حيفا؛ جولة في وادي النسناس: الواد يصنع تاريخا.. / روضة غنايم

كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه واغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة.. اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في "الحنطور" إلى حيف

حيفا؛ جولة في وادي النسناس: الواد يصنع تاريخا.. / روضة غنايم

 

في الأسبوع الماضي كانت لنا جولة شيقة، لحي وادي النسناس، في حيفا، حيث سلمنا على حسن البحيري، ومن ثم صادفنا الشاعر نوح إبراهيم وتبادلنا معه أطراف الحديث عن المشحر جوز الثنتين، ثم عن أبطال سجن عكا، وفي الطريق هدأنا جوعنا من خبز "فرن أبو أنطون"، وهناك بجانب الفرن طل علينا الشاعر أحمد دحبور ودعانا لشرب الشاي في بيته ليسرد لنا قصص أمه عن حيفا، وعن بحر حيفا الذي كانت تجلبه خصيصا له وتنشره في المخيم، وفي الليل تقفل أمه البحر، وترسله في "الحنطور" إلى حيفا وعن جبل الكرمل الذي كان يمشي كل سنة سبعة أمتار.روضة غنايم

كان حديثا شيقا جميلا لم أرده أن ينتهي، ولكن كان علينا إكمال المشوار لنزور مطبعة "الاتحاد"، كان إميل حبيبي ينتظرنا ليخبرنا عن زنوبيا النورية الحسناء وما فعلته بحيفا، بعد حديث مثير لاحظنا أن المكان كان يعج بالناس لطباعة الجريدة، فلملمنا حقائبنا وودعناه وخرجنا، في نهاية الرحلة شربنا من مضخة ماء الحاج حسن بكير، ووقفنا في الوادي ساكتين ومتأملين في ما لو.. ماذا لو عاد هذا الزمن الجميل، لو استطاع اللاجئ أن يرجع إلى بيته، لو استطاعت الأم ترك البحر في مكانه ليسبح به أولادها متى يشاؤون، لو استطاع الكاتب أن ينهي قصته، ولو استطاع الحيفاوي أن يحيي تراثه الغني من جديد؟

الرحلة والاسم والبيوت الخالية من سكانها

محاولة صغيرة ولكن كبيرة بأهميتها قام بها زميلنا ومرشدنا المؤرخ د.جوني منصور، كانت نقطة انطلاق المسار من أعلى درج الوادي، عند طرف شارع "شبتاي ليفي"، هناك سمعنا شرحا مفصلا عن تاريخ الواد حيث استهل منصور:

"تعرض الحي لقصف مدفعي مكثف أثناء حوادث عام النكبة، وقامت السلطات الإسرائيلية في عام 1948 بتجميع معظم السكان العرب المتبقين في هذا الحي، (بقي في حيفا من سكانها العرب حوالي 3000 نسمة من أصل 70,000 ). وشهد الحي منذ ذاك العام تحولات في مبناه الاجتماعي والوظيفي، إلى أن أصبح من أبرز معالم المدينة، ومن الأحياء التي شكلت المجتمع العربي الفلسطيني في حيفا ومنحته مميزات خاصة. يمتد شارع الواد من ملتقى شارعي اللنبي ( حي الزيتون) والجبل، قرب مطعم اسكندر، وينتهي عند الدرج المؤدي إلى شارع شبتاي ليفي. أما الشوارع المتفرعة منه والمحيطة به فهي الخوري، مار يوحنا، توفيق طوبي، صهيون، حداد، الحريري، الفارابي، الطغرائي، الأصفهاني، الجبل، عسقلان رشون، السلط، والراهبات الذي حولت اسمه البلدية حديثا لشارع 93".

عن تسمية الواد باسمة قال منصور:هناك اعتقادان شائعان، الأول هو أن أهل الحي آمنوا بوجود حيوان النسناس، وهذا الحيوان حسب مصادر عدة غير موجود، ويعتقد البعض أنه حيوان من فصيلة القردة أو حيوان زاحف سريع يختبئ في معظم الأوقات، إلا أن قاموس المنجد يشير إلى أن النسناس دابة وهمية.

والاعتقاد الثاني هو أنه ربما جاءت التسمية حسب اسم عائلة النسناس التي كانت تملك جزءا من أراضي الحي، وأحد أبناء هذه العائلة هو الدكتور فؤاد النسناس ويملك اليوم مستشفى توليد في بيروت".

