أزمة تأريخ ومؤرخين تهدد العالم العربي

عاني المؤرخون في العالم العربي من النقص الشديد للوثائق الرسمية التي يمكن الاعتماد عليها للتأريخ للأحداث التي مرت على العالم العربي قبل الدولة العثمانية، على الرغم من الجهود التي بذلت لتغطية هذا النقص.

أزمة تأريخ ومؤرخين تهدد العالم العربي

يعاني المؤرخون في العالم العربي من النقص الشديد للوثائق الرسمية التي يمكن الاعتماد عليها للتأريخ للأحداث التي مرت على العالم العربي قبل الدولة العثمانية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلت لتغطية هذا النقص، إلا أنه يمكن القول إنه لا توجد مجموعات أرشيفية لمؤسسات الدولة في الفترات السابقة على العصر العثماني، ولم يصل من تلك الوثائق العربية منذ القرن السابع وحتى القرن السادس عشر الميلادي ما يشير إلى تلك المعاملات، إلا من خلال الكشوف الأثرية أو مجموعات بعيدة عن الأرشيف الرسمي للدولة، بما يعني أن هناك غموض حول الحقائق التاريخية التي شهدتها مصر ودول عربية أخرى مرتبطة بها خلال هذه الفترة التاريخية الهامة، خاصة أن مناطق مثل الحجاز والشام والسودان والمنطقة الشرقية من ليبيا المعروفة باسم برقة كانت مرتبطة بالأحداث التي تجري في مصر.

وهذا الوضع جعل من الصعب كتابة تاريخ العالم العربي من خلال وثائق يمكن الاعتماد على مصداقيتها وسلامتها من الناحية القانونية والتاريخية، وهو ما دفع مؤرخون وباحثون في تاريخ مصر في المرحلة الوسيطة من العصر العثماني للاعتماد بشكل كبير على كتابات الرحالة الأجانب، والتي يمكن اعتبارها في جانب كبير منها كتابات انطباعية وغير موثقة علميا، بما جعل هذه الفترة مسكوتا عنها تاريخيا من الناحية العلمية.

ويشير الباحثون في نفس الوقت إلى وجود تناقض ظاهر بين التدوين المبكر للوثائق في الحضارة العربية الإسلامية، وبين الكم المحدود من تلك الوثائق الذي وصل إلينا في هذه الفترة الغامضة من تاريخ العالم الإسلامي، حيث أن الدلائل التاريخية تؤكد أن الحضارة العربية عرفت تدوين الوثائق في المعاملات الرسمية للدولة منذ القرن السابع الميلادي، مع ظهور الدولة الإسلامية في عصورها الأولى، وهو ما يفرض على المؤرخين والباحثين المصريين المهتمين بهذه الفترة من تاريخ مصر بذل جهد علمي مكثف لتغطية هذا النقص في الوثائق التاريخية التي تتصل بتاريخ مصر والدول العربية والإسلامية المرتبطة بها في هذه الفترة.

الرحالة الأجانب

وفي هذا السياق، يحذر المتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه، د. يوسف زيدان، من أن غياب الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها في كتابة التاريخ ينتج عنه أن تتعرض فترات تاريخية هامة في تاريخ مصر أو الدول العربية والإسلامية إلى عملية من تزييف الحقائق أو إسقاط جزء هام من هذه الحقائق، بما يؤكد على أهمية وقيمة الوثائق التاريخية، وخاصة ما يتعلق بكل عصر أو حقبة زمنية يتم التأريخ لأحداثها أو الكتابة عن أهم الأحداث والوقائع في هذه الحقبة التاريخية.

ويتفق مع ما سبق، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، د. محمد الحناوي، معتبرا أن هناك حاجة لتوفير وثائق كل فترة من فترات التاريخ المصري المرتبط بتاريخ العالم الإسلامي، وفي إشارة إلى غياب أية وثائق حول تاريخ ما قبل الدولة العثمانية في مصر، أن العلماء المصاحبين للحملة الفرنسية حاولوا إيجاد بديل لهذه الوثائق بأن دونوا التفاصيل الدقيقة عن موقع المدن المصرية الكبرى وحدود عمرانها وشوارعها وأحيائها والقصور والمقاهي والتكايا الموجودة في تلك المدن.

وقال تابع الحناوي، إن هذه الوثائق الفرنسية لا تكفي لدراسة تلك المدن، بل يلزم الاعتماد على مصادر أخرى، منها وثائق المحاكم الشرعية لهذه المدن، مع الاعتماد على كتابات الرحالة الأجانب في مصر خلال القرن الثامن عشر، كما أشار إلى أنه قام بدراسة وثائق أخرى فيما يتعلق بمظاهر الحياة الاجتماعية والأسرية للمجتمع المصري على امتداد طوائفه وعلمائه ومثقفيه.

