هل انتهى زمن القراءة الورقية؟ / شيرين أبو النّجا

هل تود أن تُجيّش الجماهير ضد أي خطاب مُهيمن؟ لا تلتزم بالصدق، فقط انتزع أي صورة من أي سياق يموج بالانتهاكات، صورة أي رصاصة، أي قتيل، أي جثة، وانشرها على الإنترنت وقل إنها من فعل الآخر، ولن تستطيع الجريدة الورقية الصمود أو المنافسة. يبدو أنه في عام 2003 لم يخطر في بال إيكو تلك الوظائف الإضافية للإنترنت: إدارة الصراع السياسي.

هل انتهى زمن القراءة الورقية؟ / شيرين أبو النّجا

اختلف مشهد المواطن الذي يقرأ الجريدة اليومية الورقية إلى حدّ كبير. الصحف كلّها أصبحت متاحة على الإنترنت، مع ميزة إضافية تتمثّل بتحديث الأخبار إلكترونيًّا كل ساعة. أصبحت أخبار الصحف اليومية "بايتة" بالعامية المصرية، وهو تحدّ يواجه الآن الصحف كافة. والحق أنها مفارقة، فالصحيفة لا بد أن تنافس الصحف الأخرى في تحديث الأخبار إلكترونيًّا ولا يمكنها في الوقت ذاته أن تتوقف عن الإصدار الورقي. أنا شخصيًّا لم أعد أطالع أي صحف سوى في اللحظة التي ألتقط فيها الجريدة لأناولها لوالدتي، التي تقرأها بمنتهى الشغف، قبل أن تطلب مني "الآي باد" لتُكمل الصورة! خطر في بالي السؤال - العنوان- عندما تذكرت أن مكتبة الإسكندرية استضافت في نهاية عام 2003 الناقد والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، وألقى محاضرة بعنوان "الذاكرة النباتية والذاكرة المعدنية: مستقبل الكتب"، وكان السؤال الأساسي هو: هل سيختفي الكتاب الورقي أمام شبكة الإنترنت؟ وكانت إجابته عن هذا الــسؤال أنّ ذلك لا يمكن أن يحدث.

فمن وجهة نظره تسمح شبكة الإنترنت بإنتاج "قصص جماعية لا نهائية، محـــدودة وغير محدودة"، وهو ما يُعتبر نوعًا "من الرياضة الكونية التي يمكن المرء من خلالها أن ينفّذ كل عرض ممكن، وأن يضع لنفسه قاعدة تتضمن بعض الحدود ويقوم بتوليد كون صغير وبسيط بعد ذلك"، وهو العالم الذي يمكن وصفه بأنه "يوتوبيا الغاضبين". وبعد مرور عقد على هذه المحاضرة، تأكّد أنّ الإنترنت نجح على المــستوى الثقافي والسياسي في أن يقيم مجالاً موازيًا قائمًا بذاته، ولا يقيم وزنًا كبيرًا لكلّ سمات قرية العولمة، حتى أنّ محاولة الواقع المادي التبرؤ منه بوصفه طفلاً غير شرعي مستحيلة.

حسنًا، لنقل إنّ الجريدة الورقية ستناضل للحفاظ على مكانتها، لكننا لا نستطيع تجاهل قوة الإنترنت في ما يتعلق بالصورة بكل أشكالها، التي أصبحت ترسم السياسات وتُشكّل الرأي العام. فالصورة خبر تفوق قوته الكلمة المكتوبة. وإذا كانت الصورة لعبت دورًا هائلاً في القرن التاسع عشر من ناحية تشكيل الهوية الغربية عبر رسم الآخر، فإنّها تحولت الآن - بعد قرنين تقريبًا - إلى آلية رئيسة في الفعل السياسي، فهي أصبحت وسيلة كشف وإدانة لكل الانتهاكات الجسدية، ووسيلة لكسب التأييد في قضية (فلسطين على سبيل المثال)، أو وسيلة ترهيب (التدريبات العسكرية)، أو حتى وسيلة استهلاك (الإعلانات). وأدّت هذه القوة إلى ظهور أشكال جديدة من الانتهاكات، فأصبح مثلاً تحطيم أو مصادرة الكاميرات من الأمور المعتادة في مجتمعاتنا الغاضبة أخيرًا. لم تستسلم الصورة لهذه المصادرات، بل راوغت في الشكل وتمكنت من الانتقال إلى مجتمعات استهلاكية بحتة، مفارقة في وجودها، لأنها تحولت إلى جزء أساسي في الحياة اليومية، وبالتحديد كاميرات أجهزة التليفون المحمول. هذه الكاميرا، على سبيل المثل وليس الحصر، هي التي كشفت عن منهجية التعذيب الجسدي في أقسام الشرطة، حتى أنّ عددًا من المحاكم صارت تعتبر المحمول أحد الأدلة الرئيسة في القضايا. تقوم الصورة بتشكيل سياقات جديدة لم تكن مطروحة من قبل، فالصورة الآن قادرة على خلق مجتمعات متخيلة على غرار ما تناوله بندكت أندرسون في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، لكنّها مجتمعات تشترك في الرؤية الفكرية وليس في البعد الجغرافي، فالتحالفات التي تقوم لمناهضة الصهيونية وللتضامن مع فلسطين والعراق تتشكّل بفعل الصورة، وتضمّ أطرافًا محلية وإقليمية ودولية، قد تكون مختلفة حول العديد من القضايا الأخرى، والشيء نفسه ينطبق على مصر (ثورة أم انقلاب؟).

