الكاتب والمناضل توفيق فّيّاض: نواعير الذاكره ما بين الوطن والمنفى../ روضة غنايم

"كانت صفارات الإنذار تغول دونما انقطاع، وكانت حيفا تغرق في ظلمة دامسة والطائرات الألمانية تنقض على مصافي البترول والمعسكرات الإنجليزية في خليج حيفا ومينائها، والانفجارات تتوالى. وكان بيتنا في شارع "البور" بحي القشلة المحاذي لسياج الميناء تمامًا، يهتز بشدة، والّزجاج يتساقط، وقبل أن ينجح والدي بإغلاق الستائر وإيقاد شمعة لأمي التي راحت تعض على آهاتها فجأة، كنت أنظم بصوتي إلى هذا المقطع النشاز في سمفونية الحياة القادم لتوّي إليها، فاشتعلت حيفا.. واشتعلت معها الحرب العالمية الثانية. وكانت تلك الليلة هي، ليلة السادس من تموز عام 1939.. هكذا حدثتني أمي".

الكاتب والمناضل توفيق فّيّاض: نواعير الذاكره ما بين الوطن والمنفى../ روضة غنايم

"كانت صفارات الإنذار تغول دونما انقطاع، وكانت حيفا تغرق في ظلمة دامسة والطائرات الألمانية تنقض على مصافي البترول والمعسكرات الإنجليزية في خليج حيفا ومينائها، والانفجارات تتوالى. وكان بيتنا في شارع "البور" بحي القشلة المحاذي لسياج الميناء تمامًا، يهتز بشدة، والّزجاج يتساقط، وقبل أن ينجح والدي بإغلاق الستائر وإيقاد شمعة لأمي التي راحت تعض على آهاتها فجأة، كنت أنظم بصوتي إلى هذا المقطع النشاز في سمفونية الحياة القادم لتوّي إليها، فاشتعلت حيفا.. واشتعلت معها الحرب العالمية الثانية. وكانت تلك الليلة هي، ليلة السادس من تموز عام 1939.. هكذا حدثتني أمي".

وهكذا نقل لي الحديث الكاتب والمناضل الكبير توفيق فياض، خلال محادثتنا الهاتفّية التي أجريتها معه هذا الأسبوع من مدينة حيفا إلى تونس حيث يقيم اليوم. بعد أن نفي خارج الوطن عام 1974 نتيجة عمل سياسّي لصالح مصر.

فتحت قبل أربعة أعوام حساباً على شبكة التواصل الاجتماعّي ("فيسبوك")، لم يكن هدفي من وراء ذلك التعارف إلى الناس. بل كان الهدف التواصل مع من أعرفهم من واقع حياتي، وتدريجّيا بدات أنشر كل يوم صورة اقوم بتصويرها لبلاد الوطن عامة ولمدينة حيفا التي أسكنها وتسكنني خاصة.. إنّها هواية رافقتني منذ الطفولة. وذات يوم أرسل لي فياض طلباً لإضافته، فعرفت أنه كاتب من تونس، ولم أتعمق أو أتمّحص بالبحث عنة، بعد فترة بدأ يكتب تعليقات على الصّور التي أنشرها وفي تعليقاته عدا اللغة العربّية الرفيعة والجميلة جدًا، لمست الحنين والذكريات مع هذا الوطن الجميل. وقبل أن أتحّدث إليه بدأت أتعرف على هذا الكاتب من خلال أصدقائه ومعارفه من حيفا، مثل الأستاذ فتحي فوراني، الفنان عبد عابدي وآخرين.

من هنا بدأ تواصلي الهاتفي معه لأن ذلك ترك أثراً كبيراً عليّ، وجعلني أصغي لمشاعر مناضل يحّن إلى وطنه وهو في المنفى. عرفت أنني عيونه التي يرى بها الوطن، من خلال ما أنشره من صور عن حيفا. وكان متعطشا لرؤية بيته مسقط رأسه، فأوصلني وعرفني على عائلته، أخته منيرة التي تسكن في حّي وادي الجمال وابنة اختة الدكتورة كوثر جابر، واخته التي تسكن في قرية إكسال والدة المخرج السينمائي سامح زعبي، والتي تكبرة بست سنوات وقد شاركته أحلام الطفولة، ولعبت معه ومع اترابهما في حيّ المحطة، التي تنتفخ رئتاها عندما تمّر من جانبها. هكذا أخبرتني.

