ما تبقّى لي / راجي بطحيش

"راجي طالع كتير فلسطيني"... هذا ما كانت تقوله أمي لأقاربنا وأصدقائنا كي تحاول تبرير وتفسير معالم هذا الوجود الغريب، وجودي! لم تكن أمي امرأة غبية لتقول ذلك، وأنا لا أعتقد في أي حال من الأحوال أنها غبية. أعتقد الآن أنها، ومن شدة حبها لي، كانت تحاول أن تمتص "اختلافي" في مجتمع تقليدي من ناحية، لكنه ليس بالمجتمع المتواضع على الإطلاق من ناحية أُخرى، بل العكس، كان المجتمع الذي نشأتُ فيه يعتمد على تشديد أهمية الحفاظ على المكانة الاجتماعية من خلال الاستهلاك والظهور أو الإظهار، والتمييز بين مَن هو ضمن الدائرة الاجتماعية ومَن هو خارجها، والتشديد المرهق على هذا التمييز، أي عدم تحقق الوجود الاجتماعي من دون خلق منظومة وهمية من التمايز بين مركز وهامش.

ما تبقّى لي / راجي بطحيش

شهادة في الأدب الفلسطيني الجديد (مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 96، ص 161-163).

"راجي طالع كتير فلسطيني"... هذا ما كانت تقوله أمي لأقاربنا وأصدقائنا كي تحاول تبرير وتفسير معالم هذا الوجود الغريب، وجودي! لم تكن أمي امرأة غبية لتقول ذلك، وأنا لا أعتقد في أي حال من الأحوال أنها غبية. أعتقد الآن أنها، ومن شدة حبها لي، كانت تحاول أن تمتص "اختلافي" في مجتمع تقليدي من ناحية، لكنه ليس بالمجتمع المتواضع على الإطلاق من ناحية أُخرى، بل العكس، كان المجتمع الذي نشأتُ فيه يعتمد على تشديد أهمية الحفاظ على المكانة الاجتماعية من خلال الاستهلاك والظهور أو الإظهار، والتمييز بين مَن هو ضمن الدائرة الاجتماعية ومَن هو خارجها، والتشديد المرهق على هذا التمييز، أي عدم تحقق الوجود الاجتماعي من دون خلق منظومة وهمية من التمايز بين مركز وهامش.

كانت أمي تعني بـ "راجي طالع كتير فلسطيني" أنني: آخر؛ مختلف؛ أغرّد خارج السرب؛ تختلف اهتماماتي عن أبناء جيلي ممّن حولنا؛ أطرح أسئلة عن الظلم والعدل والعنصرية والطائفية. بكلمات أُخرى، الفلسطينية بالنسبة إليّ كانت مكانة ثقافية، وليست انتماء وطنيًّا متوارثًا، فلا أعتقد أن أمًّا في مصر ستقول "راجي طالع كتير مصري"، أو "راجي طالع كتير سويدي". وبما أنني "طلعت كتير فلسطيني"، أي أنني تمردت على السرب نهائيًّا بعد محاولاتي التعيسة أن أجمع بين قوانين السرب واختلافي، فإنني أجدني في كتاباتي، وبالذات الأخيرة التي تضج بالحنين إلى ما لا أعرف، أحاول إعادة خلق منبع الحنين هذا، أي أنني أعيد إنتاج تاريخ أكثر جاذبية وثراء وبهاء لأحنّ إليه، وذلك لسبب بسيط جدًّا، هو أن مخاض النص أقوى من أي شيء آخر يعصف بالكاتب وهو يجلس بين زملائه في العمل في يوم اثنين رتيب لا يريد أن ينقضي.

