فيروز.. قصّة تهجير وعودة../ روضة غنايم

وفي مدخل شارع (شحاده شلح)، في قلب حيّ وادي الّنسناس العربيّ النابض، شجرة كينا كبيرة، شامخة تطل على كنيسة الروم الكاثوليك، وعلى دوار إميل حبيي.. هذه هي الشجرة التي من خلالها فيروز استنشقت هواء رائحة حيفا، وأكدت لها أنها في قلب حيّها في مدينة حيفا، بعد تشرد دام اكثر من سنتين في لبنان، فقد أصبحت هذه الشجرة جزءأ من حياة فيروز وكيانها، فلا تستطيع أن تتخيل الواد من دونها، ويطلق اليوم سكان وادي النسناس على هذة الشجرة لقب "شجرة الموت"، تعلق عليها إعلانات النعي

فيروز.. قصّة تهجير وعودة../ روضة غنايم

الشّجرة والأرض والإنسان

الشجرة عبارة عن تواصل ما بين الأرض والسماء، ما بين الأرض والإنسان، يمتد عُمرها غالبا لسنوات طويلة أطول بكثير من سنوات الإنسان على الأرض، فتعتبر بذلك جسراٌ بين الأجيال، "تحافظ" من خلاله على قصص وذكريات الناس، فجذور الشجرة تربطنا بالماضي وفي الوقت ذاته، تعلمنا التمسك بالأرض وتمدنا بقوة العمل في الحاضر لهدف ضمان المستقبل.

وفي مدخل شارع (شحاده شلح)، في قلب حيّ وادي الّنسناس العربيّ النابض، شجرة كينا كبيرة، شامخة تطل على كنيسة الروم الكاثوليك، وعلى دوار إميل حبيي.. هذه هي الشجرة التي من خلالها فيروز استنشقت هواء رائحة حيفا، وأكدت لها أنها في قلب حيّها في مدينة حيفا، بعد تشرد دام اكثر من سنتين في لبنان، فقد أصبحت هذه الشجرة جزءأ من حياة فيروز وكيانها، فلا تستطيع أن تتخيل الواد من دونها، ويطلق اليوم سكان وادي النسناس على هذة الشجرة لقب "شجرة الموت"، تعلق عليها إعلانات النعي.

بائع الحليب ... وأرض اليهود!!

فيروز دانيال- كركبي حيفاويّة الأصل من مواليد عام 1934، فالضحكة لا تفارق محّياها والتفاؤل يخيّم عليها. ومع ذلك، تتحّدث عن نكبتها ونكبة عائلتها وكأنها حدثت بالأمس، تتحدث ببراءة.. الطفلة التي عاشت النكبة، يجلس حفيدها الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يستمع إليها بشغف ويحفظ قصة جدته ونكبة شعبه، ويرددها دون ملل أو كلل. مُخيلة الطفل تأخذه لسنوات التهجير مثلما الواقع هجر جدته.

نشات فيروز وترعرعت في شارع "ستانتون" ("شيفات تسيون" اليوم) إلى أن بلغت الثانية عشرة من عمرها، وعن ذلك تحدثّنا قائلة: "أذكر أن عائلات يهودية كانت تسكن في حينا، وكانت تربطنا علاقات إنسانية وطيدة وجيرة حسنة، كنت ادخل بيوت المتدينين منهم أيام الجمعة والسبت لإشعال والغاز أو إضاءة النوّر".

وتضيف: "أذكر جيدا كذلك بائع الحليب اليهودي الذي كان يأتينا على حماره، يرتدي القنباز ويتحدث العربية بطلاقة، حيث كانت عمتي جوليا التي عملت على تربيتي بعد وفاة والدتي، تقوم بشراء الحليب منه يوميا. و تذكر فيروز كيف أتاها بائع الحليب في إحدى المرات، ونزل عن حماره وجلس على الأرض إلى حين حصوله على ثمن الحليب، فتقول: "سألته عمتي لم تجلس على الأرض، أتريد أن أحضر كرسيا؟" تصمت للحظات وتقول: "لا يمكنني أن أنسى جوابه، فهذه الجملة ما زالت عالقة في ذاكرتي". تتنهّد وتقول: "قال: "لا.. القفا قفاي والأرض أرض اليهود!". وتتساءل بتهكم: أرض اليهود؟ّ!


ليلة سقوط حيفا

تتذكر فيروز ليلة سقوط حيفا وتقول: "كنا نسمع عن المشاجرات والمناوشات بين العرب واليهود في مناطق مختلفة في المدينة، وخصوصا في حي وادي النسناس وال-"الهدار"، وكنا نهاب أن يهاجمنا اليهود المسلحين بالبنادق والمسدسات".

.." المناوشات بين العرب واليهود كانت متكررة، كنا نخاف أن يهجم اليهود علينا من ال-هدار.. كان أبوي كل ليلة يضع كرسي باب البيت ويراقب "دار السلام"، حيث كان على سطحها جنود انجليز يضعون القبعات الحمرا، وكان عمي يشتغل هناك "ُترجمان"/مترجم من الانجليزية الى العربية". وتضيف: "في ليلة من الليالي لم ينتبه والدي للجنود اصحاب القبعات الحمراء فوجد جنودا جدد.. وحينها صاح وقال لعمتي جوليا "جنود إسرائيل صاروا بدار الانجليز!!" وحينها اضطررنا للهرب من الشبابيك خوفا من مداهمة المنزل".