بعد مهاتفتي مع فياض بيوميين، اتفقت مع ابن اخته المهندس سامر زعبي على أن نذهب إلى حيّ المحّطة بعد أن عرفت منهم اسم الحي كوني لم أعرف اين القشلة، ولم يذكر لي المحّطة، فكان يقول لي: إن بيته يقع في البلدة التحتا في حي القشلة.

عندما وصلنا قلت لسامر: "نعم أعرف هذا المبنى" فهو الآن بملكية "عميدار" وقيد الترميم بعد أن كانوا قد أخلوا سكانه بذريعة أنه آيل للسقوط ويشكل خطراً على حياة السكان. سكنت عائلة فيّاض الطابق الثاني من المبنى. حدثني فياض قائلا: "في مثل هذه الأيام من شهر رمضان كنا جميعا من عائلات مسيحية ومسلمة نجتمع لتناول الإفطار الجماعي في الصالون الكبير الذي كان يقع في الطابق الأرضي من المبنى".

جدير بالذكر أن توفيق فياض ولد في مدينة حيفا تعلم الابتدائية في مدرسة راهبات الألمانية في شارع يافا، لكنه تنقل بين حيفا وقرية والده (مقيبلة) في مرج بن عامر، وأنهى الثانوية في مدينة الناصرة. والدته من قرية (فسوطة) كانت تعمل ممرضة في المستشفى الحكومي "حمزة" في "بات جليم" والذي أطلق عليه فيما بعد اسم "مستشفى "رمبام"، وهذا التزاوج ما بين الديانتين المسيحية والإسلامية كان له اثر فيما بعد على تفتح حياته الروحية.

في إحدى مكالماتي الهاتفية معه عرفت أنه كان يستعد للسفر إلى حفل نهاية السنة الدراسية في مدرسة "النخبة" للمتفوقين، وأنه سيكرم ككاتب وأديب فلسطيني. تُدرس مجموعته القصصية "البهلول" في المدرسة التي أقرتها وزارة التربية في جميع مدارس تونس لتعلم الأدب الفلسطيني المقاوم.

ناعورة الكتابة

قال فياض:" لقد بدأت الكتابة أول ما بدأت كأمر مألوف لدي، وكنت حينها في الثالثة عشرة من عمري، وكان من الطبيعي أن أبداها هكذا ودون أن يخطر على بال أي كان ما كتبته سيسمى فيما بعد بالقصة القصيرة وأنني سأصبح كاتبا في يوم ما".

استمر بالحديث قائلا: "أذكر كنت في الصف السابع، حين طلب منا أستاذ اللغة العربية (سمير ورور) أن نكتب موضوع إنشاء من دون أن يحدد الموضوع، وقال إننا نستطيع أن نكتب في أي موضوع نشاء. وكنت عادة أحب هذه المادة جدا، فلم أفكر كثيرا فيما سأكتبه بل وجدتها الفرصة المناسبة لأن أكتب في أحد المواضيع والأحداث التي عايشتها أعوام الحرب.

في اليوم التالي أعاد الأستاذ ورور مواضيع الإنشاء، لجميع التلاميذ إلا لي، قائلا: إنه لم يصححه بعد، وطلب مني أن أخبر والدي بأنه سيزورنا في المساء، وسيحضر موضوع الإنشاء معه بهذه المناسبة مصححا.

وأضاف: "كان الاعتقاد السائد في السنوات الأولى للاحتلال أن معظم المعلمين الذين ترسلهم دائرة المعارف إلى المدارس في القرى، ما هم إلا عملاء للحاكم العسكري، وإلا لما كانوا وظفوه، ولهذا فقد خفت ذلك اليوم واعتقدت أنه آت لزيارتنا إلا لكي يحذر والدي من مغبة هكذا كلام أكتبه، فما أن رأيته يتجه نحو بيتنا في المساء حتى حاولت الهرب من وجهه والذهاب إلى جدتي حتى ينهي زيارته، إلا أنه لمحني من بعيد فوقف وناداني وظل ينتظرني حتى وصلت، فأخذني من يدي ورافقني إلى البيت حيث والدي في استقباله.. وحين استفسر والدي عما كنت قد فعلته متهيئا لمعاقبتي، قال وهو يضع يده على رأسي تحببا بأني قد كتبت موضوع إنشاء رائع، وأن له ولدا سيصبح كاتبا.. ولذا فهو يعفيني من موضوع الإنشاء على أن أقدم له في كل مرة قصة مثل هذه القصة التي كتبتها. وكانت هذه أول مرة أسمع كلمة "كاتب" إذ أن الكلمة الشائعة كانت "أديب".

