حقيقيّ، وهو فعل استجابة مباشر، ومؤقت، ولا يتساوى مع مقايس النقد التي تجيء بعد ذلك.

قد يظن للوهلة الأولى أن التوزيع الضروري للمشاركين في مهرجان الشعر المصاحب على الدول العربية الأعضاء في اتحاد الكتاب سبب في زمن غياب الاتصال البعيد، وذلك لأن الشعر قادر على أن يولد في أكثر ذلك، ولكن الأمر بالتأكيد ليس كذلك هذه المرّة، حتى وإن كان ممكنا في الدول بعدا أو فقرا، كما يمكن أن يولد في أقربها وأكثرها غنى؛ وللقياس: علينا أن نلاحظ فنون السرد العربيّ المعاصر، ومدى نجاح الجادّين في كتابتها (خلافا لمن يرتكبون الإثم في كتابتها)، من أقصى المغرب العربيّ حتى آخر الخليج العربيّ، لنكتشف أن المكان لم يعد ذا صلة، حتى وإن تدخلت بعض العصبيات الإقليمية التي يسوسها من يرغب فيها ويستفيد، لأن اللغة تجمع، ولأنها وحدها أداة التعبير ووحدة القياس، وهي التي تقول للشعر العربيّ الآن: إلى أين تسير؟

وحتى يكون تحديدٌ ضروريّ من باب المثال، يمكن الإشارة إلى أن ظاهرة غريبة رافقت هذا المهرجان، رغم أن المشاركين فيه تغلب عليهم صبغة الشباب: هذه الظاهرة هي العودة إلى الشعر العمودي، دون أي تجاوز فيه. لقد قدموا شعرًا ينتمي إلى القديم مبنى ومعنى، دون أن يصل إلى مستوى القديم الأصيل، ذلك القديم الذي ظلت لغته تتحرّك معبرة عن عصرها في الألفاظ التي تحمل معاني جديدة، وفي توليد الصور الشعرية والمعاني من الواقع الجديد.

في هذا المهرجان، كان هناك شعور بأن الشباب ـ تحديدا، ومن الوطن الكبير كله دون تمييز ـ لجأوا إلى استخدام كلمات قديمة فقدت قدرتها الأدائية، لدرجة أن بعضها يعدّ في عداد الموتى منذ عصور، فجاء "إحياؤها" مفاجئا وبعيدا عن الإحياء، لأن غبار الدفن ظلّ عالقا بها ويملأ القاعات الأنيقة.

كما أن هناك ظاهرة أظنّ أنها لا تجد لها مكانا إلا في عصور انهيار الشعر (ولا أقول انحطاطه، لأن الشعر / الشعر لا ينحطّ أبدا) وهي ظاهرة معروفة لدى شعراء المستوى الرابع (بالتصنيف العربيّ) أو أدنى: إنها "تحضير وجبة" القوافي مقدّما، ثم بناء الأبيات عليها بعد ذلك. وفي هذا السلوك، كثيرا ما يخدع "الشعراء" أنفسهم بالظّنّ أنهم يخدعون المتلقي فلا يشعر، وهو ما يؤكد أنهم من ذلك النوع المشار إليه، لأنهم لا يعرفون أن الصنعة (أو الافتعال)، تصدم من يستسيغ الشعر، في كلّ حواسه المتحفّزة للتلقي، لا في سمعه وحسب.

ولا أظنّ أن هذا التوجه نحو "الشعر الذي مات" يشكل ظاهرة منفصلة عن سياقها الاجتماعي على الإطلاق، لأن الشعر ابن مجتمعه، حتى وإن تطلّع من أرض هذا المجتمع نحو سمائه، لأن ذلك سيكون في سمائه أيضا. ولأن الأصولية الحديثة، لا الأصالة، تحاول أن تنشر أجنحتها فوق الأرض العربية كلها، وتعبّر عن ذلك سياسيا و"جهاديا" في مواقع كثيرة، كما تحاول أن تعبّر عن ذلك ثقافيا بمنع الإبداع من أن يمارس حريته، فإنني أظن أن "الردّة" إلى هذا النوع من الشعر، ليست سوى تعبير عن الأصولية في مجال آخر، وهو ما يمكن أن يثير الخشية على الشعر، وعلى الشعراء أيضا. حفظ الله الشعر من مثل هذا ليظل صوت العرب وديوانهم وما يميز لغتهم ولو كفر الغاوون.

التعليقات