قوات الـ"هاجاناه" تثير الهلع والفزع

تتنهد فيروز قليلا، وتكمل قائلة: "قفزنا من الشبابيك وعبرنا إلى ساحة كنيسة الروم، أنا واخي وعمتي ووالدي.. اقتحم المكان مقاتلو ال"هجاناه"، دخلوا الكنيسة وطلبوا منا أن نرفع أيادينا ونسلم أنفسنا ويا للمفارقة، لم يكن مقاتلو "الهاجاناه" غرباء، بل كانوا من شباب الجيران اليهود، حتى أن أحدهم تربى وترعرع عند جدتي!!".

وتضيف: "طلبوا من الشباب الخروج من الكنيسة إلى الساحة، ومن العجزة والأطفال البقاء داخل الكنيسة ... ارتعبنا وأصابنا الهلع عندما سمعنا ضجيجا على باب الكنيسة، وعندما اقتربنا لفحص الأمر اتضح أن جارتنا (أم السعيد) أمام الباب، وبقيت تنزف دما إلى أن فارقت الحياة. وبقيت مدة يومين في ساحة الكنيسة، إلى أن سقطت مدينة حيفا.. ومن ثم دفنها. وكان قد تم اعتقال أبنائها من قبل "الهاجاناه".

رفضنا العلاج في "روتشيلد"

وتكمل فيروز: "بعد سقوط مدينة حيفا توقف إطلاق النار، وطلب من جميع المتواجدين في الكنيسة العودة إلى بيوتهم.. إلا أن عمتي جوليا لم تقبل العودة إلى بيتها، لأنها علمت أن اختي فكتوريا أصيبت وهي بين الجرحى.. وكانت أختي تعمل في "الصليب الأحمر"، فذهبنا إلى المستشفى "الإيطالي" في حيفا، أسعفوا أختي وطببوها، ولكن الحالة تطلبت نقلها إلى مستشفى "روتشيلد" لاستكمال العلاج، لكن عمتي خوفا من أن يقوم اليهود بقتلها في مستشفى "روتشيلد" فضلت أن تسافر اختي إلى لبنان، لتلقي العلاج.. فهكذا أجبرنا أنا وأخي وزوجة عمي على السفر إلى لبنان، وبقيت هي في البلاد لتحافظ على ممتلكاتنا وتحرس دار العائلة".

رحلة السفر بالمركب الى لبنان

تتابع فيروز حديثها بالقول: "رحلنا إلى لبنان بمركب "بوطاجي"، أبحرنا في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر من ميناء حيفا. كان المركب صغيرأ ومليئا بالمسافرين، أكثر من 300 راكب.. أبحرنا وكان البحر مائجا وهائجا وتكبدنا مشاق الإبحار ومخاطره، حيث هاج البحر واشتدت الرياح.. فشعرنا بأن الموت يهدد حياتنا .. وبعد صعوبات ومخاطر وصلنا ميناء بيروت في الرابعة صباحا وبقينا في لبنان عامين".

وتؤكد فيروز بأنه في الأيام والليالي الأولى كانت تسمع أصوات النازحين من فلسطين، وقصصا تقشعر لها الأبدان، فكانت هناك وفود كبيرة من أرجاء مختلفة من فلسطين: حيفا، عكا، يافا، دير الأسد، صفد .. وبعدها علمنا بأن إسرائيل احتلت بلادنا وسيطرت على أراضينا وبيوتنا".

يوم العوده لحيفا

وتقول فيروز: "في أحد الأيام، وفي تمام التاسعة صباحا، سمعنا طرقا على الباب، وفوجئنا بأن عمتي جوليا جاءتنا من حيفا قائلة: أتيت من حيفا، فاستعدوا للعودة.. وحينها قلت لعمتي بأني كنت انتظر هذه اللحظة حيث أردت العودة إلى مدينتي الحبيبة حيفا منذ وصولي لبنان .. أما أختي فكتوريا وأخوي ميخائيل فبقيا في لبنان لاستكمال دراستهما.

عملت أختي قابلة لدى الملك حسين

وتكمل فيروز حديثها، قائلة: "بعد أن تخرجت فكتوريا من لندن، انتقلت للعمل في مدينة "الحسين" الطبية في عمان، حيث كانت تعمل قابلة لدى الملك حسين،حيث قامت بتوليد الملك عبدالله".

الطريق الشاقة

وعن رحلة العودة إلى حيفا قالت فيروز: "غادرنا لبنان برفقة عمتي سيرا على الأقدام إلى أن وصلنا ضيعة رميش، استغرقت المسافة ساعات طويلة في الليل وكانت مليئه بالمخاطر والطريق شائكة وعرة. وبعدها أكملنا السير من رميش الى سعسع.

شجرة الكينا من جديد

وتختتم حديثها متأثرة، قائلة: "أكملنا السير إلى قرية حرفيش، ومن هناك ركبنا سيارة شحن ووصلنا ترشيحا، ومن ترشيحا أكملنا سيرنا الى مدينة حيفا وما أن وصلنا أول وادي النسناس رأيت شجرة الكينا فعلمت بأني وصلت مدينة حيفا حيث ذكرتني هذه الشجرة بالمنطقة، فشعرت بالأمان والحنين وشممت "أريج" حيفا، وكانني كنت في القبور بين الأموات وعادت الحياة.. فأنا أحب مدينتي حيفا وبلدي ووطني جدا. عند عودتي إلى حيفا كنت أبلغ ال(14) من عمري... وها أنا اليوم أسكن بجوار هذه الشجرة التي أكدت لي بأني وصلت حيفا.
 

التعليقات