البغيّ العذراء / خيري منصور

إنها ليست على غرار المومس الفاضلة لسارتر أو في ضوء رؤية وجودية مضادة للسائد الاتباعي، تلك الرؤية التي دعت سارتر ليدافع بحصافة نادرة عن جان جينيه الذي حظي بوصف القديس الشهيد، بعكس ما وصف به جينيه من نقاد يليق بهم ما إطلقه سارتر نفسه على بورجوازيي مدينة بوفيل من نعوت.

البغيّ العذراء / خيري منصور

إنها ليست على غرار المومس الفاضلة لسارتر أو في ضوء رؤية وجودية مضادة للسائد الاتباعي، تلك الرؤية التي دعت سارتر ليدافع بحصافة نادرة عن جان جينيه الذي حظي بوصف القديس الشهيد، بعكس ما وصف به جينيه من نقاد يليق بهم ما إطلقه سارتر نفسه على بورجوازيي مدينة بوفيل من نعوت.

 

وليست البغي العذراء أيضا ذات صلة بالأسطورة وتجلياتها، خصوصا تلك التي تتحدث عن مياه أخيلوس، حيث ما أن تغطس فيها البغي حتى تستعيد بكارتها، لكن هناك على الدوام نقطة ضعف منسية، هي الكعب الذي يبقى خارج الماء، الأقرب إلى ما أعنيه بالبغي العذراء هو ما كتبه الشاعر الراحل خليل حاوي قبل عقود وكان جذر تشاؤمه المزمن فقد قال :

الجماهير التي يعلكها دولاب نار

من أنا كي أردّ النار عنها والدّوار

عمّق الحفرة يا حفّار… عمّقها لقاع بلا قرار 

اصطاد قلبه ببندقية صيد عشية ذلك الاجتياح الذي افتضّ بكارة أمة عام 1982. ورغم أن حاوي بشّر بحماس شديد ومشحون بعاطفة قومية بالنهوض والمستقبل الأشبه بيوتوبيا، إلا أنه عانى في الوقت ذاته من إحباط دفعه إلى القول على نحو مباشر: تولد الفكرة في السوق بغيًا ثم تقضي العمر في لفق البكارة. 

تلك هي الرؤية التي أود التحليق حولها بقدر ما تسمح به جاذبية هذا الواقع الاجتماعي، وما رصده حاوي في ستينات القرن الماضي يتكرر الآن بشكل اجتراري لكن خارج المراصد كلها.

فما كان يسمى وقع الحافر على الحافر ثم تطور إلى مفهوم حديث هو التناص، تحول إلى ذريعة للتلاص وليس للتناص، وساهمت الفضائيات والإنترنت وسائر وسائل الاتصال الحديثة في تكريس هذه الذريعة، بحيث لم يعد القارئ يعرف أو يميز بين الأصل والصورة، أو الصوت والصدى، ونحن في ظهيرة هذا التاريخ وفي ذروة عنفوانه أحيانا وتوحشه أحيانا أخرى، ليس لدينا ماء أسطوري تستعاد فيه البكارة وعقب أخيلوس تمدد حتى شمل الجسد كله. لهذا فما من سبيل لأن تستعيد البغي بكارتها، والطريق المطروق حتى الإذلال الاجتراح الأول، فما أن تخرج عبارة كالزفير من مبدع حتى تتحول إلى شهيق لعدد لا يحصى من هواة التنقل وترديد الصدى كالببغاوات.

والمزعج في هذا السطو ليس السطو بحد ذاته، بل خلع عبارات من سياقاتها الأصيلة وزرعها في رمل عقيم حيث لا يرجى لها أي نماء، وأحيانا يكون توظيف السطو عليها عكسيا بحيث تكون الجريمة الفرويدية مزدوجة، ضحيتها الأب والابن معا، وقد تشمل الحفيد.

* * * * *

لأن أدبنا يعاني منذ عقود غياب النقد بمعناه الأصيل، وليس الاشتقاقي القادم من ممارسات دجاجية، فقد تولى ملء الفراغ إعلامٌ هو أقرب إلى الإعلان، وأصبح مقدمو برامج ثقافية أو صحافيون هواة هم البدائل للنقاد في حقبة يطلق عليها اسم ما بعد الحداثة، وهي في حقيقتها تعود إلى ما قبل الحداثة وما قبل النقد، إذا اتفقنا مع ماكفرلين بأن بيان موت الحداثة قد صدر في برلين عام 1815، أي قبل ما يقارب القرنين !