الحنين في النصّ هو نصّ بحدّ ذاته، يمارس السخرية والتهكم على ماضٍ مفترض لم يكن هو بحذافيره. فعندما أقول في اللقاءات الصحافية إنني كنت أهرب من البيت إلى التلّ المطلّ على الطريق نحو الجنوب  يافا؛ القدس؛ مصر؛  لم أكن أهرب بما للكلمة من معنى. وعندما أقول إن الأدبيات الكَنَسية، وخصوصًا الشرقية (المارونية وغيرها)، التي كنت أرددها مع أطفال الحيّ في كنيسة دير المسنين الملاصق لبيتنا، هي التي شكلت المرجعية اللغوية والوجدانية لنصّي، فقد أكون مبالغًا في التوصيف. ثمّ إنني لست متأكدًا من أن الأفلام المصرية الرومانسية السبعينية التي كنت أشاهدها فور إطلاقها في دور العرض، في السينما التي كان أبي صاحب الكافتيريا فيها، هي التي جبلت ذلك المخلوق الحالم والبعيد أكثر بأميال ممّا لديه. إنه الحنين عندما يصبح مجازًا واستعادة لوجود مضطرب وغير دقيق للغاية.

أن يكون الكاتب فلسطينيًّا معناه أن يحتمل عواقب وقوعه بين فكّي الانتماء الوراثي والصفة الأخلاقية؛ فالانتماء الوراثي والوطني كان يمكن أن يكون مختلفًا لو لم يتم تقسيم المنطقة كما قُسّمت عن طريق الرجل الأبيض. كان يمكن أن أكون الآن كاتبًا سوريًّا لم يُبتلَ بهوية هي مثار للتعاطف الإيروتيكي الصبياني والفخ في آن واحد. لو لم تقم دولة إسرائيل لا أعرف أين كانت ستقع الناصرة وضمن أي سياق. لديّ شعور عميق بأن الهوية الفلسطينية سجنت أصحابها تمامًا كما فعلت الهوية الإسرائيلية المفتعلة. فالنكبة ووحدة المصير خلقتا نوعًا من الهوية المفترضة التي تلامس أحيانًا حدود الابتذال، والتي تتطلب منك أيضًا أن تتصرف وفق جدول سلوكي معين، فيه قدر كبير من مصادرة جوهر الذات من أجل هَمّ جمعي غير واضح المعالم. فمشروعنا الفلسطيني غير واضح: ما هو هدفنا؟ هل هو إنشاء وطن قومي طاهر إثنيًّا، فيه جيش قوي يسيطر عليه الرجال من أصحاب النفوذ ويقمعون فيه الشعب، وخصوصًا جميع المختلفين عن المركز الذكوري المهيمن؟ أم أنني جزء من المشروع الذي يرغب (بجدّ) في أن يعيد يافا وحيفا إلى ما كانتا عليه قبل نيسان/ أبريل 1948 بالضبط، بحذافيرهما وبتفاصيلهما ومبانيهما وشوارعهما، وهل نعرف أصلاً أو نذكر كيف كانت تلك الأماكن كي نعيد تشكيل مكوناتها من جديد؟ هل أنا جزء من هذا كله، أم إنني نتاج لوثة الخطأ التاريخي أو الكارثة؟  سمّوها ما شئتم  لقد بات هذا التلويث جزءًا مني، وأحيانًا أحبه.

لا يمكنني ككاتب له قرّاؤه، كاتب يمتنع أيديولوجيًّا عن جريمة أنسنة العدو، ينكر ثنائيته اللغوية، وانفصامه الأخلاقي أحيانًا، أن أظهر اليوم بصورة النقي إثنيًّا، المترفّع عن أثر الآخر.

