حيفا والمشهد الثقافي ما قبل وبعد النكبة وراهن الحال..

ملامح محطة تاريخية فاصلة في حياة شعب اقتلع بعد تدمير مدينته، والإجهاز على الحياة الثقافية فيها ما قبل النكبة وراهن المدينة وملامحها الثقافية وإعادة صياغة المشهد الثقافي للمدينة برؤى شبابية معاصرة

حيفا والمشهد الثقافي ما قبل وبعد النكبة وراهن الحال..

في الذكرى الـ66 للنكبة من الاقتلاع والتهجير وسقوط حيفا وتدمير المدينة بكل مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، استعرض المؤرخ والباحث د. جوني منصور ملامح محطة تاريخية فاصلة في حياة شعب اقتلع بعد تدمير مدينته، والإجهاز على الحياة الثقافية فيها ما قبل النكبة. كما وتوقف عند راهن المدينة وملامحها الثقافية.

وقال لعرب ٤٨: شهدت حيفا نشاطا ثقافيا متميزا في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين وما بعدها بقليل حتى الاحتلال الإسرائيلي وتطهير المدينة من سكانها ومن مركباتها العربية الفلسطينية، ويمكننا ملاحظة ظهور بوادر لنشاط ثقافي محدود في أواخر الفترة العثمانية، وعلى وجه الخصوص بعد الإطاحة بحكم السلطان عبد الحميد الثاني، وإعادة العمل بالدستور المجمد. فتأسست جريدة "الكرمل" على يد نجيب نصار وهو لبناني المولد والمنشأ. ولعبت هذه الجريدة دورا بارزا في فضح المخططات والمشاريع الصهيونية في فترة لم يكن فيها العرب عامة واعون لمخاطر الصهيونية.

بعد انتهاء الحكم العثماني، وانتهاء الحرب العالمية الأولى، انطلق فلسطينيو حيفا نحو تأسيس عدد من الجمعيات الأهلية في ميادين مختلفة أبرزها التعليم والخدمة الاجتماعية. واستقطبت المدينة عددا كبيرا من العمال من قرى ومدن الجليل والمثلث وشرقي الأردن وسوريا ولبنان وحتى من العراق ومصر، حيث توفرت في حيفا فرص عمل في الميناء والسكك الحديدية والمنطقة الصناعية.

وهكذا تشكل مجتمع عمالي بامتياز. ولكن هذا المجتمع لم يقتصر على شريحة العمل بل تكونت شريحة من البرجوازية والطبقة الوسطى التي لعبت دورا مهما في بلورة المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينة.

وهكذا مع نمو العمران في المدينة واتساع أحيائها وازدياد الهجرة اليهودية، وجد المجتمع العربي الفلسطيني نفسه في تحد كبير ومواجهة ثقافية حتمت عليه تنمية قدراته ومهارته. فاستضافت المدينة المسرح المصري على وجه الخصوص مثل فرقة "رمسيس" لعميد المسرح العربي يوسف وهبة، وقدمت عروضا مثيرة جدا على خشبات مسارح حيفا، وأبرزها مسرح عين دور.

صور من النشاطات الثقافية في "الورشة" و"المحطة"

وفي المقابل تشكل المسرح العربي الفلسطيني في حيفا بمبادرة وإدارة إسكندر أيوب بدران، وسمي المسرح بـ"مسرح الكرمل للتمثيل". وشارك أعضاء من هذا المسرح في أداء أدوار مكملة لمسرحيات وهبة. وكذلك قدمت أم كلثوم عروضا غنائية في متنزهات المدينة، ومن أبرزها متنزه الانشراح.

أما فريد الأطرش وشقيقته أسمهان فقدما حفلات غنائية لا يزال الكبار يتذكرونها. وجدير ذكره أن الحياة الفنية نمت وتطورت جدا في حيفا، فهذا سليم الحلو اللبناني الأصل بادر إلى تأسيس المعهد العربي للموسيقى، ومقره في شارع اللنبي. وهو نفسه الذي أسس لاحقا المعهد الوطني للموسيقى في بيروت، ووضع عددا من اهم كتب تعليم العزف على آلة العود.