 وتابع الحناوي، أن الوثائق الفرنسية قصرت عن بلوغ تلك الغاية، حيث لم يتمكن علماء الحملة من التوغل في كيان المجتمع المصري، فيما ارتكزت كتاباتهم على بعض الاحتفالات القومية، مثل وفاء النيل والأعياد الدينية الأخرى، والتي قاموا بوصف بعض مظاهرها ومدى مشاركتهم فيها من أجل التقرب من المصريين، وتعبيرا عن تطبيق سياسة بونابرت الإسلامية في مصر.

أهمية قانونية

أما الأستاذ بجامعة الأزهر، د. مكرم عبدالفتاح نوفل، فيطرح جانبا آخر من هذه القضية الشائكة، وهو الجانب الذي يتعلق بالأهمية القانونية لمثل هذه الوثائق، وما يمكن أن تترتب من حقوق تاريخية وقانونية تمس مصالح دول عربية، ارتبطت بالدور المصري في هذه المرحلة التاريخية التي لا يوجد توثيق أرشيفي أو قانوني لها.

ويضرب د. مكرم مثالا بفترة تالية على هذه الفترة وهي الفترة العثمانية، حيث لعبت الوثائق التاريخية الخاصة بطابا دورا كبيرا في استعادة مصر هذا الجزء من الأرض من قبضة إسرائيل بفضل توافر وثائق تاريخية في هذه الفترة، وهي الوثائق التي وثقت أزمة طابا، والتي تفجرت منذ عام 1892 عندما كانت مصر ولاية عثمانية، حيث صدر فرمان تولي الخديوي عباس حلمي الثاني، والذي تضمن حدود مصر حسب فرمان كان قد صدر منذ 51 عاما، وينزع هذا الفرمان مناطق العقبة وضبا والوجه والمويلح من مصر، وكان التفسير العثماني لهذا الفرمان يشير إلى أن هذه المناطق لم تكن تدخل ضمن حدود مصر في فرمان سنة 1841، بينما كانت متروكة لها فقط لتيسير سفر “حجاج البر” الذين يمرون بها دون أن يكون لها حق الاحتفاظ بها.

وذكر أن هذا التفسير أثار حفيظة مصر وإنجلترا، لكن هذه الأزمة نتيجة للضغوط التي مارستها إنجلترا على الباب العالمي، انتهت بتسوية تتضمن تخلي مصر عن العقبة ومناطق الضبا والمويلح والوجه، مقابل اعتراف الدولة العثمانية بأن خط حدود مصر يمتد من شرق العريش إلى غرب العقبة، واتفاق الأطراف المختلفة على تعيين الحدود المصرية بناء على هذه التسوية، التي اعتمدت على أساس الوجود المصري الثابت في شبه جزيرة سيناء.

اقرأ/ي أيضًا | الخط العربي... روح الخطاط

أما الأزمة الثانية التي وثقت لها هذه الوثائق وتتصل بمصالح مصر والجغرافية السياسية للعالم العربي بشكل عام، فقد تفجرت بعد احتلال قوة عثمانية في 21 يناير سنة 1909 طابا ومركزي نقب العقبة والقطار، ومنعت قوة من خفر السواحل المصرية من النزول إلى البر، وبعد تدخلات من جانب إنجلترا وضغوطات مارستها على الوجود العثماني في ذلك الوقت، انسحبت القوات التركية من طابا، ووافقت على تكوين لجنة لتعيين الحدود المصرية، وتحدث بعد ذلك عن مجموعة أخرى من الوثائق خاصة بأزمة طابا، والتي كانت أطرافها مختلفة بعد تطبيق معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والتي حاولت أن تحقق مصالح حدودية عن طريق تغيير وضع العلامات الخاصة بحدود مصر الشرقية أثناء عملية تنظيم وضع العلاقات الدولية بين الجانبين طبقا لمعاهدة السلام التي وقعها الجانبان في سنة 1979، لكن الجانب المصري تمكن بفضل ما توافر له من خبراء تاريخيين وقانونيين وجغرافيين ودبلوماسيين ووثائقيين، من إبطال المحاولة الإسرائيلية، وقد قضت هيئة التحكيم الدولي التي كانت تنظر هذه القضية من الاعتراف بحقوق مصر في طابا.

التعليقات