العربي المسيحي على شاشة السينما: من كومبارس الى بطل؟

إن بحثنا عن شخصيات غير مسلمة في تاريخ السينما المصرية -كونها ليست الأغلبية- نلحظ وجود أسماء لشخصيات يهودية في كثير من الأفلام في ثلاثينيات القرن الماضي، كأفلام المخرج توجو مزراحي وسلسلة أفلام "شالوم" التي قدمها، إذ عكست وضعًا إجتماعيا ساد في مصر، تنوعت فيه الأديان والثقافات والجنسيات، والمتمركزة تحديدًا في القاهرة والإسكندرية

العربي المسيحي على شاشة السينما: من كومبارس الى بطل؟

في مراجعة تاريخية للأعمال السينمائية التي تناولت المسيحي في العالم العربي كفرد أو كمجموعة نلحظ مع بدايات رواج السينما المصرية أفلاما أظهرت المسيحي  بشكل جلي  منذ الأفلام الصامتة كفيلم "برسوم أفندي يبحث عن وظيفة" (1923). في هذا الشريط الكوميدي الصامت القصير، لا تخفى صورة مريم العذراء المعلقة على الحائط، كما لا تخفى علاقة برسوم أفندي المرتدي زيّا غربيًا متمثلا بجاكيت، بصديقه المسلم  المرتدي زيّا أقرب إلى زي الشيوخ، في بحثهما عن وظيفة، في إظهار لروح تلك الفترة، روح ثورة 1919 والتي كان أبرز شعاراتها "الدين لله والوطن الجميع". 

وإن بحثنا عن شخصيات غير مسلمة في تاريخ السينما المصرية -كونها ليست الأغلبية-  نلحظ وجود أسماء لشخصيات يهودية في كثير من الأفلام في ثلاثينيات القرن الماضي،  كأفلام المخرج توجو مزراحي وسلسلة أفلام "شالوم" التي قدمها، إذ  عكست وضعًا إجتماعيا ساد في مصر، تنوعت فيه الأديان والثقافات والجنسيات، والمتمركزة  تحديدًا في القاهرة والإسكندرية. واذا جئنا على ذكر شخصية  المسيحي في تلك الفترة، لطالما ارتبطت مسيحيتها ب"خواجيتها"، ففي العديد من الأفلام التي أظهرت ثلاثيًّا مسلمًا- مسيحيًا- يهوديًا، مثل "حسن ومرقص وكوهين" (1954)  أو "فاطمة وماريكا وراشيل" (1949) كانت فيه الشخصية المسيحية أجنبية متمصّرة، ولم يمنحها الصناع بعدًا عربيًا، وبقيت في إطار القوالب المهذبة والبرجوازية البعيدة عن واقعية الطرح.

الفيلم الأول الذي تعرّض للعلاقات الإسلامية المسيحية هو فيلم "الشيخ حسن" (1952) والذي منع عرضه لسنتين، إذ تدور حبكة الفيلم حول الشيخ حسن (حسين صدقي) الذي يغرم بفتاة أجنبية مسيحية (ليلى فوزي) ويعرّفها على تعاليم الدين الإسلامي، وتقوم هي مناقشته بقضايا عينية كتعدد الزوجات والحجاب والزكاة، ويبدو الشريط في بعض مشاهده وكأنّه عمل دعائي لنشر الإسلام. وتكمن ذروة الفيلم في مشهد النهاية حين ترقد البطلة على فراش الموت بعد إنجابها لطفل من الشيخ حسن، ويطلب منها خالها القس أن تذكر "يسوع المخلص"  إلا أنها تنطق بالشهادتين مؤكدة على إسلامها قبل مماتها.

من بعد ثورة يوليو، وبالرغم من تدفق موجة الواقعية الأولى على السينما المصرية، وإن احتوت الأفلام على شخصيات قبطية إلا أنها لم تكن عميقة في تناول العقيدة أو نسيج العلاقات المجتمعي ولم تعط للقبطي بعدًا إنسانيًا كالذي تمتع به البطل المسلم ، وكانت مسألة القبطية عنصرًا مكملا لا جوهريا، كفيلم "شفيقة القبطية" (1963 )الذي استعرض قصة الراقصة القبطية التي ذاع صيتها في القرن التاسع عشر، أو مثلا من خلال شخصية صديق البطل  في فيلم "أم العروسة"(1963). وتبقى المحاولة الأبرز في وقت المد العروبي والمشروع الناصري لإظهار تلاحم المسيحي والمسلم هو فيلم "الناصر صلاح الدين" (1963) لمخرجه يوسف شاهين، والذي أتى على ذكر المسيحي للتأكيد على الوحدة الوطنية، متمثلة بصلاح الدين الأيوبي وعلاقته بذراعه الأيمن، عيسى العوّام،  في مواجهة الغزاة الصليبيين في فلسطين.

