أزمة تحقيق التراث.. الروتين يغتال المواهب

يعاني حقل تحقيق التراث أزمة حقيقية مع رحيل عباقرة وآباء تحقيق الكتب التراثية واحدا تلو الآخر، فلم يتبق من كبار المحققين الخبراء في علم تحقيق المخطوطات والكتب التراثية وفقا للقواعد العلمية، إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة.

أزمة تحقيق التراث.. الروتين يغتال المواهب

يعاني حقل تحقيق التراث أزمة حقيقية مع رحيل عباقرة وآباء تحقيق الكتب التراثية واحدا تلو الآخر، فلم يتبق من كبار المحققين الخبراء في علم تحقيق المخطوطات والكتب التراثية وفقا للقواعد العلمية، إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة.

كما أدى التراجع الثقافي العربي العام، وخروج دور راسخة في مجال تحقيق التراث من الساحة إلى احتكار الحكومات للعمل في مجال تحقيق التراث، مما أدى إلى تحول هذا العمل لوظيفة روتينية أو عمل إضافي للحصول على مكافآت مالية لأهل الثقة والحظوة لدى القائمين على المؤسسات الثقافية الحكومية، بالرغم من عدم امتلاكهم أدوات التحقيق العلمي، وحرمان المؤهلين والمتخصصين من العمل في هذا المجال.

وفي نفس الوقت تزدحم الساحة بالمدعين ممن حولوا علم تحقيق التراث الذي يقوم على قواعد علمية راسخة إلى مجرد "دكاكين" للتكسب، مما جعل الساحة تزدحم بأعداد تكاد لا تحصى من الكتب المحققة التي تتضمن أخطاء قاتلة مع مشاكل التكرار وسوء الاختيار.

و يعتبر الباحث العراقي في التراث العربي، د. خير الله سعد، أن التحقيق عملية إعادة ولادة لكتاب أو مخطوط ينحاز له المحقق بشكل معرفي، ويشير إلى أنه إذا كان المحقق أديبا فإنه ينحاز للمخطوطات الأدبية، وإذا كان لغويا فإنه يتجه صوب معاجم اللغة، وإذا كان مؤرخا فإن المحقق في هذه الحالة سيتجه إلى كتب التاريخ.

ويطرح د. خير الله رؤيته بتأكيده على ضرورة أن يكون المحقق ملما بثقافة موسوعية في كل العلوم المرتبطة بالتحقيق والتراث، ويقول: إن التراث العربي والإسلامي هو مزيج من كتب الدين واللغة والتاريخ والأدب والفلسفة، بالإضافة إلى الفقه والسير والأعلام، لذلك فيجب على العاملين في تحقيق التراث الإلمام بكل هذه العلوم بشكل موسوعي ومعرفي دقيق بما يحقق الأمانة العلمية في العمل الذي يقوم به المحقق.

خطوات دقيقة

ويعتبر د. خير الله سعد، أن هناك عدد من الخطوات يجب توافرها عند قيام المحقق بتحقيق نص ما، أولها أن يكون دارسًا لموضوع التحقيق، فإذا كان النص متعلقًا بعلم الفلك مثلاً، فلابد وأن يكون ملمًا بأبعاد وجوانب وتطور هذا العلم، وثانيها أن يكون ملمًا بحركة التأليف داخل هذا العلم، وثالثها الاختيار الدقيق للمخطوط الذي سيتم تحقيقه من حيث اختيار النص المهم، والذي سيمثل إضافة حقيقية للعلم، أما الخطوة الرابعة تتمثل في حصر النسخ الخطية للعنوان الذي سيحققه المحقق، ويكون ذلك من المكتبات المحلية أو العالمية ومراكز الوثائق المختلفة، وتأتي بعد ذلك الخطوة الخامسة التي تتمثل في تحديد النسخة الأصل أو الأم من بين النسخ الخطية التي حصرها المحقق، وبناء على ذلك سيتم الاعتماد عليها، بعدها يقوم المحقق بالتعريف بالأماكن والشخصيات والمصطلحات الواردة بالنص، وهذه هي الخطوة السادسة، والتي يعقبها مقارنة بين نص المخطوط والنصوص الموازية له للتأكد من صحته، وبالنسبة للخطوة الثامنة فتتمثل في تخريج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وأبيات الشعر إن وجدت، يليها إعداد فهارس وكشافات وافية حتى تكون مرشدًا ودليلا للباحثين بعد ذلك على أن تحوي هذه الفهارس والكشافات أسماء الأعلام والأماكن والشخصيات الواردة بالنص، وتأتي بعد ذلك الخطوة العاشرة والأخيرة والمتمثلة في كتابة مقدمة للتحقيق، تتضمن معلومات وافية عن المؤلف ومؤلفاته، مع شرح تفصيلي للكتاب وأهميته وعرض للمنهج العلمي والمستخدم في التحقيق.