لا أعرف لماذا نصّبت نفسي شاهدًا، من دون أن أستشير أحدًا، أو آخذ موافقة المؤسسة، أي مؤسسة. نعم فما يحرّكني في كتابتي أنني كأنني شاهد على تفصيلات جارحة في وطن، أو أرض طُرد منها أهلها أو ماتوا جميعًا (كأفلام الخيال العلمي الهوليوودية الممجوجة)، وبقيتُ أنا وحدي كي أسرد للغائبين ما فاتهم، والجنة التي أضاعوها، وكذلك صخب الخسارة. هناك طاقة هائلة تحرّكني وتدفعني دائمًا ومجددًا إلى الكتابة، وهي وصف "المادة"، بمعنى وصف دقيق لما يوجد على الأرض الآن وبكل وجعه، وليس ما كان، أو ما أرغب في أن يكون، أو ما أفتعله كي أثير إعجاب أحد. أحاول أن أقذف "المادة" أو "الحقيقة المادية" في وجه القارئ حتى إن كانت ملوثة، وهي غالبًا كذلك.

في نصوصي وفي حياتي اليومية، وكلتاهما لا تنفصل إحداهما عن الأُخرى، كثيرًا ما أتجول في الأماكن كأنني مرشد سياحي للاجئ في عمري أو أصغر، وُلد في الشتات لكنه لا يزال يسمّي هذا المكان "البلاد". أحيانًا أفسّر له ما حلّ بالأماكن بناء على ذاكرته المتخيلة، وأحيانًا نندمج في جسد واحد فأتأمل الأماكن من جديد، كأنني أراها لأول مرة في حياتي، وكأنني حصلت على تأشيرة لفلسطين بعد جهد كبير، وها أنا أدخلها لأول مرة معتمدًا على ذاكرة أصلها مضطرب لكني مؤمن بها. كثيرًا ما أحتاج إلى ذلك السائح/ اللاجئ كي أنسلخ عن ماديتي الهجينة قليلاً، وسخريتي السوداء وكلبيّتي التي لا تطاق أحيانًا... ويهوديتي المجازية.

أثّر غسان كنفاني فيَّ كما أثّر في كثيرين من أبناء جيلي، ولا أعرف ما كان سيفعله هذا الرجل الجميل لو لم يستشهد. فهو خلق ثيمتَين مؤسستين، ليس فقط في الأدب الفلسطيني، بل أيضًا في الحكاية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية بأكملهما: ثيمة الخزّان في "رجال في الشمس"، وثيمة "عائد إلى حيفا" بكل أبعادها.

أذكر أنني عندما قرأت رواية "مَن قتل ليلى الحايك" التي لم يكملها، لم أنمْ ليلتها، كان لديّ شعور بأنه لو أكمل لكان سيؤسِّس لرواية فلسطينية لم  تتحقق بعد. أعتقد أن الأيديولوجيا أفسدت قليلاً "عائد إلى حيفا"  مثلاً، وأن غسان كنفاني كان في طريقه لهجر الأيديولوجيا البنيوية في السرد في سبيل الفن.

وهناك فترة جبرا إبراهيم جبرا التي أُعجبت فيها بصورة الفلسطيني المنقذ، المخلِّص والمقدس، في "البحث عن وليد مسعود" و"البئر الأولى". لكن تلك الفترة سرعان ما انتهت وبتُّ في نصوصي أتعمد فعل العكس، بمعنى أن أفكك تلك القداسة والأسطورية. فالكاتب الفلسطيني ما زال سجين هذه القداسة، وسجين نظرة القارئ إليه، أو ما يتوقعه المتلقي منه.

تعلمت من زكريا تامر كيفية التحرر من هذه القداسة والإمعان في انتهاك المسلمات، لذا كلما تفاقمت تجربتي وتورطت نصّيًّا أجد نفسي ألجأ لكتّاب مثل ميلان كونديرا، الذي يصف الجنس والغباء البشري والعنف بالروعة المتمنعة ذاتها التي تشبه القتل بدم بارد. أعتقد أن عدم تمكّن الفلسطيني من ممارسة "استقلاله الوطني" واكتشاف خطايا هذا الاستقلال والرضوخ لها لعقود، ثم الثورة عليها، جعلته عالقًا في مأزق فنّي وسردي تخلّص منه كثيرون.

التعليقات