وكما عايش الأقباط في مصر منعطفًا منذ بداية إنشاء الدولة الحديثة على يد محمد علي باشا، وبداية نشوء مفهوم المواطنة من خلال مساعي الدولة الى المساواة في الحقوق والواجبات، وإزالة المظاهر الشكلية التي فرقت بين القبطي والمسلم في العصور التي سبقت محمد علي وعاملت القبطي على أنه ذمي، شهدت كذلك فترة السادات منعطفا لكن هذه المرة نحو الأسوأ بسبب رغبة السادات آنذاك بتوجيه ضربة الى التيارات اليسارية والناصرية من أجل محو الموروث الناصري، من خلال تشجيع صعود التيارات الإسلامية، وصياغة المادة الثانية من دستور 1971 على النحو التالي: "الإسلام دين الدولة، والشريعة مصدر التشريع"، الأمر الذي خلق نوعا من التباين والتفريق على مستوى الدولة متمثلا بهذا النص الدستوري ومراضاة  الجماعات الإسلامية. وإن فحصنا سينمائيا  في عقد السبعينات، لوجدنا نموذجا نادرا وجريئا يطرح قضية "الزواج المختلط" وحرية عدم الإيمان بالأديان السماوية، في شريط يعود لعام 1976 بعنوان "لقاء هناك". تدور أحداث الشريط حول عائلتين مصريتين قبطية ومسلمة، يغرم فيها الشاب المسلم (نور الشريف) بالفتاة المسيحية (سهير رمزي)، في ظهور كامل لرموز دينية مسيحية كالكنيسة والصليب،  بعد أن تعوّد المشاهد العربي لعقود على مشاهد الأفراح والزواج على يد المأذون، وعرض الطقوس والرموز الدينية الإسلامية فقط. لا تتكلل هذه العلاقة بالنجاح وسط اعتراض العائلتين، وتنقطع العلاقة العاطفية دون سابق إنذار درامي مبرّر، وتقرر الفتاة المسيحية الفرار إلى الكنيسة وتتحول إلى راهبة، بينما يتزوج الشاب المسلم من قريبته ويقتنع بوجوب عبادة الله والقيام بالفرائض الدينية، بعد تساؤلاته حول وجود الله طوال أحداث الشريط، وبهذا لا يكسر الفيلم أي محظور، سواء الزواج المختلط أو إمكانية عدم الإيمان بوجود قوة إلهية. وكأن الإيمان مقرون بعدم الزواج بين مسيحيين ومسلمين. ويغيب العربي المسيحي  كشخصية محورية عن السينما العربية لعقود ليعود في عقد التسعينات والألفينات في السينما المصرية واللبنانية والفلسطينية بتجارب عديدة  لمخرجين مختلفين بوجوه وأشكال متباينة.

في التجربة السينمائية اللبنانية تكتسب قضية العربي المسيحي بعدا مختلفا عن قرينتها المصرية، فالتركيبة السكانية مختلفة في الحالة اللبنانية، والتجربة التاريخية كذلك مغايرة، إذ أفرزت الحرب الأهلية واقعًا أليمًا كان له من الإسقاطات الإقتصادية التي أثرت على صناعة السينما، وكأن السينما عكست الحالة النفسية لدى اللبنانيين واستطاعت استرداد قدرتها على مواجهة وسرد قصص الحرب من خلال الأفلام الروائية الطويلة في أواخر التسعينات، من خلال فيلم "بيروت الغربية " (1998)  لزياد دوريري، الذي أرجع للأذهان حقبة بيروت المشظّاة والمقسمة، مثلها مثل جانب من علاقات المسيحيين والمسلمين آنذاك ، من خلال علاقة طارق (المسلم) ومي(المسيحية) يحاول المخرج أن يعيد بناء ما أفسدته الحرب، مع إظهار الرموز المسيحية والحوار المباشر والواقعي الذي يذكر المسيحي والمسلم دون خجل أو تململ. وبعده بعقد، تعود نادين لبكي بعده لتقدم شريطها "هلأ لوين؟" (2011) لتطرح في انتاجها الروائي الثاني، المشاحنات الطائفية في قرية لبنانية يسكنها مسلمون ومسيحيون، تقوم فيها النساء بدور قيادي لوقف ما يوشك أن يكون "حربا أهلية" جديدة، ولا تتوانى المخرجة الشابة عن إظهار مشاهد صادمة لتدنيس دور عبادة مسيحية كانت أو إسلامية، أو مشاهد عنيفة لشجار بين أبناء القرية الواحدة، للتحذير والتنبيه من مغبات الإقتتال الطائفي.