بعد الشرح بدأنا نسير بشارع (الوادي) حيث شاهدنا على يسارنا بيوتا حجرية قديمة وجميلة بنيت من الحجر اليابس خالية من سكانها بادعاء سلطة بلديه حيفا أنها غير صالحة للسكن، وأنها تشكل خطرا على حياة الناس. لكن المفارقة انك تنظر إلى يمينك فترى بيوتا شبيهه لها وعمرها نفس العمر لم يعلن عنها أنها غير صالحة؟ لماذا لم ترمم حتى الآن؟ ربما هنا نفهم سياسة الترحيل أو التفريغ البطيء الذي تنتهجه البلدية تجاه سكان الحي العربي.

حيفا تحت ضوء القمر

دخلنا زقاقا ملاصقا للبنايات المهجورة، وجلسنا على عتبة أدراج الزقاق ليكشف لنا المرشد أننا نجلس أمام بيت الشاعر حسن البحيري (عمارة رقم 52). قرآنا هناك قصيدة له تحت عنوان "حيفا تحت ضياء القمر" كتبت عام 1945 بخط يده.

ولد حسن البحيري عام 1913 في حي الحليصة في حيفا، ثم انتقل للسكن في الواد حتى التهجير. وبسبب ظروف حياته الصعبة والقاسية لم يتسن له مواصلة تعليمه، فتعلم للصف الخامس الابتدائي. عمل كفراش بشركة القطار، ثم بدأ يطالع ويكتب. وعمل أيضا بتنظيم عبور ومرور سكك الحديد. في عام 1948 فجر عربات قطار فيها سلاح عن طريق تغيير وجهتها نحو المطاحن الكبرى بشارع الناصرة (بار يهودا اليوم). في جيل 24 طبع البحيري 4 دواوين شعر في القاهرة على نفقته الشخصية، وفي أحدها كتب المقدمة الشاعر أحمد رامي. والمدخول العائد علية من الدواوين كان ينفقه على الفقراء. في عام 48 هُجر مع عائلته إلى سوريا وسكن في مخيم اليرموك. يقال انه لم يتزوج من امرأة بل تزوج القضية الفلسطينية. توفي عام 1998.

"مشحر يا جوز الثنتين" و "من سجن عكا"

تابعنا سيرنا لبناية تحمل رقم 38، وفي إحدى شققها ولد الشاعر الشعبي نوح إبراهيم عام 1911، وكان قد تلقى تعليمة في المدرسة الإسلامية في حي وادي الصليب، وانضم إلى حركة عز الدين القسام الثورية في منتصف الثلاثينات، وتعرض للاعتقال عدة مرات إلى أن استشهد في عام 1938 في أراضي قرية طمرة في الجليل وقبر في طمرة.

كان نوح إبراهيم يكتب قصائده ويلحنها ويغنيها ويسجلها على أسطوانات ويقوم بتوزيعها بنفسه وعلى نفقته الخاصة. ويدخر الدخل الذي يعود فيها للثورة الفلسطينية. قرأنا قصائد له منها "دبرها يا مستر دل" و"مشحر يا جوز الثنتين". ومن الجدير ذكره أن نوح إبراهيم هو من كتب ولحن وغنى قصيدة "من سجن عكا". ويقال أيضا أنه لم يتزوج بل تزوج بندقيته.

تابعنا سيرنا ووصلنا إلى بناية رقم 30 وهي مكونة من طابق أرضي بشكل طولي، كانت فيها شقق سكنية وفرن "أبو انطون" أقدم بناية في الواد، عمر الفرن مئة عام حيث خدم أهل الحي لمد ثمانين عاما، وهو مغلق من حوالي عشرين عاما.