كما استقطبت المدينة عددا من الأدباء والكتاب والصحافيين، أمثال جميل البحري وعبد الكريم الكرمي (ابو سلمى) ومطلق عبد الخالق ووديع البستاني وغيرهم من ساهموا في رفع المستوى الثقافي والاجتماعي للحياة في المدينة.

وشاركت الجمعيات الأهلية في تقديم محاضرات في شتى المجالات لإثراء الجمهور، ومنها الرابطة الأدبية والجمعيات التابعة للطوائف الدينية.

ولا يفوتنا أن نذكر أنه تأسست فرق رياضية في حيفا، أبرزها النادي الإسلامي، ونادي شباب العرب، ونادي الروم وغيرها. وحقق فريق حيفا في كرة القدم الفوز في بطولة فلسطين، وكذلك فريق مدرسة السالزيان في كرة السلة.

د. جوني منصور: الإصرار على التحدي والصمود للارتقاء بالموروث

وقال د. منصور ما حصل في العام 1948 كان تدميرا لحياة المجتمع الفلسطيني الحيفاوي الراقي والمزدهر، حيث جرى تهجير عشرات الآلاف من السكان من مواطني المدينة، وكذلك تهجير الحركة الثقافية منها. ولكن، وبالرغم من الأوضاع القاسية والمزرية التي عاشها المجتمع العربي في حيفا، والتي لا تزال شرائح كثيرة منه تعيشها، فإن نهضة ملحوظة تجري في المدينة، حيث تقدم عروض مسرحية على خشبة مسرح "الميدان" الذي يستقطب العشرات من الممثلين والفنانين والعروض.

وأضاف د. منصور أن جمعيات في المدينة تبادر إلى توفير خدمات كثيرة تقصّر في تقديمها بلدية حيفا عن قصد أو غيره. وتبرز في الآونة الأخيرة، وتحديدا في العقد الأخير ظاهرة المقاهي التي تتميز بتقديم بعض البرامج الثقافية أو التثقيفية لصالح الجمهور العربي في المدينة أو من خارجه.

وتشهد حركة القراءة نموا مطردا في المدينة بالرغم من تراجع القراءة الورقية في العقد الأخير. ففي حيفا ناديان للقراءة: الأول تأسس قبل خمسة أعوام ويدعى "نادي القراءة الحيفاوي"، ويشرف عليه الأستاذ والشاعر حنا أبو حنا؛ والثاني تأسس قبل عامين ويدعى "نادي حيفا الثقافي"، ويشرف على لقاءات القراءة فيه الأستاذ والأديب فتحي فوراني.

ويهتم الناديان بقراءة كتاب كل شهر ومناقشته، بالإضافة إلى استضافة أدباء وشعراء، وتنظيم أمسيات ثقافية وأدبية تستقطب أعدادا آخذة بالزيادة من المهتمين في هذه المجالات. وهناك أيضا أنشطة ثقافية وتربوية تنظمها المدارس بما يتناسب ومخططاتها العامة، وأيضا ما تنظمه الأندية التابعة للكنائس والمؤسسات الدينية شهريا.

وخلص إلى القول: "يمكننا القول إن هذه النشاطات العديدة تؤكد على إصرار المجتمع الفلسطيني في حيفا على التحدي والصمود من خلال الحفاظ على موروثه الثقافي وتطويره وتنميته.

إعادة صياغة المشهد الثقافي لعرب المدينة برؤى شبابية معاصرة:

"الورشة":

في وقت يرى البعض أن ملامح مشهد ثقافي عربي يتشكل في مدينة حيفا، سبق أن تم تدميره في عام النكبة، تبرز هناك ملامح مبادرات فردية وجماعية لإحياء الجبهة الثقافية المتمثلة بتنشيط المسرح والسينما والمراكز الثقافية والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني.