وحتى فلسطينيا بدأنا نشهد قصصًا تتعرض لحياة المسيحيين الفلسطينيين والتي لم نسمعها من قبل، في ظل واقع على الأرض يتحدث عن نزوح أو هجرة لعدد ليس بقليل لمسيحيي العالم العربي بما فيه فلسطين، تحديدا في القدس ومدن الضفة الغربية كرام الله وبيت لحم، لذا شهدنا فيلما كفيلم "أمريكا" (2009) للمخرجة الفلسطينية شيرين دعيبس، والذي تقوم فيه منى (نسرين فاعور) بالهجرة مع ابنها المراهق من رام الله الى أمريكا، هروبا من الإحتلال ومن وضعها الاجتماعي الصعب كإمرأة مطلّقة. قد يؤخذ على  ذاك الطرح الذي يزعم أنه لا متسع للفلسطيني المسيحي في فلسطين، ويتلخص الحل  في الهجرة إلى الدول الغربية، إلا أن الشريط يحاول دحض ذلك التوجه من خلال شخصية رغدة (هيام عباس) والتي تعبر عن ندمها جرّاء الانتقال الى العيش في الولايات المتحدة ومغادرة الوطن، ولما تتعرض اليه عائلتها من عنصرية كون العائلة عربية، ورغم كونها مسيحية، تتهم العائلة بالإرهاب ظنا من الأمريكيين انهم مسلمون. لا شك في أن الفيلم يعكس تجربة المخرجة كفلسطينية ولدت في الولايات المتحدة، لذا لا يستغرب أن يتناول شريطها الروائي الثاني "مي في الصيف" (2013) العملية العكسية، والعودة من أمريكا إلى الأردن، وزواج مي (شيرين دعيبس) من زياد - شاب مسلم- في ظل معارضة الأم المسيحية، وبذلك يبقى هاجس الهوية الدينية وعدم الإستقرار الجغرافي هاجسًا لدى دعيبس في كلتا التجربتين.

وكذلك نحن على موعد هذا العام مع فيلم "فيلا توما" للمخرجة سهى عراف. في تجربتها الروائية الطويلة الأولى تتطرق فيها عراف لقصة ثلاث أخوات مسيحيات يعشن في رام الله تحت وطأة الإحتلال، يجابهن عزلتهن الفردية عن العالم الخارجي من خلال أحداث درامية مشوقة، تحدد علاقتهن بابنة أخيهن القاطنة معهن، وتقيم علاقة مع شاب مسلم. 

أما مصريا، ونظرا لغنى التجربة السينمائية وغزارة انتاجها مقارنة بباقي سينمات الدول العربية، ولوضع مصر كأكبر دولة عربية تشكل النموذج في التعامل مع القضايا الكبرى وتصدّره سواء كان سلبيا أو ايجابيا، تعود شخصية القبطي لتظهر بشكل محوري في مجريات الشريط السينمائي في عقد الألفينات، كشريط "فيلم هندي" (2003) الذي يستعرض صداقة مسلم وقبطي من خلال شخصيتي عاطف وسيد، رغم سطحية الحبكة والتنفيذ السينمائي المتواضع في أحسن الحالات، إلا انها كانت محاولة لطرح أو إظهار القبطي على الشاشة إنما بالصورة المثالية نوعًا ما دون الولوج في المحظورات.