وقد أوضح أرجون أبادوراى Arjun Appadurai في كتابه الشهير "الحداثة على اتساعها: الأبعاد الثقافية للعولمة" (1996)، كيف تقوم الوسائط الإعلامية بتدوير الصور ما يخلق دورًا مهمًّا للخيال، ولا يقصد الهروب من الواقع بقدر ما يقصد الخيال الذي يؤسّس مشاريع اجتماعية جديدة ويحوّل جمود المكان إلى قوة تدفع مجموعات كبيرة لارتجال آليات تحالف ومقاومة. وبذلك لا يصبح الخيال قاصرًا على الإبداع - كما هو سائد - بل يتحوّل إلى جزء أصيل في النشاط اليومي للبشر (الربيع العربي مثلاً). وعندما يكتسب هذا الخيال صفة جمعية فإنه يتمكن من التحفيز على الفعل (مظاهرات - بيانات - انتفاضة - إصلاح ...)، بل إنّ ظاهرة المظاهرة الإلكترونية أصبحت وسيلة مقاومة فعالة (وهو ما يفسر انتشار اللجان الإلكترونية). بمعنى آخر، يؤسّس هذا الخيال المستمدّ والمبني على الصورة مجتمعًا مشتركًا من الرؤى والعواطف والفعل والهدف. وفي كلّ هذه النظرية يخالف أبادوراي نقاد مدرسة فرانكفورت، الذين أكدوا أنّ الخيال سيكون قاصرًا ومحدودًا مع مرور الزمن بفعل تأثير التسليع الاستهلاكي والرأسمالية الصناعية وانتشار العلمانية في شكل عام. إلا أنّ أبادوراي ينتهي في كتابه إلى أنّ ثمّة أدلة متزايدة على أن استهلاك الوسائط الإعلامية يؤدّي إلى خلق مقاومة بأشكال مختلفة، وهو ما لا تستطيع الصحيفة الورقية اللحاق به.

ورغم ذلك، فإنّ هذه الوسائط الإعلامية التي تعتمد على الصورة (والكلمة المصاحبة لها)، والتي تساعد على إقامة تحالفات وتفرز أشكالاً من المقاومة، تعمل أيضًا على الناحية المعاكسة، فهي تتمتع بقدرة تشكيل صور للآخر وترسيخ صور قديمة؛ وكأنّ الوسائط الإعلامية تختزن التاريخ وتعيد إنتاجه صورًا في اللحظة الملائمة، طبقًا لأهداف سياسية معينة. بمعنى آخر، يساهم الواقع الافتراضي في تدعيم المركزية الغربية التي تعمد إلى قياس حداثة المجتمعات الأخرى من موقعها، متجاهلة تعدد أشكال الحداثة والديمقراطية في المجتمعات الأخرى، ولنا في خطاب الدوائر الأكاديمية الغربية الآن حول مصر مثلاً واضحًا.

وبعد اندلاع الثورات العربية مباشرة، تحول الإنترنت إلى مساحة بديلة للصراع، واكتسبت الصورة أبعادًا سياسية خطيرة تُعيد تشكيل الرأي العام. فمن ناحية، اشتبكت الأجيال الجديدة مع الصور بهدف خلق مساحة منتزعة من ترهّل ثقافي في الداخل، وهجمة عولمية من الخارج تسعى لإعادة التنميط عبر استخدام مصطلحات خادعة تنتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة. تلك المدرسة التي تزعم أنّها تقبل فسيفساء الاختلاف، فيتمّ تحويل أطراف الصراع السياسي إلى أطراف متكافئة من حقها المشاركة في مناخ "ديموقراطي". يبدو الخطاب مثاليًّا، خاصة عندما يتم تدعيمه بالصور، إلا أن الخطاب يبدو استفزازيًّا عندما يتم تزييف الصور، كأن تُنزع صورة من سياق زمني وسياسي لتُوظّف في سياق حالي، ومستخفًّا بعقل المشاهد والقارئ. إنها السياسة في عصر الإنترنت والصورة.

في وسط هذه المراوغات السياسية التي أدركت أهمية الصورة في خلق تحالفات عالمية، لا يُمكن أن تحتفظ الجريدة الورقية بمكانتها المعهودة؛ وتبقى السرعة الإلكترونية أقوى من سرعة المطابع. تحولت الصورة إلى نصّ متحرك، نصّ يُعبر عن رسالة سياسية، نص لابدّ أن يجد دعمًا كتابيًّا في الجريدة الورقية، في حين أنه يكون نصًّا مستقلاً على الإنترنت.

هل تود أن تُجيّش الجماهير ضد أي خطاب مُهيمن؟ لا تلتزم بالصدق، فقط انتزع أي صورة من أي سياق يموج بالانتهاكات، صورة أي رصاصة، أي قتيل، أي جثة، وانشرها على الإنترنت وقل إنها من فعل الآخر، ولن تستطيع الجريدة الورقية الصمود أو المنافسة. يبدو أنه في عام 2003 لم يخطر في بال إيكو تلك الوظائف الإضافية للإنترنت: إدارة الصراع السياسي.

(الحياة).

التعليقات