وبرزت مؤخرا، إلى جانب المقاهي التي اكتسبت ملمحا ثقافيا، ظاهرة من خليط من المقهى والمركز الثقافي بحيث ينشط مركز "الورشة" في شارع الألمانية الذي أقيم حديثا بغرض الإسهام المتواضع في الحياة الثقافية في المدينة،.

وخلال جولة ميدانية لمراسل عــ48ـرب، قال الناشط و صاحب المركز سميح جبارين إن الورشة هي عبارة عن مركز ثقافي يراد منه خلق مساحة حرة للفلسطينيين في حيفا بعيدا عن الذات المشوهة، للتأكيد عل الهوية الوطنية بعد استهدافها وتدميرها منذ النكبة، وكذلك كشف الجيل الشاب على عالم الفنون بأبعاده وأهمية الفنون في فهم وتصميم الذات.

وأضاف: "نحن نؤمن أن الجبهة الثقافية هي مركب أساسي من مركبات الهوية لاسيما وهي تتعرض في ظل الاحتلال لعملية طمس وتشويه ممنهج لخلق حالة من الاغتراب. أي أننا نسعى لتعزيز الجبهة الثقافية من خلال تنمية الإبداعات في مواجهة واقعنا. وعلى سبيل المثال هناك غسان كنفاني وناجي العلي على الجبهة الثقافية، ودورهم الريادي والإبداعي في ذلك، لكن هذا لا يعني أنه بديل عن العمل الحزبي أو الشعبي والمدني والكلاسيكي عامة بل مكملا وداعما له.

وحول طبيعة النشاطات قال إن هناك جملة من النشاطات المتنوعة في المكان، من ندوات سياسية وثقافية وموسيقى ورسم ودراما مسرح وتصوير ومحاضرات وندوات سياسية وثقافية، وأن رواد المكان هم من مختلف الشرائح الاجتماعية.

"المحطة" منبر ثقافي آخر..

في شارع يافا أيضا هناك مقهى "المحطة" و"هي تعاونيّة شبابيّة فلسطينيّة" أقامتها  مجموعة من الشباب في الشهر الأخير.

تتميز "المحطّة" بهويتها الفلسطينيّة الثقافيّة العربيّة، وبنموذجها التعاوني، حيث أن المشروع غير ربحي، ويتم استثمار أرباحه في مشاريع اجتماعيّة، ثقافيّة وسياسيّة جديدة. كذلك تعتمد "المحطة على تفاعلها مع روادها وإشراكهم في المساهمة والمبادرة. ففي الشهر الأخير، استضافت المحطة عددا من المحاضرات والفعاليات الثقافية، إلى جانب عروض أفلام عربية.

وقالت إنجي ارشيد، وهي من القائمين على المشروع: "إن منطقة حيفا التحتى وشارع يافا من ضمنها، شكّلت خلال سنوات ما قبل النكبة وسط حيفا العربية، واحتوت السوق الرئيسي وغالبيّة المؤسسات العامّة. أما اليوم، وخاصة في الأشهر الأخيرة، مما يشدد على كون النكبة مستمرة، فتحاول البلدية تفريغ الحي من طابعه الفلسطيني وفرض أجواء إسرائيلية. ومن خلال مشروعنا، نحاول استرجاع الهوية العربية لمكان المحطة، والتشديد على الثقافة العربية. ومثال على ذلك طريقة ترميم المساحة، حيث أننا حاولنا استعادة البلاط العربي وحجر العمارة القديم، كما بحثنا عن تاريخ المنطقة والعمارة، حيث تبين أنها كانت معملا ودكانا لبيع البوظة قبل النكبة. بالإضافة إلى ذلك، وفي يوم ذكرى سقوط حيفا، استضفنا محاضرة عن وادي السيّاح وحيّ المحطّة، لنتعلم عن تاريخ المكان والمخططات الحالية. فما يميز المحطة أنها  حيز إبداعي مفتوح للمبادرات، وقد توجه الينا العديد من الشباب بمقترحات ومشاريع نخطط لها سويا".
 

التعليقات