والقصيدة أو النصّ الذي هو في حقيقته تلفيق من ذاكرة خصبة وخيال مجدب يتصور ناشره للمرة الأولى أن عذريته وبكارته هي مبرر النشر، وكأن هناك بحيرة سرية لا نعرفها تنقع فيها النصوص البغايا بحيث تتطهّر تماما من كونها مستعملة، وهنا لا أجد حرجا في تسمية نصّ من هذه السلالة بأنه نصّ مستعمل، وعندما كان لدينا نقد ساهر وراصد أقام نقاد الدنيا على تماثل قد يكون شكليا بين قصيدة لصلاح عبد الصبور وأخرى لإليوت، وقصيدة للماغوط وأخرى لأمل دنقل، وقصيدة لنزار قباني وأخرى لجاك بريفير، وليس معنى ذلك أن مهنة الناقد هي التصيّد، لكن حين يكون هناك مناخ نقدي به حصافة وجديّة ومتابعة، فإنه يفرض حضوره على الهواة أو النّقلة كي يكونوا أكثر احترازا وأقل استخفافا بجهود الآخرين.

إن أكثر أنماط النقد شيوعا اليوم هو الحك المتبادل بين شعراء أو روائيين، وإذا استثنينا إعلانات الناشرين وما يكتب على الأغلفة من تبشير مجاني، فإن النقد في أكثر جوانبه جدية منصرف إلى مقاربات نظرية، وامتطاء موجات مترجمة هي على الأغلب تتعاقب ولا تصل، لهذا نسخت بعضها، من الوجودي إلى الشكلاني، ومن الواقعي إلى البنيوي، رغم أن هناك بنيويات عديدة وواقعيات لا حصر لها أو بلا ضفاف، تبعا لما أطلقه جارودي على دراسة مضادة للواقعية الزواحفية، عندما أعاد قراءة سان جون بيرس وكافكا.

* * * * * * *

النقد وحده المنوط به التفريق بين البغي والعذراء، فالظاهر الاجتماعي في زمن التضليل يجانس بين الأضداد في الشارع والمقهى، لأن التضليل بكل ما سخر لخدمته من منجزات التكنولوجيا حوّل حياتنا إلى حفلة تنكرية على امتداد الأعوام وليس في ليلة رأس السنة فقط، فالنقد الآن لا يكتشف ولا يٌفحص لأنه أصبح رهينة إعلام لا وقت لديه كي يتأمل ولو قيّض لأدبنا العربي في السنوات المقبلة نقد جدي لحاول بأثر رجعي أن يعيد رسم التضاريس ويفضّ الاشتباك بين المعرفي والإعلامي الموسمي، إذ لا يمكن للمشهد الثقافي ومنه النقد أن يبقى على هذا النحو، عاطلًا عن مهمته ومخليًا المكان لأشباه يختزلون الثقافة إلى واجهة اجتماعية أو وظيفة، فالالتباس الآن هو حول من يعملون في الثقافة إبداعًا وبحثًا، وبين من يشغلون مواقع في إدارتها، وما يلاحظ بقوة هو أن المثقف العربي أدرك هامشية مهنته ودوره فسعى إلى ربط القط بذيل البعير، أو بمعنى آخر استدعى كل احتياطياته عديمة الصلة بالثقافة كي ينجو من الفاقة والبطالة والتهميش، وكأن مقولة الذين أدركتهم مهنة الأدب يعاد إنتاجها الآن لكن بمهارة إعلامية تحجب الحقيقة.

أما من تشبّثوا برهانهم التاريخي والأخلاقي بهذه المهنة غير المعترف بها عمليًّا، مما يضطر ممارسيها إلى الدفاع عن ضرورتها وجدواها، فهم على موعد محتم مع إعادة الاعتبار بعد أن تصفو السماء ولو قليلًا، ويصحو السائرون نيامًا في لحظة غسقية لا النهار فيها انقضى ولا الظلام فيها حلّ!

(القدس العربي).

التعليقات