شقة الشاعر الشعبي احمد دحبور

بعذ ذلك عرجنا وراء الفرن لساحة كبيرة خلفه مطلة على شقة الشاعر الشعبي احمد دحبور، وهو من مواليد عام 1946 وهجر من بيته مع أسرته عام 1948 عاش في غزة لبعض الوقت، ثم توجه إلى سوريا ليعيش هناك بمدينة حمص تحديدا. جلسنا بجانب بيته واستمعنا لقراءة من مقطوعة أدبية من ديوانه:

"كنت أعيش على حكايات أمي... أيه مخيلة هائلة كانت لهذه المرأة الأمية؟ التي بيعت في طفولتها بيع الرقيق، وعاشت في تركيا طفولتها وصباها، ثم عادت إلى فلسطين لتهاجر منها ثانية بعدد كبير من الأطفال مات بعضهم بفعل الفقر واللجوء.. كنت أذهب إلى المدرسة الهيئة حافيا تقريبا، وفي الليل كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه واغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة.. اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في "الحنطور" إلى حيفا.. وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي، وهي ستروي كيف أن جبل الكرمل في حيفا يمشي كل سنة سبعة أمتار، فإذا سألتها: كيف يبقى الكرمل في حيفا ما دام يمشي؟ فسوف تجيبك على الفور: إنه يسير كل سنة، في الاتجاه المخالف لسيره في السنة السابقة.. أما المطر في حيفا فهو غزير جدا، ولكنه لا يبلل الناس، إنه يسقط على الزرع فقط، ولهذا فإن حيفا دائما خضراء، وثياب الناس فيها ليست سميكة في الشتاء.
- يمه.. خذيني إلى حيفا
- غدا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني أنت إليها "

مطبعة الاتحاد التعاونية ومقر الحزب الشيوعي الإسرائيلي

وصلنا إلى بيت رقم 43، وفيه كانت مطبعة "الاتحاد التعاونية" التي كانت تطبع فيها جريدة الاتحاد. وهي الجريدة العربية الوحيدة التي استمرت بعد ال 48. عملوا فيها بطريقة صف الحرف بملزمة. كان مشهدا مثيرا يرجعك إلى زمن مضى. ثم توجهنا لبناية رقم 39 في شارع مار يوحنا، حيث يقع هناك مقر الحزب الشيوعي في الطابق الثاني، حيث مكاتب سكرتاريا فرع حيفا.. هنا كتب وتواجد الكاتب الكبير إميل حبيبي.. حيث تحدث وكتب عن " الذاكرة الجمعية" قمنا بقرآءة مقطوعة أدبية من قصة "النورية":

"ما تركتكم أبدا. احكوا لأولادكم عني حتى إذا عدت لا تذكرني هند وحدها، ولا الوالد الجعدة وحده، ولا علي البقال وحده، ولا الكنز الباقي وحده، ولا القاعد على عتبة الستين وحده – أين ذهب؟ - ولا حلاق السياسة وحده، بل يذكرني أولادكم أيضا، فأعود حينئذ وسأرقص: أريد بأيد متشابكة خارج هذا الوادي، في الفضاء الواسع، مع أولاد بائع البلاستيك أيضا، وأولاد عساكر البلدية. ومضت عن الوادي، كما هبطت عليه، من باب الطلعة، زنوبا النورية الحسناء، هي هي كما كانت قبل ثلاثين عاما، ما تغير فيها شيء. فخلفت وراءها على طول الوادي جلبة كما تخلف زوبعة عابرة تسحب معها وإليها كل الآنية المعروضة في سوق الفخار. ولو كان وحده الذي رآها لضم أضلعه على هذه الرؤيا وتركها له، وله وحده، ولكنه لم يكن وحده الذي رآها. ولو جئت الحقيقة فإنه ليس وحده".

تابعنا سيرنا باتجاه عماره 26 حيث عمارة الحاج حسن باكير. مالك هذا البيت كان يبيع الماء لسكان الحي من بئر حفرها في أرض بيته وزودها بمضخة. لم يكن عيون ماء في الواد. ما زال اسمه محفورا على لوحة معدنية مثبته عند مدخل العمارة.

واصلنا السير باتجاه مفترق الوادي مع شارع الخوري لنصل إلى المقطع الأخير من شارع مار يوحنا، حيث كنيسة مار يوحنا الانجيلي. البروتستانتية التبشيرية.

وفي نهاية الجولة وصلنا بناية رقم 21 في شارع مار يوحنا زاوية زقاق ياقوت. لمقر جمعية التطوير الاجتماعي التي قامت بتنظيم هذه الجولة، وهي ضمن دورة الإرشاد السياحي – مسارات حيفا العربية كسياحة بديلة تروي قصة وتاريخ حيفا من خلال روايتنا الفلسطينية المغايرة لجولات البلدية، التي تروي قصة حيفا من حيث روايتها الاستشراقية للمكان والذاكرة.

التعليقات