تمثلت المحاولة الأجرأ في الطرح بفيلم "بحب السيما" (2004) للمخرج أسامة فوزي، والذي منع من جهات كنسية  لعدة سنوات نظرًا لمحتواه الإشكالي. تدور قصة الفيلم حول أسرة مسيحية في ستينات القرن الماضي إبان النكسة، يعاني فيها الطفل العاشق للأفلام والسينما من صرامة الأب المتدين (محمود حميدة)، وتهويله لإبنه وترهيبه من العقاب إلى أن تنقلب طريقة تفكيره بعد النكسة في مشهد رمزي لموت "الإله" أو" الأب" جمال عبد الناصر، بما تحمله مفردة "الأب" من إسقاطات دينية مسيحية. تكمن أهمية الفيلم في تطرقه لحياة عائلة مسيحية متوسطة الحال وليست ببرجوازية، مشاركا جمهور المشاهدين بكادرات وديكورات لكنائس وصور المسيح والصلبان، صور لم يتعرض لها أي شريط بهذه الكثافة والجمالية، كاسرا السردية المهيمنة الوحيدة تقريبا في السينما المصرية، للتعبد في المساجد أو ذكر الادعية الإسلامية فقط. وإن دققنا لوجدنا أعمالا قليلة تطرقت لقضايا اجتماعية يعيشها الأقباط كقضايا صعوبة الطلاق، وهذا ما ناقشه في واحدة من قصصه المتشابكة فيلم "واحد صفر" (2009) للمخرجة كاملة أبو ذكري، من خلال قصة سيدة مسيحية (إلهام شاهين) تواجه صعوبة بالغة في الحصول على الطلاق من الكنيسة وتبقى عالقة في دهاليز القضاء الكنسي لنيل حقها في الطلاق في ظل جمود الكنيسة وعدم مصادقتها على طلاقها.

بعد ثورة يناير، وإثر الركود في الانتاج السينمائي واستيلاء المنتجين التجاريين على الشريحة الكبرى، لم تكن هناك محاولات عدة لتفكيك الوضع الإجتماعي وعرض واقع ما بعد الثورة، إلا في أفلام قليلة، ومنها فيلم "بعد الموقعة" ليسري نصر الله (2012) الذي تناول موقعة الجمل الشهيرة كركيزة للأحداث واصلا إلى أحداث ماسبيرو الدامية والأليمة، كاشفا مدى عنف السلطة الحاكمة  فترة حكم المجلس العسكري وسهولة التعسف والتحريض ضد الأقباط.

وجدير بالذكر كذلك فيلم "لا مؤاخذة" (2014) لمخرجة عمرو سلامة، والذي وجد الأطفال مدخلا سهلا كفيلم  محتذيا بفيلم "بحب السيما" لمناقشة قضية إشكالية، تخص طفلا قبطيا يتعلم في مدرسة ابتدائية حكومية، يتكشف من خلالها معاملة "الجموع" المسلمة مع الفرد القبطي في إطار مدرسي كوميدي. لكن من الصعب الإشارة الى هذا العمل كعمل مفكك وعميق في الطرح.

تأتي أهمية رصد وتفكيك الطريقة التي صور بها العربي المسيحي في الفنون عمومًا، والسينما تحديدًا، لكون السينما عنصرًا هامًا في تشكيل الوجدان الشعبي والجماعي، وكونها إحدى أذرع صناعة "الثقافة الجماهيرية " وما لها من رواج وتذويت لمفاهيم ورؤى لدى جموع المتلقين، ولا يخفى أن كان فيها الكثير من الإغفال والإجحاف بحق العربي المسيحي. تزداد أهمية الرصد والتفكيك في ظلّ التصعيد الطائفي في المنطقة العربية عموما، وبروز الاستقطاب الشديد الذي تقوم به الحركات الأصولية من جهة، وعدائها لمفهوم مدنية الدولة من جانب، وسيطرة خطابها الإقصائي لمن هو ليس مسلمًا تابعًا لملتها. وعلى الجانب الآخر، تبدّد  الدكتاتوريات "العلمانية" ذات الطابع العسكري، أي محاولة لحوار مجتمعي يؤكد على مدنية الدولة كقيمة جامعة وإعلاء صوت العدالة الإجتماعية وكسر الأفكار المسبقة، ما يؤدي بدوره الى إقصاء  كل من هو خارج عن الخطاب المهيمن، سواء كان دينيا أو سياسيا. هذان النهجان مجتمعان، يقودان إلى المزيد من التعقيدات والابتعاد عن الأسس الديمقراطية الضامنة للحريات ولبناء مستقبل يتيح التعددية على كافة أشكالها، بما لها من تأثير صحي وإيجابي على بناء الدولة العربية الديمقراطية المبتغاة بعد الحراك الثوري العربي. ويبقى السؤال إن كان الواقع العربي سيمضي نحو تأسيس هوية قومية ديمقراطية، يكون لها من التأثير الإيجابي على الطرح والتصورات السينمائية المستقبلية للإنسان العربي، دون إغفال أو تلافي فئة أو شريحة بعينها، والتأسيس لمناخ متعدد، لا يخشى من تفريغ وتفكيك واقعه في من خلال الفنون المختلفة، أم لا؟

 

التعليقات