ويشير مركز البحوث والدراسات الوثائقية، بدار الوثائق القومية، د. أيمن أحمد عمر، إلى أن هناك أشخاص يقومون بنشر كتب تراثية بزعم أنهم قاموا بتحقيقها، بالرغم من أن النص الذي ينشرونه لا يراعى أي شكل من أشكال التحقيق التوثيق العلمي، وهؤلاء الاشخاص يقومون بوضع اسماءهم على الكتاب مسبوقًا بصفة "محقق"، بل إن مثل هؤلاء الأشخاص قد يقومون، نتيجة لعدم دقتهم بقراءة الأسماء بشكل خاطئ، مما يترتب عليه اتهام أشخاص لا ذنب لهم، أو أن ينسب لهم أعمال لم يقوموا بها، أو أن يخرج النص الذي من المفترض أن يكون محققا مبتورا وغير مفهوم، وهذه ظاهرة منتشرة ولاتجد من يتصدى لها.

أهل الثقة

أما أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة، د. عبدالمنعم تليمة، فيعتبر أن تراجع تحقيق التراث يعود إلى التراجع الثقافي العام بحكم ما اعتبره احتكار الحكومات للشأن الثقافي، مما أدى إلى أن يتقدم أهل الثقة في كل المناصب على حساب أهل الخبرة في هذا المجال، بالرغم من أن أهل الثقة قد لا يمتلكون الأدوات العلمية الأساسية اللازمة للعمل في مجال تحقيق التراث.

اقرأ/ي أيضًا | مصر تسترد قطعتين أثريتين من إسرائيل

ويؤدي اشتغال غير المتخصصين في تحقيق التراث بهذا المجال إلى كوارث تشهدها كتب تحقيق التراث، بالإضافة إلى تجاوزات وأخطاء يحفل بها الواقع في مجال تحقيق التراث، وتتمثل هذه التجاوزات في نقطتين هامتين، الأولى تتمثل في إعادة طبع كتب تم تحقيقها سابقًا على يد أساتذة التحقيق وحذف أسمائهم وادعاء إعادة التحقيق، وذلك عن طريق إضافة بعض التعليقات الهزيلة على النص، أما الثانية فهي طبع المخطوطات للمرة الأولى طباعة سقيمة مليئة بالتجاوزات العلمية في مخالفة صريحة لمناهج التحقيق المعروفة، مع وجود هوامش وتعليقات مفككة تدل على أن من كتبها ينقل مباشرة من الكتب، وأنه لا يستطيع أن يتم جملة مفيدة أو عبارة من سطرين، ونتيجة لهذين الوضعين السابقين أصبح تحقيق التراث مهنة من لا مهنة له، حيث أصبح مليئًا بالدخلاء والأدعياء، وتحت وطأة البطالة انتشرت "دكاكين التحقيق" التي حولت التحقيق التراثي إلى تجارة ربح رخيص، فالمحقق كان يحتاج لسنوات لكي يتحقق من مخطوط واحد، أما الآن فإنه ينتهي منه في خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر.

التعليقات