مدينة الأشباح المدفونة "بيتريا"

ذُكرت بيتريا في مدونات آشورية وإغريقية قديمة، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن سكانها الميديين وثقافتهم، نظرًا إلى ندرة الوثائق المدونة التي تتحدّث عنهم، بالإضافة إلى غياب الشواهد التي تثبت وجود المدينة.

مدينة الأشباح المدفونة

تحت أطنان متراكمة من الحجر والتراب دفنت مدينة بيتريا التركية، والتي تشغل موقعًا جبليًا فريدًا، قرب بلدة بوجاز الحالية في ولاية تشوروم شرق أنقرة، وهي المنطقة التي عُرفت في القرون اللاحقة باسم كبادوكيا، تلك المدينة الأثرية العظيمة التي أحرقها الملك كرويسوس حاكم ليديا قبل 2500 سنة، بعد معركة فاصلة ضد الميديين عُرفت في التاريخ باسم معركة الكسوف.

ذُكرت بيتريا في مدونات آشورية وإغريقية قديمة، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن سكانها الميديين وثقافتهم، نظرًا إلى ندرة الوثائق المدونة التي تتحدّث عنهم، بالإضافة إلى غياب الشواهد التي تثبت وجود المدينة. وينتمي سكان بيتريا (الميديون) إلى مناطق شمال غرب فارس، وتمكّنوا بالتحالف مع البابليين من مقارعة الآشوريين وهزيمتهم في شمال العراق الحالي عام 612 ق.م، ثم توسّعوا غربًا وأسّسوا مدينة حصينة لهم على جبل كيركينيس سمّوها بيتريا، تحوّلت إلى مناطق لهم لغزو مناطق أخرى من الأناضول، بعد ذلك دخلوا في حرب مع مملكة ليديا الواقعة في الغرب استمرت خمس سنوات وانتهت بخسارة فادحة لهم.

يذكر هيرودوت، مؤلف كتاب “الحرب الشرسة” أو حرب الكسوف -كما يسمّيها البعض- نظرًا إلى حدوث كسوف كلي للشمس، بأن الملك كرويسوس انتهز فرصة كسوف الشمس وقام بإحراق مدينة بيتريا.

ويبدو موقع مدينة بيتريا وكأنه ملعب جولف مهمل، منزوك في كنف سلسلة من الجبال الوعرة، مطوق بخط جداري طوله سبعة كيلو مترات، واعتمد جيفري سامرس على أساليب مبتكرة لدراسة هذه المدينة الأثرية المحصنة، الموجودة تحت جبل كيركينيس الجرانيتي في وسط الأناضول، وقد أعانته البيانات التي تمكّن من جمعها ودراستها من تكوين تصوّر عن بناة هذه المدينة الأولين الغامضين.

كان هذا الموقع مادة للدراسة الأثرية منذ بدايات القرن العشرين، حيث تم تصنيفه حينذاك ضمن آثار العصر الحديدي، ولكنه أُهمل فترات طويلة فيما بعد، حتى أصبحت الدراسات المتوافرة عنه قبل مجيء جيفري سامرس تتسم بالسطحية وعدم المبالاة العلمية.

ولمدة عشر سنوات ظل العالم البريطاني جيفرني ساوسي يرسم مخططات المدينة الأثرية، واستعان بأحدث ما توصّلت إليه التقنيات الحديثة وقتها بمسح شامل للطبقات التحتية في الموقع الأثري، وتمكّن من رسم خريطة تقريبية لمدينة بيتريا الغامضة في التاريخ التي شُيّدت بالقرب من موقع عاصمة الإمبراطورية الحيثية القديمة.

وأيضًا تمكّن عالم الآثار جيفري سامرس من إنجاز مهمة بالغة الأهمية والتعقيد، تمثّلت في رسم خريطة بيتريا التفصيلية، واكتشف أن المدينة التي بقيت الأرض لمدة 2600 عام هي العاصمة الحدودية للميديين، ولم يستخدم سامرس في رحلة بحثه أدوات علم الآثار التقليدية، ولكنه لجأ إلى استعمال منطاد هوائي حار وحجرة معزولة، واستطاع أن يكوّن صورة متداخلة عن الموقع أعقبتها دراسة جيومغناطيسية، واستطاعت حملة التنقيب التي قادها إلى تحديد مواقع الجدران والأبواب وأشياء أخرى كشفتها الإشارات المغناطيسية.