مؤلفاته

رواية "المشوهون"، "الشارع الأصفر"، "وادي الحوارث"، "حيفا والنورس"،" حبيبتي ميليشيا" "مجموعات قصصية تعبر عن الماساة الفلسطينية بكافة أبعادها"، "وبيت الجنون" هي عبارة عن مسرحية مونودراما. ويعد فياض هو اول من كتب عن المسرح الفردي في البلاد عامة والفلسطيني خاصة.

وعن كتاباته التي يتجسد فيها الوجع الفلسطيني يقول: "عايشت عدة حروبات ومنها حرب 48، وقد أثرت علي كالنكبة، وكنت ككاتب شاهداً على ما خلفته من دمار وظلم ومعاناة للفلسطيني تحت الاحتلال".

المشوهون

وعن روايته الاولى "المشوهون" والصادرة عام 1963 والتي تعرضت لرفض كبير وضجة ساخطة عليه وعلى شخصياتها، يقول فياض: "كانت هذه الرواية هي أول رواية تتناول نقدا في المجتمع الفلسطيني من داخلة ونقدا وتسليط الضوء على سلبياته التي طغت عليه". وكتبت عن نمط حياة الشبيبة في فلسطين المحتلة بعد 48 وما خلفة هذا التغيير بل الانقلاب في نمط وهموم الفلسطينيين والارتباك في شخصيتهم تحت الحكم الإسرائيلي.

في ذلك الوقت كانت كلمة فلسطين يمنع لفظها، لذلك تطرقت في الرواية أيضا إلى الناحية السياسية لكن بشكل مبطن، لذلك برزت الناحية العاطفية الجنسية في الرواية مما أثار حفيظة القراء، ربما من الُعري الذي لم يكن مقبولا حينها".

وأضاف: "اصدقائي الحميميون كسميح القاسم ومحمود درويش لم يحركا ساكنا ضد التحريض سوى صديقي الثالث سالم جبران. وكنا رباعيا لا نفترق حيث شكلنا حالة أدبية خاصة في حيفا. الشاعر سالم جبران من القلائل الذين تصدوا للهجوم حيث كتب في مجلة "الغد" التي كان يحررها.. مقالة بعنوان "صدق توفيق فياض نحن مشوهون"..

مسلسل عابد قرمان

وعن تجسيد شخصيته في مسلسل "عابد قرمان" الذي شاهدناه عبر شاشات التلفاز في رمضان الماضي، يقول عن ذلك: "جسدوا شخصيتي في المسلسل بشكل إيجابي لكن أقل بكثير مما عملته. صحيح أنني عملت موظفا في قسم الجمارك في ميناء حيفا لمدة ثماني سنوات، أما عبد الرحيم قرمان فهو رجل وطني وذو أخلاق دمثة،المسلسل لم ينقل الواقع تماما، حيث تم اعتقالنا أنا وعبد الرحيم قرمان (عابد قرمان) عام 1970 بتهمة سياسية حكم علي بالسجن عشر سنوات قضيت منها أربعة سنوات حيث اطلق سراحي عام 74 ضمن عملية تبادل الأسرى مع مصر. لكن نهاية المسلسل تظهر أننا هُرّبنا إلى مصر وهذا غير حقيقي..

المنفى خارج الوطن

وعن حياة المنفى يقول: "الشعور صعب للغاية أن تُنفى من وطنك الذي يعيش بك وأنت تعلم أنك لن تعود إليه. الشعور بمثابة الموت، لكن الحياة تستمر فقد تنقلت بين مصر وسوريا وبيروت، وتزوجت عام 1976 من لينا المالح، لكنها استشهدت بين ذراعي في غرفة نومنا في حي قريطم في مدينة بيروت عام 1982 إثر قذيفة أطلقت على الحي. ثم تزوجت بزوجتي هناء التي عملت محامية في (المنظمة العربية للثقافة والعلوم) وأنا كنت أعمل في هذه المنظمة في إدارة الإعلام في تونس وهناك تعارفنا. أنجبت منها أسامة وريم. اليوم متفرغ فقط للكتابة وللعائلة.

في نهاية حديثي معه، وبسؤال ماذا تعني لك حيفا؟، قال: "حيفا هي أمي التي قضيت بها أجمل أيام عمري". وأضاف إذا ما نسيتك يا حيفا، نستني يميني، وإن هجرتك يوما جفاني الفرح".

(منزل العائلة في حيفا)

(زوجته الشهيدة لينا المالح استشهدت عام 1982)

(مع شقيقه في قرية مقيبلة)

التعليقات