وقال سامرس: إن فريق البحث قام بوضع خارطة دقيقة للمدينة، إلى درجة يمكن فيها تدقيق التفاصيل بين نقطتين، حيث إن التفاصيل التي حصلنا عليها مثل الحواجز الفاصلة بين أماكن سكن وجهاء المدينة والفئات السكانية الأقل ثراء، وكذلك أماكن المباني عسكرية الطابع، هذه كلها وفّرت لنا معلومات قيّمة عن حياة المدينة اليومية.

ويقول: إنه تعرّف إلى موقع المدينة لأول مرة عام 1984، وحاول كثيرًا اكتشاف عظمة المدينة الكامنة تحت الأرض، والتي لم يستطع أحد من علماء الآثار فك شفرة المدينة الأسطورية القديمة.

ويشير سامرس إلى أن المدينة مترامية الأطراف ذات بنية شديدة التعقيد، وكان الإغريق يبنون فيها مستوطناتهم في أنحاء متفرقة في حوضي البحرين المتوسط والأسود، ويوضح أن اكتشاف بيتريا سدّ فراغًا كبيرًا لدى دارسي تاريخ تخطيط المدن القديمة.

وقد دلّت التقنيات التي قام بها جيفري سامرس مع فريقه على أن المدينة الموجودة تحت التراب قد احترقت فعلًا قبل تهدّمها النهائي، حيث وجد جيفري شواهد من الجير الأسود بفعل تأثير النار المشتعلة، ويقول جيفري: الموقع فريد من نوعه لأنه صُمّم ليكون عاصمة لإمبراطورية عظيمة، لكنه هُدم وأُحرق بعد أن سكنه الناس فترة زمنية لا تتعدّى الجيلين.

وبعد خرابها ظلت المدينة غير مأهولة، وهذا ما حفظ التصميم الأولي لها من دون تأثير أيّ عامل خارجي أو طارئ، ويبيّن فكرته بالتذكير بأن معظم المواقع الأثرية الأخرى في العالم القديم بقيت مأهولة بالسكان فترات طويلة، فطرأت عليها تغييرات كثيرة في البنية العامة.

إن السمة الأكثر تمييزًا لهذا الموقع هي حجمه الهائل، حيث يتبع هذا الشريط الصخري الطويل المتطابق مع أساسات جدارات الأسوار القديمة حواف قمم التلال على امتداد سبعة كيلو مترات، الموقع في حد ذاته جبلي وعر مليء بالمنحدرات.

هناك روايات متناقضة عن مآثر الميديين وبطولاتهم التي وردت عند هيرودوت، دفعت بعض المؤرخين إلى التشكيك في وجود الإمبراطورية الميدية نفسها، لكن جيفري سامرس واثق تمامًا بأن هذه المدينة المهجورة، كانت شاهدًا مبكرًا على التبادل الحضاري بين العالمين الشرقي والغربي، وهو يقول: من وجهة نظر علماء الآثار نفتقر في الواقع إلى معلومات كافية عن الميديين، وهنا تكمن أهمية هذا الموقع، حيث سيتيح لنا فرصة الغوص في تفاصيل حياتهم وثقافتهم، مؤكدًا من وجهة أخرى صدق ما أورده المؤرخ هيرودوت.

هذه المدينة الواقعة على ارتفاع 1500 متر، والمعرّضة لهبوب الرياح المتجمدة والعواصف الثلجية، هذه القلعة الحصينة امتازت بموقعها الاستراتيجي، المطل مباشرة على سهول كبادوكيا، وعلى الطريق المؤدية إلى البحر الأسود شمالًا والمتوسط جنوبًا مرورًا بجبال طوروس، كانت محاطة بجدار من الأسوار، تبرز فيها سبع بوابات ضخمة.

اقرأ/ي أيضًا| مسجد حسن بك.. شاهد على عروبة يافا

وتمكّن فريق أثري من التنقيب عن بوابة تُدعى كبادوكيا، وهي محاطة ببرج دفاعي، وواجهة تمثّل القصر المنيع، لقد تحوّل خزانا المياه القديمان إلى بحيرتين، تجتذبان الطيور والضفادع، وتُستخدمان كمصحتين علاجيتين يستفيد من خدماتهما السكان المحليون.

التعليقات